في السنوات الأخيرة، شاهدنا نسقًا تصاعديّا وتطورًا ملحوظًا في الدراما الرمضانية، سواء من حيث الفكرة أو بناء الشخصيات وترابط الأحداث، إلى جانب التصوير والمونتاج والإخراج. نعم،، لا يزال هناك بعض القصور والهفوات في بعض التفاصيل، لكن النظرة الكلية تمنح مثل هذا التفاؤل.
دون شكّ أنّ المُشاهِد العادي، فضلًا عن المُشاهِد الناقد، لاحظ ذلك التطور الذي اقترب نوعًا ما من مستوى الدراما العربية، ولو بنسبة بسيطة. على سبيل التفاؤل، وبعد سنوات طويلة من التهريج الدرامي المُحبِط والمُحبَط، والأخطاء الكبيرة المخزية، نستطيع القول إنّ المُشاهِد اليمني بإمكانه أن يصرخ "وبالفم المليان": "أخيرًا، أصبحَت لدينا دراما".
أصرّ المخرجون وشركات الإنتاج فترةً طويلة على السذاجة والسطحية والقصور، فقدّموا أعمالًا توحي بأنهم لا يعيشون في الزمن نفسه الذي يعيشون فيه، أو أنهم يتعمدون ذلك الاستخفاف، فعرضوا أحداثًا منفصلة عن البيئة، وبإخراج وإنتاج متواضعين، وتصوير أقل من العادي، وبموازاة ذلك، بالغوا في تقديم شخصيات هزيلة متصنعة، وكأن التهريج والتصنع جزءٌ أصيل في شخصية اليمني.
معاناة المشاهد ومعايناته
عانى المشاهد على المدى الطويل من ذلك الأمر، فكان تارةً يتابع المسلسل الفلاني وهو يغمض عين ويفتح عين، وتارات أخرى يُطبق عينيه كليهما عن تلك المشاهد الأقرب إلى المقاطع القصيرة المضحكة أو المحزنة، ثم يهرول هاربًا ليفتحهما هناك، حيث الدراما التي تحترم عقليته وتخدم متطلباته الفكرية والوجدانية وحتى الترفيهية، ولكنه -رغم ذلك الاشمئزاز- بات متشوقًا لمشاهدة أعمال يمنية تعبّر عنه وتخدمه وتحترم حسه الفني الذي يكبر يومًا بعد آخر، فبقي منتظرًا متوجسًا، وعابسًا حانقًا، لا يملك سوى السخط والغضب إزاء ما يلحظ من هبوط درامي فج واستخفاف بعقله.
المشاهد اليمني أصبح منفتحًا على العالم، ويستطيع بقليل من الريالات وضغطة زر مشاهدة أضخم ما تنتجه الدراما العربية والعالمية معًا، فقد تشكّلت لديه نسبة كبيرة من الوعي الدرامي، ولم يعُد محصورًا بمسلسل التسعينيات "دحباش" أو "حركوش"، ولم يعد مجرد متلقٍّ ساذج يستهويه الضحك والتهريج، بل أصبح ناقدًا لاذعًا ساخرًا يصل لدرجة التذمر على كل ما يشاهده ولا يقنع عقله أو يرضي حسه الفني، وبدأ يُعلن رفض الأعمال والشخصيات التي تظهر المواطن اليمني شخصية مهترئة ساذجة ومدعاة للشفقة أو السخرية، ورأى أنّ من حقّه أن يراه العالم كائنًا طبيعيًّا، أو حتى يرى نفسه كذلك على أقل تقدير.
فهل كانت المنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي في كلِّ موسم، وما تحشده من نقد جماهيري كبير، سواء أكان ذلك النقد نقدًا منهجيًّا أو آراء ذوقية، أحد أهم أسباب التطور الملحوظ في الدراما اليمنية؟
اليوم نستطيع أن نقول إنّ المسلسلات اليمنية نجت من السذاجة، وشرعت تدقق في التفاصيل الصغيرة من حيث الديكور والملبس والتصوير، وشرعت تخطف من أغصان الإثارة والتشويق دون الحاجة إلى التهريج.
ونتيجة لما شاهده اليمني هنا في الشاشات المحلية، وما يشاهده هناك في الدراما العالمية والعربية، تحول كثيرٌ من هذا الجمهور إلى متربص ينتظر الأعمال اليمنية، ليبحث عن كل هفوة تُرتكب في هذا المسلسل أو ذاك، ويجعل منها مادة للسخرية، والتهكم وهذا الأمر نتج عنه نمو الحس الفني عند الكثير من المتابعين حتى عند الأطفال أنفسهم، فتنتشر تلك العبارات التي تُقال أمام شاشات التلفاز، كتعليق في هذه المنصة، وعبارة في تلك المنصة، فتقرأ منشورًا يعلق على أحد المشاهد: "كيف رجل فقير وضائع في صحراء وملابسه مكوية؟!"، وتغريدة لأحدهم يقول فيها: "أمي ليست مقتنعة، وتقول لي: كيف البطل صدم وحصل له حادث، وبنفس اليوم بخير، ولا فيه أيّ علامة للإصابة؟!"، وآخر يغرد: "ليش ضروري يطلع الممثل اليمني مشوّه، إما بفم مائل أو بدون أحد أسنانه؟".
تعليقات المشاهدين البسيطة تتحول إلى ترندات بالطول والعرض، تصل وبسرعة البرق إلى أسرة المسلسل هذا وذاك، فتتغير أشياء وأشياء كثيرة تخدم الدراما وتخدم المشاهد.
الدروب التي أوصلت
اليومَ نستطيع أن نقول إن المسلسلات اليمنية نجت من كثيرٍ من فخاخ السذاجة، وشرعت تدقق في التفاصيل الصغيرة من حيث الديكور والملبس والتصوير، وشرعت تخطف من أغصان الإثارة والتشويق دون الحاجة للتهريج، فغادرت مقتطفات (كيني ميني) إلى (غربة البن) ثم إلى (قرية الوعل)، وتخلصت من قهقهات (زمبقة) وارتخاء شدق (شوتر)، إلى اتزان (معجبة) و(عوالم)، وشجاعة (حميَر) و(رابض). وظهرت ملامح اليمني وهيئته الحقيقة بأحلامه ومعاناته بصبره وتفانيه، في مسلسل (لقمة حلال). وحركت البوصلة باتجاه تاريخه المدفون، في مسلسل (ماء الذهب).
حين يبدو الانسجام الكبير بين المُشاهِد والمُشَاهَد واضحًا، يعني ذلك أنّ العمل الدرامي يسير في المسار الصحيح، إذن ليستمر الجمهور اليمني الناقد في المشاهدة، ولتستمر الدراما اليمنية بإنتاج المادة التي ترضي ذلك المشاهد، فالمشاهد مهما بدا لنا بسيطًا، أو حتى متأثرًا ناقلًا لآراء غيره، فيجب ألّا نتجاهل أنه يمتلك حسًّا فنيًّا بالفطرة ورأيًا دراميًّا يكتسبه من عالمٍ دراميّ مُشاهد متاح في كل الوسائل الممكنة.
لنقل إنّ مسلسل (غربة البن) أول عمل عاد بالدراما اليمنية بعد مسلسل الثأر الذي ظهر في عام 2007، وبدأ من جديد يصعد بنا في سلّم الإنتاج الدرامي الجيد من حيث القصة وترابط الأحداث وانتقاء الشخصيات والمعالجة الدرامية التي شرحت معاناة اليمني المهاجر في حقبة الستينيات والسبعينيات، لنقل إنّ جودة الفكرة كانت هي الأساس، لن نتحدث عما يقدّمه الممثل من أداء، الذي هو في الأصل نتيجة لجودة السيناريو وذكاء المخرج مع تكامل بقية الأدوات.
تلاه مسلسل (سد الغريب) الذي تفوق في التصوير واختيار المكان والزمان المناسبَين للقصة، وتجاوز أيضًا بعض سلبيات المسلسل سابق الذكر، ثم مسلسل (العالية) الذي تفوق في جوانب كثيرة، كما تجاوز بالتركيز والجهد سلبيات الأعمال السابقة، إلى أن وصلنا إلى مسلسلات موسمنا الحالي ٢٠٢٤، الذي قدّم لنا أعمالًا عديدة اختلفت في الأفكار والقصص والمعالجات الدرامية للواقع وفي أهدافها، وهذا التنوع جميل، ويحسب للشاشة اليمنية.
هناك مسلسلات عديدة، نعم، لا يزال فيها بعض القصور وعليها بعض الملاحظات المهمة، إلا أنّ كل مسلسل تفوق على الآخر في جانب معين أو في جوانب لمسلسل "ماء الذهب"، وإن غابت عنه الحبكة وترابط المَشاهِد، وفقدَ البوصلة نحو كثير من لحظات التنوير لكثير من المشاهد، وبعض الهفوات الأخرى، إلّا أنه يعدّ عملًا كبيرًا ونقلة نوعية تجاوزت المألوف الذي جرت عليه عادة المسلسلات اليمنية، حيث أغرق الواقع بثلاثية، الخيال، والسحر، والأسطورة، مستخدمًا تقنية التصوير التمثيلي والوثائقي، وحاول أخذ المشاهد إلى عالم اللامنطقية، عالم ينطلق من التشكيك، وينتهي باحتمالات قد تكون صائبة أو لا.
لنأخذ مثالًا آخر؛ مسلسل (قرية الوعل)، دراما من نوع آخر؛ المكان، الهيئة العامة للأشخاص، الأحداث، جدية الشخصيات، ورغم بعض الهفوات فإنّ هناك نجاحًا من نوعٍ ما حقّقه المسلسل، يكفي أنه يعيد تربية الأفكار التي أقصت دور المرأة اليمنية في الواقع، وبذلك يعالج قضية جذرية وعميقة، كما تطرق بطريقة سلسلة إلى صراع السلطة الذي مزق الأوطان وأضعف قواها.
في مسلسل (دروب المرجلة)، الذي نجح هو الآخر في جوانب عديدة، لا يوجد جانب لافت جدًّا، كما لا يوجد جانب خافت في حلقات المسلسل، فالفكرة جيدة، والحبكة جيدة، والأدوار جيدة أيضًا، ويكفي أنه ابتعد عن التهريج المبالغ، واكتفى بالكوميديا الخفيفة من غير تكلف أو إسفاف، كما عالج قضايا كثيرة تربوية، كنشأة أبناء الأسر المرفهة، وقضايا اجتماعية، كمعاناة الناس من قطاع الطرق مثلًا، وسلط الضوء على معاناة المسافرين في ظل الطرق المغلقة، بوصفها أسوأ ما خلّفته الحروب في البلاد، وهذه هي وظيفة الدراما الحقيقية.
وهكذا استطاع المُشاهِد بحسه الفني وآرائه الناقدة وبمساعدة مواقع التواصل أن يُسهم بشكل كبير في تطور الدراما اليمنية، فبذل المخرجون والكتّاب والممثّلون جهودًا كبيرة في سبيل إرضاء المُشاهِد، وسرعان ما ظهرت تلك الجهود في المسلسلات، سواء في القصة وهي عمل درامي يعالج قضايا مهمة، أو في التصوير، والمونتاج والإخراج، أو في الابتعاد عن الإسفاف والتهريج الذي اعتدناه، فما نشاهده في هذا الموسم يُعدّ نقلات مهمة نحو الطريق الصحيح للدراما المحلية.