كلُّ حاضرٍ هو امتداد لماضٍ وبداية لمستقبل، ومعنى ذلك أن حاضر المجتمع -أيّ مجتمع- في أيّ زمانٍ ومكان، يعيش دائمًا حالة تدافع بين قوى مشدودة إلى الماضي وأخرى متطلعة إلى المستقبل، مع ملاحظة أنّ القوى الماضوية دائمًا لا تخلو من تطلعات مستقبلية، وأنّ القوى المستقبلية ليست متحررة تمامًا من تأثير الماضي عليها. وفي الوقت نفسه ليست القوى الماضوية على مستوى واحد من حيث انشدادها إلى الماضي وإنما هي في ذلك أطياف على يمين الحاضر، بينها من يذهب بعيدًا مغاليًا في ماضويته، ومن هو قريب إلى الحاضر، ومن هو وسط بين هذا وذاك. وقل مثل هذا عن القوى المستقبلية التي هي الأخرى أطياف على يسار الحاضر بينها من يذهب بعيدًا متطرفًا بأحلامه، ومن هو قريب إلى الحاضر، ومن هو وسط بين هذا وذاك.
وهذا توصيف أتينا به لنعطي أنفسنا -ولأغراض التبسيط والإفهام ليس إلا- حق فرز القوى الماضوية مبدئيًّا إلى ثلاثة أطياف، هي: يمين اليمين، ووسط اليمين، ويسار اليمين. وقل مثل هذا عن القوى المستقبلية التي يمكن فرزها مبدئيًّا إلى: يسار اليسار، ووسط اليسار، ويمين اليسار. وليست هذه الأطياف شيئًا سوى أنها أزمنة ثقافية نسبية تتفاوت مواقعها على دالة تطور المجتمع الواحد. فعندما نقول "يمين اليمين" فنحن عمليًّا نشير إلى زمن ثقافي في نقطة ما من الماضي المنظور ثقافيًّا (العصر العباسي مثلًا) له امتداد من نوعٍ ما في الحاضر، وهذا الزمن الثقافي الماضوي يرتب بالضرورة مزاجًا سياسيًّا معينًا لجمهور واسع من الناس -عشوائي في الغالب- من السهل حشده خلف نخب سياسية ماضوية تتولى قيادته إلى حيث تريد هي. وعندما نقول "يسار اليسار" فنحن عمليًّا نشير إلى نقطة ما في مستقبل أصبح منظورًا وله جاذبية من نوعٍ ما (الاتحاد الأوروبي مثلًا)، وهذا الزمن الثقافي المستقبلي يرتب بالضرورة مزاجًا سياسيًّا معينًا لفئات من الجمهور تصطف خلف نخب سياسية تقودها إلى حيث تريد.
أما ما يتعلق بميزان القوى بين أصحاب النزعات الماضوية وأصحاب النزعات المستقبلية في المجتمع الواحد، فهذا يتوقف على مستوى تطور الهياكل الكلية للنظام الاجتماعي في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والعقلية. وحتى لا يفضي التدافع بين هذه القوى إلى تعثر المجتمع في سلَّم التطور والحكم عليه بالصراعات العنفية الدورية وعدم الاستقرار السياسي، جاءت الديمقراطية واعتبرت القوى الماضوية والقوى المستقبلية جناحين لمجتمع واحد يستحيل عليه الإقلاع الحضاري إلا بهما معًا. وعلى هذا الأساس قامت الدولة الحديثة التي وضعت وطورت الهياكل المؤسسية والقانونية للعيش المشترك القائم على التوافق والتفاهم والقبول المتبادل والتأطير العقلاني للتدافع، وتحويله من آلية للصراع التناحري الدوري إلى آلية للبناء التعاضدي الدائم.
في ضوء ما سبق، سنحاول تقديم قراءة سياسية مقتضبة للحاضر الذي شكّلته في اليمن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، وكيف ألقى ذلك الحاضر بظلاله الكثيفة على الحياة السياسية في هذا البلد منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
كل الكتابات التي انشغلت بثورة 26 سبتمبر والدفاع عنها ذهبت تتحدث عن الانقسام السياسي الكبير تجاه الثورة إلى جمهوريين معها وملكيين ضدها، وقد أدى هذا الفرز إلى خلط كثير من الأوراق، ولعب دورًا كبيرًا في التعمية على حقيقة الصراع وعدم إدارته جمهوريًّا بالشكل الذي يحقق أهداف الثورة. أما الجمهورية في هذا الفرز فقد كانت مجرد شعار أيديولوجي يتساوى فيه الجمهوريون الذين ثاروا ضد نظام الإمامة القروسطي لتجاوز الحاضر المتخلف إلى مستقبل متقدم، والجمهوريون الذين أرادوا فقط التخلص من بيت حميد الدين والتعاطي مع الجمهورية كلافتة تمنحهم مشروعية الحلول محلها مع البقاء في الحاضر بعد تعديله سياسيًّا بشعارات مستعارة من المدونة الفقهية الماضوية من قبيل "الشورى" وحكم "أهل الحل والعقد".
الجمهورية انبثقت في مناخ صراعي أفضى إلى نظام سياسي قائم على مركزية تعاضدت فيها الجهوية مع المذهبية لنفي أي شكل من أشكال الشراكة الوطنية الحقيقية مع مكونات مجتمع الشمال حتى قيل عن هذه الجمهورية إنها "دَيمَة تغيَّرَ موقعُ بابِها" في إشارة إلى حلول شيخ القبيلة محل السيد الهاشمي مع بقاء الهضبة القبَلية الزيدية في الشمال هي صاحبة الهيمنة على كل البلاد.
والحقيقة أنّ الانقسام الكبير الذي أحدثته ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، لم يكن بين جمهوريين وملكيين إلا في الظاهر أما في الجوهر فقد كان بين قوى ماضوية تقليدية وقوى مستقبلية حداثية بمقاييس واقع اليمن آنذاك. وقد تألف المعسكر الملكي من ماضويين خُلَّص معادين للجمهورية ومتشبثين بالحاضر لصالح إمامة بيت حميد الدين، بينما تألف المعسكر الجمهوري من مستقبليين حداثيين وماضويين تقليديين. وفي هذا المشهد واجه الجمهوريون الحداثيون ثلاثة أنواع من التناقضات:
(1) التناقض الأول كان بينهم وبين القوى الماضوية التقليدية التي التقت داخل المعسكر الملكي. ولأن هذا التناقض كان مكشوفا ببعديه الثقافي والسياسي فإنه-رغم حدِّيته وشراسته-كان الأقل خطرا على مستقبل الجمهورية بالنظر إلى الدعم العسكري الكبير الذي حظيت به ثورة 26 سبتمبر من قبل مصر عبد الناصر من ناحية، وبالنظر إلى الحاضنة الشعبية الواسعة التي آزرت الثورة ومدتها بآلاف المقاتلين الذين تمكنوا من دحر الملكيين وإسقاط حصار صنعاء بعد خروج الجيش المصري من اليمن.
(2) التناقض الثاني كان بين الجمهوريين الحداثيين من ناحية وبين القوى الماضوية التقليدية التي اصطفت سياسيًّا مع الجمهورية لتشكل ثورة مضادّة من داخل الثورة. والحقيقة أنّ هذا التناقض كان هو الخطر الأكبر الذي أمسك بخناق الجمهورية وصادر مستقبلها وأمَّمَها إلى اليوم. ولبيان هذا الأمر نلفت عناية القارئ اللبيب إلى الحقائق التالية:
(أ) اصطفاف جزء من القوى الماضوية التقليدية مع الجمهورية كان اصطفافًا سياسيًّا محسوبًا بدقة، أما من الناحية الثقافية فقد كانت الوشائج التي توحد هذا الجزء نفسيًّا واجتماعيًّا مع الملكيين أكثر بما لا يقاس من تلك التي توحدهم مع الجمهوريين الحداثيين.
(ب) بناء على الحقيقة (أ) كانت القوى الماضوية التقليدية في الصف الجمهوري تخطط منذ البداية لحرب مؤجلة مع الجمهوريين الحداثيين ولمصالحة مؤجلة مع الملكيين تستبعد بيت حميد الدين، وفعلًا تمت الحرب -بضوء أخضر من السعودية- فيما عرف بأحداث أغسطس 1968، بينما تمت المصالحة -تحت مظلة الجمهورية وبرعاية سعودية- في سبتمبر 1970.
(ج) بناء على الحقيقة (ب) تعذَّر على الثورة أن تتحول إلى دولة، مثلما تعذَّر على جيش الثورة أن يتحول إلى جيش للدولة، حيث جرى في أغسطس 1968 إغراق العاصمة صنعاء بالقبائل المسلحة لمقاتلة وحدات الجيش التي كسرت حصار صنعاء في ملحمة السبعين يومًا، وقتل قياداتها وضبّاطها أو اعتقالهم أو تشريدهم ونفي أفرادها من الحياة العسكرية، ومِن ثَمّ تهيئة العاصمة صنعاء لاستقبال قائد الجبهة الشرقية في الجيش الملكي الفريق قاسم منصر في نوفمبر 1968، وفي الوقت نفسه التآمر على حياة رئيس أركان جيش الثورة وقائد قوات الصاعقة وأبرز أبطال الدفاع عن الجمهورية عبدالرقيب عبدالوهاب وقتله غيلة في يناير 1969.
(د) ترتب على "أ" و"ب" و"ج" أن أصبح نظام الجمهورية العربية اليمنية شيئًا فشيئًا في حالة تبعية كاملة للسعودية، وغدت الوهابية أيديولوجية رسمية مسنودة بتدفق المال السياسي السعودي وشيوع الفساد الذي أتى على كل مناحي الحياة في اليمن.
(3) التناقض الثالث كان بين يسار القوى الحداثية في الصف الجمهوري ممثلًا بحركة القوميين العرب، ويمين هذه القوى ممثلًا بحزب البعث العربي الاشتراكي. أما أسباب التناقض فتعود إلى الخلافات التي كانت على المستوى القومي بين دمشق والقاهرة، لكنها احتاجت إلى شحنات أيديولوجية لتبريرها يمنيًّا. وبسبب هذا التناقض تحالف حزب البعث في أحداث أغسطس 1968 مع القوى الماضوية التقليدية في الصف الجمهوري ورجح نتائج تلك الأحداث لصالحها ضد حركة القوميين العرب، لكنه سرعان ما دفع ثمن تحالفه ذاك ولقي المصير نفسه الذي لقيته حركة القوميين العرب لمجرد أنه غير مرغوب سعوديًّا.
تأسيسًا على ما سبق؛ نلاحظ أن الجمهورية العربية اليمنية انبثقت في مناخ صراعي أفضى إلى نظام سياسي قائم على مركزية تعاضدت فيها الجهوية مع المذهبية لنفي أي شكل من أشكال الشراكة الوطنية الحقيقية مع مكونات مجتمع الشمال حتى قيل عن هذه الجمهورية أنها "دَيمَة تغيَّرَ موقعُ بابِها" في إشارة إلى حلول شيخ القبيلة محل السيد الهاشمي مع بقاء الهضبة القبَلية الزيدية في الشمال هي صاحبة الهيمنة على كل البلاد.
وعندما جاء 22 مايو 1990، كان نظام الجمهورية العربية اليمنية غير مؤهل لأي شكل من أشكال الشراكة الوطنية مع مكونات مجتمع الجنوب، ومن الطبيعي، والحال كذلك، أن يجر البلاد إلى حرب 1994 التي لم يعرف اليمن بعدها طَعْمَ العافية ليشهد في العام 2011 ثورة زلزلت نظام المركزية الجهوية وكشفت عن كل عوراته. وقد تم احتواء تلك الثورة بتسوية سياسية رعاها مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية، وتم إخراجها عبر مؤتمر حوار وطني شامل شخّص المشكلة اليمنية في المركزية الجهوية كمشكلة مزمنة لا مستقبل لليمن في ظلها، ولذلك انتهى مؤتمر الحوار الوطني إلى إقرار خيار الدولة الاتحادية، لكن الرئيس السابق علي صالح متحالفًا مع جماعة أنصار الله، قلب الطاولة على الجميع عبر انقلاب مسلح، لتدخل البلاد في حالة حرب مدمرة تداخل فيها الدولي والإقليمي والمحلي الوظيفي؛ الأمر الذي شكّل مشهدًا انقساميًّا شديد الخطورة على وحدة وسلامة اليمن أرضًا وإنسانًا. ومع كل ذلك ما تزال سلطة أنصار الله في صنعاء ترفض فكرة الدولة الاتحادية وتعتبرها مؤامرة دون أن تقترح بديلًا يقبل به اليمنيون للخروج من مستنقع التشظي الراهن، ما يؤكد للمرة الألف أنّ "ثورة 21 سبتمبر" ليست إلا ثورة مضادّة لثورة فبراير 2011، وأنّ السلام الدائم في اليمن سيظل حلمًا بعيد المنال ما دام للمركزية الجهوية والمذهبية مخالب وأنياب.