ما بين موشحين يمنيين

مقاربة تحليلية لـ " حالي واعنب" و " ما وقفتك "
جابر علي أحمد
September 14, 2024

ما بين موشحين يمنيين

مقاربة تحليلية لـ " حالي واعنب" و " ما وقفتك "
جابر علي أحمد
September 14, 2024
.

الموشح صيغة شعرية غنائية ظهرت في القرن التاسع الميلادي في الأندلس. يختلف الباحثون كثيرا في أول الوشاحين. على أنّ الدكتور عدنان صالح مصطفى مؤلف كتاب (الجديد في فن التوشيح) يرى أنّ (زرياب) في الأندلس ربما هو أول من ابتدع هذا الشكل الجديد، بعد أن أدرك أن القصيدة الخليلية لم تعد قابلة للانطلاقات الغنائية التي كانت تداعب خياله الموسيقي.

وغنيٌّ عن البيان القول إنّ زرياب نفسه وجد في الأبنية الغنائية الشعبية في الأندلس، وخاصة أغاني النساء مرجعية أساسية لاستلهام شكل الموشح. ولأنّ زرياب كان شاعرًا وملحنًا ومغنيًا فقد ساعده ذلك على بلورة شكل شعري فيه من التنوع البنائي ما يجعله قابلًا لمرونة موسيقية تفتح الباب واسعًا لزخم نغمي يتجاوز الرتابة التي كانت عليها صيغة (الصوت) التي سادت في سنوات الخلافة الإسلامية. إذن، فاستلهام المرجعية الغنائية الشعبية في صياغة الموشح كان ملمحًا ملازمًا لهذا القالب منذ بداية تشكله. من هنا نفهم تعريف ابن سناء الملك للموشح عندما قال: "الموشح كلام منظوم على وزن مخصوص"، في إشارة قوية إلى تجاوز الأبنية الشعرية للموشح لدوائر الخليل بن أحمد.

منذ الدولة الأيوبية، بات الموشح هو الصيغة التقليدية التي طبعت التجربة الشعورية الموسيقية اليمنية بميسمها، بل وبات صدى هذه الصيغة ماثلًا في تجارب معظم الشعراء والموسيقيين المجددين الذين ربما أبرزهم في العصر الحديث الأمير أحمد فضل بن علي محسن العبدلي (القمندان).

وفي اليمن، فقد عثر الباحث الفقيد عبدالله خادم العمري على موشح منسوب إلى الشيخ الصوفي أبي بكر بن عيسى بن حنكاش يعود تاريخه إلى الدولة الأيوبية في القرن الثالث عشر الميلادي. عنوان الموشح هو (تقول عاد الأحباب). وعند قراءة هذا النص نجده يتوفر على أجزاء الموشح اليمني الكامل منذ ظهوره وحتى العصر الراهن. 

ثمة إشارة أرى ضرورة التنويه بها، وهي أن التنوع الداخلي للموشح يختلف من منطقة جغرافية إلى أخرى. ففي حين أن الموشح الأندلسي يتكون من:

  • مطلع
  • بيت 
  • قفل 
  • خرجة 

فإن الموشح المصري مثلًا يتكون من: 

  • بدنية أولى 
  • بدنية ثانية 
  • خانة 
  • تقفيل 

أما الموشح اليمني الكامل فيتكون من:

  • بيت 
  • توشيح 
  • تقفيل أو تقميع 

ومنذ الدولة الأيوبية بات الموشح هو الصيغة التقليدية التي طبعت التجربة الشعورية الموسيقية اليمنية بميسمها، بل وبات صدى هذه الصيغة ماثلًا في تجارب معظم الشعراء والموسيقيين المجدّدين، الذين ربما أبرزهم في العصر الحديث الأمير أحمد فضل بن علي محسن العبدلي (القمندان).

وبالعودة إلى عنوان المقال، فقد استحضرت موشحَين يمنيين لشاعرين في عصرين مختلفين، هما: الشاعر علي بن محمد بن أحمد العنسي (ت ١٧٢٦)، حيث اخترت قصيدته الموشحة المعنونة بـ(ما وقفتك). يقول البيت الأول للموشح: 

ما وقفتك بين الكثيب والبان

ولفتتك نحو النقا ونعمان 

إلا ولك بين الخيام أشجان

فاشرح هواك أن كنت صب ولهان

يتكوّن هذا الموشح من مجموعة أبيات، وكلّ بيت يتكون من أربعة أشطُر. وهذا يعني أنّ هذا الموشح يدخل في إطار الموشحات غير الكاملة، ويطلق عليها الموشحات القرعاء. بمعنى أن الموشح الذي لا يتكون من الأجزاء الكاملة، التي هي: بيت، توشيح، تقفيل أو تقميع، يدخل في إطار الموشحات القرعاء.

ملحن هذا الموشح -مع الأسف- مجهول. وهنا ينتصب أمامنا ضرر معنوي كبير لملحن هذا العمل. على أنّ اللحن ظل يتناقل من جيل فني إلى آخر، حيث سجل في أسطوانة شمعية بصوت الفنان صالح عبدالله العنتري.

يتحرك هذا الموشح في تفعيلة ثلاثية، هذا بيانها:

ما وقفتك بين الكثيب والبان 

مستفعلن مستفعلن فعولان

وهذه التفعيلة الثلاثية ظلت ملازمة لكل أشطر أبيات الموشح.

ومن الناحية الموسيقية فقد صيغ هذا الموشح من مقام الحجاز الكبير، وعلى إيقاع إحدى عشرة على ثمانية (ضرب الدسعة الكبيرة). يتحرك هذا الموشح في مساحة صوتية تتجاوز الديوان الموسيقي (الأوكتاف)، بمعنى أنه نسج لحنيًّا بحرفية موسيقية تعكس مهارة عالية. بصوت صالح العنتري.

مقام موشح "حالي وا عنب رازقي" عراق على درجة السيكاه، وإيقاعه ستة على ثمانية، وفق تقسيم رقصة شرح لحجي وسط. تمتع تنسيج هذا الموشح بانسيابية مدهشة وسياق منطقي داخلي، يجعل المستمع في حالة حضور وجداني عجيب. ولعل هذا ما دفع كثيرًا من الفنانين اليمنيين إلى غنائه.

أما الموشح الآخر فهو (حالي يا عنب رازقي): 

يا قلبي تسلَّى على 

ساجي الطرف ظبي الحلى

وانتِ يا سحابة ابرقي

كتب هذا الموشح ولحّنه الأمير أحمد فضل العبدلي (القمندان)، (ت ١٩٤٣). بصوت فضل اللحجي.

يتكون هذا الموشح من مجموعة أبيات أو كما يسميها هو (أدوار)، لكل دور ثلاثة أشطُر. وللأمير القمندان تجربة فنية خاصة في صياغة موشحاته، حيث إنه في موشح (يابو زيد) مثلًا، تبنى هذا التجزيء: دور، توشيح، لازمة، تقفيل. ووفقًا لهذا المبنى، يعتبر هذا الموشح كاملًا، ولكن على الطريقة القمندانية.

غنّى هذا الموشح كثيرٌ من الفنانين، لعل أبرزهم هو فضل محمد اللحجي، الذي رافق القمندان في تجربته الفنية الخاصة.

يتحرك هذا الموشح تفعيليًّا على هذا النحو: فعلن فاعلن فاعلن.

أما موسيقيًّا فمقامه (عراق على درجة السيكاه)، وإيقاعه ستة على ثمانية وفقًا لتقسيم رقصة (شرح لحجي وسط). تمتع تنسيج هذا الموشح بانسيابية مدهشة وسياق منطقي داخلي يجعل المستمع في حالة حضور وجداني عجيب. ولعل هذا ما دفع كثيرًا من الفنانين اليمنيين إلى غنائه.

تلك مقاربة تحليلية بسيطة لموشحين يمنيين في زمنين مختلفين، لعلّي بذلك أكون توفقت في تسليط ضوء معرفي عليهما من باب تعميق فهم هذه الصيغة التي ما زالت تتقاذفها أمواج أُمّيّتنا الموسيقية.

•••
جابر علي أحمد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English