لا أعرف كيف تتم كتابة تقرير صحفي، ولم أقم يومًا بذلك. يبدو الأمر بسيطًا؛ أتصور أنه مجرد تتبع لحكايات تمتد في طريق الفكرة، التدقيق في تفاصيل أمر يحدث والإمعان في مضمونه، الغوص في عمق قضية أو مشكلة تطرأ على الساحة، صياغتها أخيرًا بشكل يلفت نظر القارئ. قرأت الكثير من التقارير الصحفية التي تضمنت العديد من القضايا العامة، تقريبًا لم يعد هناك أي قضية مهملة، السطور أدّت واجبها وازدحمت بها، الشيء الوحيد الذي ظل فارغًا هو الواقع، الوضع لا يتغير، القصص تمتد وتمتد في سلسلة طويلة، الرصيف لا تنتهي حكاياته، المشردين في تزايد، السرقة، النهب، الظلم، وحتى رغيف الخبز يصغر ويتلاشى يومًا بعد آخر!
اليوم قررت تجربة كتابة تقرير صحفي، لكن الأهم أن أجرب إن كنت سأنجح في إيصال فكرة، أو على الأقل، الشعور بقيمة ذاك القرص الذي يعني الكثير للكثيرين، الذين لا يمتلكون سواه. الساعة الآن تمام السابعة مساء، المكان أمام أحد الأفران في إحدى زوايا صنعاء، أقف في صمت أراقب العابرين بمحاذاته، يتوقف البعض أمام البائع المنهك من أثر حرارة النار المشتعلة، يحملون أكياسًا تمتلئ بأقراص "الروتي"، و"الكدم"، والرغيف الأبيض أو الأسمر، كل بحسب رغبته، وتتناهى إلى سمعي بعض الأصوات.
يواصل الأشخاص تدافعهم أمامي وأواصل مراقبة ملامحهم، أقرأ فيها الكثير من الهموم، أراها ترتسم جلية على وجه رجل كبير يحمل كيسًا فيه كومة من العلب الفارغة، أتخيل كم قضى من ساعات وهو يحاول ملْأه، بكفه المرتعش، يخرج ورقة مئة ريال مهترئة، يناولها للبائع الذي يأخذها بتقزز ويعيدها إليه قائلًا: "هذي ما تمشيش يا حاج"، "ما معي غيرها يا ابني"، "الله يفتح عليك يا حاج، الله كريم".
لو كنت بارعة في تصوير المشاهد، لكتبت كيف كانت وقفة الرجل البسيط تمثل لوحة يمكن عنونتها بالحرمان، وكيف بدا اهتزاز كفه الممتدة بورقة نقود مرّت بالكثير من القصص التي أوصلتها لتلك الحال حتى باتت لا قيمة لها
يتدخل آخر، "حرام عليك يا رجل، أنت تشوف كيف حالته، خلاص جيب له حاجته وبحاسبك أنا". أمتنّ كثيرًا لذلك الموقف، وكأنني سأعود للبيت وفي يدي كيس خبز دافئ. يمضي الرجل، لكني لا ألمح في وجهه ملامح السعادة إلا بقدر يسير يشبه حجم ذلك القرص الذي يتدلى إلى جانب كيس العلب المهترئ.
لست بارعة في تصوير المشاهد، لو كنت كذلك لكتبت كيف كانت وقفة الرجل البسيط تمثل لوحة يمكن عنونتها بالحرمان، لصورت لكم حركة اهتزاز كفه الممتدة بورقة نقود مرّت بالكثير من القصص التي أوصلتها لتلك الحال حتى باتت لا قيمة لها. أظن بأن دموع من عبرت بهم كانت سببًا في محو قيمتها، كنت سأصور لكم مدى تلك القسوة التي رافقت كفّ البائع أثناء إعادة المئة ريال لصاحبها المصدوم، وكيف بدت تعابير الوجه المنهك للرجل المسن وتدافع أفكاره، خصوصًا تلك الفكرة التي لا بد أنها كانت تقول: كيف أعود دون خبز؟ وهل سنحتمل الجوع هذه الليلة؟
أعرف بأن كتابة تقرير صحفي لا تناسبني، لذلك قررت كتابة ما رأته عيني، وما يهمني هو أن تترجم كفي لغة روحي التي تراقب في لحظة عابرة قصصًا يعيشها غيري، وأراها تستحق التوقف أمامها والغوص في مضمونها.
رغيف الخبز كان يبدو اليوم غير راضٍ عن بائعه، كان يدرك بأنه لن يؤدي رسالته، لن يُسكت صراخ أمعاء الجوعى، كان يعرف بأن تلك النقود التي دُفعت مبللة بعرق الكادحين لا تستحق أن تدخل صندوق الفرن، رغم معاناة صاحبه التي لا تنتهي، لا تستحق أن تدخل جيوب الدولة.