عندما وُلد الموسيقار يحيى النونو في حوالي عام 1934، حسب المؤرخين، (وحسب روايته الخاصة عام 1941)، في وادي السر في بني حشيش في ضواحي صنعاء، تربّى في بيئة جافّة بعيدة عن ممارسة الفن، لكنه كما قال: "خرج من بطن أمه يغنّي!". وُلد النونو فقيرًا، وفي دمه -حسب تعبيره- "خلايا دم خضراء ولازورد" يحب الغناء؛ ولم يستطع توفير آلات موسيقية في صغره، فأتقن صناعة أي آلة كان يراها ويفتن بها، فصنع بنفسه وهو في السادسة من عمره أُوْلَى آلاته الموسيقية؛ آلة تشبه القيثارة أو القانون. وصنع كذلك المزمار والرَّبابة، وعوْدًا من علبة زيت "الشِّل"، ولم يتقن صناعتها أو العزف عليها فقط، بل دوّن النونو كل تفاصيل صناعتها من أجزاء طبيعية، في الغالب جمعها من محيطه. وبتعليم ذاتي، تعلّم العزف وقواعد الغناء الصنعاني وأركانه المتعددة، بفتون وانغماس شديد في هذا الفن.
في العاشرة من عمره، في أثناء دراسته في تعز في المدرسة الأحمدية، كان يشارك الكثير من المهرجانات والاحتفالات بقراءة القرآن لصوته المميز. وهناك سمع لأول مرة مما كان يصفه بـ"صندوق الموسيقى" (الفونوغراف)، أغانيَ للسيّدة أم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان، وأهل الفن العربي في الخمسينيات. ولكن ما أثاره أكثر، كانت تسجيلات علقت في ذهنه لوقت طويل، وأثّرت في خلق طريقته الخاصة، هي تسجيلات أسطوانات التاج العدني، لمطربين أمثال: إبراهيم الماس، وأخيه عبدالرحمن الماس، والقعطبي، والمسلمي، وباشراحيل، وبامخرمة، وغيرهم. وللشيخ العنتري صالح عبدالله، المطرب الزبيدي المعروف، كان النصيب الأكبر في هذا التأثير؛ فمن يستمع للفنان النونو مؤدّيًا لإحدى قصائد الغناء الصنعاني يجده ملتزمًا بالتقليد الغنائي، غير مقلدٍ، بالوقت ذاته، بالطرق المشيخية المتزنة والرتيبة. وتمكن من امتلاك أول أعواده الشرقية في العام ١٩٦٦، ميسرًا بذلك طريقًا طويلًا في ممارسة الغناء وتحليله.
ميّزت النونو طريقتُه الخاصّة في الأداء، وفلسفته في الفن، فقد أدرك النونو حقائق كثيرة خلال دراساته الجديّة لمراحل الأداء والإنتاج ذاته والتلقي، في تجارب موسيقية وصفها جان لامبير بـ"التجارب المعملية" الموسيقية المباشرة، خلال ساعات طويلة قد تصل إلى15 ساعة متواصلة يضع نفسه في الغناء ولا ينتهي
بالاندماج البالغ في هذا الفن الذي ترك أثره على النونو، قدّم عرضًا غنائيًّا على طرائق مشائخ الغناء، رغم انحسار هذا الأسلوب في عصره، لكنه كان يغني به وحيدًا. دوَّن النونو كل شيء، من طفولته إلى شبابه، رسم طرقه الخاصة في صنع الآلات الموسيقية، ومذكراته الشخصية مع الفنّ، وأبدى الكثير من نظريات تأثير الغناء التقليدي على النفس.
كان النونو موثّقًا حريصًا، ودارسًا مهتمًّا أثار اهتمام الباحثين في الموسيقى اليمنية، مثل جان لامبير، عالِم الموسيقى العرقية الفرنسي المتخصص في اليمن والجزيرة العربية الذي التقاه لأول مرة عام ١٩٨٦، وساعده النونو في أبحاثه في أطروحة الدكتوراه، ومن ثَمّ في إتمام كتابه "طب النفوس" في العام ١٩٩٧، وأعدّ لامبير مقالات ودراسات عديدة عن حياة النونو وطريقة غنائه وأفكاره، بل وكان يعتبر لامبير النونو أحد معلميه، سواء على عزف آلة "الطربي" أو في فكره الغنائي ومشاركته كمستشار في أبحاث لامبير في الأغنية اليمنية. ووثق المخرج الفرنسي باسكال بريفيت له مقاطعَ في تسجيلات فريدة، عرض أهمها في فيلم "الساعة السليمانية" - فيلمًا وثائقيًّا يصوّر الحياة الموسيقية في اليمن.
ميّزت النونو طريقته الخاصّة في الأداء، وفلسفته في الفن، فقد أدرك النونو حقائق كثيرة خلال دراساته الجديّة لمراحل الأداء والإنتاج ذاته والتلقي، في تجارب موسيقية وصفها جان لامبير بـ"التجارب المعملية" الموسيقية المباشرة، خلال ساعات طويلة قد تصل إلى15 ساعة متواصلة يضع نفسه في الغناء ولا ينتهي، كان من خلالها يدرس طبيعة الغناء نفسيًّا وثقافيًّا على ذهن المتلقي.
فدرس التوقعات التفاعلية مع الموسيقى بشكل دقيق، واستجاب لها جيدًا، بوعي الدارس المتمرس، فكان يقول للمستمع: "ستأخذني معك، ولن تخرج سليمًا!"، مشيرًا للطريقة المميزة التي يغنّي بها، فهي تلصق الأغنية جيدًا في ذهن المستمع بعد الاستماع، وأعاد هذا لسببين: إلى اللحن الرتيب المتكرر الذي يميّز الأغنية الصنعانية، وإلى الوقفات المنسجمة مع هذا اللحن التي تتيح المجال لحفظ الأغنية.
ومن بين المشاعر المرتبطة بأداء النونو، كان الحنين أهمها، أو ما يرتبط بالذكرى، سواء لأيام الطفولة أو لحب حزين أو حب سعيد انتهى، حسب تقديره. فيعرّف النونو الموسيقى على أنها "ذاكرة لا إرادية"، فيترك نفسه والمستمع إليه في مشاعر مضطربة ما بين الفرح من الطرب والحزن من الذكرى. ومن تجارب هذا التأثير العاطفي للموسيقى عند النونو، وضع صنفين من المستمعين كأكثر المتلقين شعورًا وتفاعلًا مع موسيقاه، كانت النساء، ومِن بعدهن كبار السن. يأتي اختياره للنساء كون المشاعر العاطفية -حسب رؤيته- تكون أبلغ وأكبر عند الإناث من الذكور، وكبار السن لتراكم الذكريات، فيثير ذلك مشاعر الحنين أكثر لديهم. وبعبارات أكثر عمقًا في الحالة، سرد يحيى النونو اختصار علاقة الموسيقى بالذاكرة: "إذا كان قلب المستمع جيدًا، فستكون مشاعره طيبة، مهما كانت ذكرياته، سواء كانت سعيدة أم مؤلمة. بالمقابل، إذا لم يكن قلبه جيدًا، فستكون الذكريات كلها سوداء، حتى لو كانت بالأصل سعيدة".
تميّز يحيى النونو بأداء خصب وولع فريد واندماج شديد بالغناء، ينسى نفسه ويغوص في أعماق الأغنية ويلتوي حول نفسه بما يشبه الممارسات الصوفية عند الغناء، فيقرع أوتار العود ويغنّي بصوته ويرقص بجسده في الوقت ذاته، كان بمفرده حفلة متكاملة
هذه "التجارب المعملية" التي أجراها النونو خلال حياته، كانت لولع النونو الشديد بالفن فلسفةً ونفسيًّا وإطرابًا، فقد وجد علاقته القريبة مع المستمع، حيث كان يؤدي الأغنية وهو يراقب بإخلاص تفاعل المستمعين حوله، مكنته هذه الطريقة من دراسة الأغنية نفسيًّا على ذهن المستمع. حتى إنه اهتمّ بتجربة فصلت الشعر عن اللحن قليلًا، فكان يهتم بمراقبة المستمعين الأجانب حوله غير الناطقين بالعربية ليفتّش في اندماجهم معه عن طبيعة تأثير اللحن فقط دون معرفة معاني الكلمات لديهم. حتى اعتبر بذلك النونو الغناء اندماجًا للكلام واللحن برؤية مختلفة، فكان عنده صوت المطرب وصوت العود لا ينفصلان، بوصفه الدقيق أنهما "قلبان يغنيان معًا بانسجام"؛ فاجتاز بذلك الفارق الذي ميّز الموسيقى عن اللغة. بل ورأى أحيانًا أن صوت العود "كلامًا" تنطق به الأوتار بصورة أبلغ، فوصفه بأنه حديث "من القلب إلى القلب"، في وضع تنافس بين اللغة والموسيقى.
تميّز يحيى النونو بأداء خصب وولع فريد واندماج شديد بالغناء، ينسى نفسه ويغوص في أعماق الأغنية ويلتوي حول نفسه بما يشبه الممارسات الصوفية عند الغناء، فيقرع أوتار العود ويغنّي بصوته ويرقص بجسده في الوقت ذاته، كان بمفرده حفلة متكاملة، ولم يغنِّ النونو -رغم جلوسه القرفصاء- إلّا وتحرّك عن موضعه، في حركات متفاعلة برأسه وكامل جسده مع اللحن، حيث كان لهذا التفاعل الذاتي فلسفة أخرى هي ما كان يسميها "رقصة الجلوس".
كان الغناء ساميًا بالمطلق عند النونو، فكان يؤديه فقط في المجالس الخاصة، رافضًا تسجيل أي تسجيل تجاري، اعتقادًا منه بأن هذا يفسد الفن ويطوّعه خارج رغبته، ويشتت انتباهه في دراسة هذا الطور من الغناء. فاقتصرت تسجيلاته على تسجيلات خاصة، أو تسجيلات دار ثقافات العالم في باريس التي سجلها في أثناء مرافقته للمخرج بريفيت وجان لامبير في فرنسا في العام ٢٠٠١ لغرض التوثيق، وغنّى فيها على آلة "الطربي"، برفقة صديقه الراحل، عازف "الطاسة"، الفنان محمد إسماعيل الخميسي.
رحل الموسيقي يحيى النونو في يوليو ٢٠٢١ في صنعاء، وترك إرثًا فكريًّا غنيًّا مغايرًا عن بقية الفنانين في اليمن الذين لم يختلط معهم من الأساس طيلة حياته، وتسجيلات مهمة وفلسفة فنية فريدة، دُفِنتْ في ذاكرة اللاوعي العام في اليمن، تنتظر من ينبش فيها من جديد ليرى كم لهذا الإنسان من بقايا فنيّة نظرية وعملية، كفيلة بإحياء مرحلة فنية جديدة، في البلد الذي يعاني من التكرار والتجارب الفنية المفتقرة للتنظير والفلسفة والفكر التحليلي.