مررت قبل أيام أمام مبنى اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بصنعاء، فأحسست ببرود في أطراف روحي، وتداعت ذكرياتي مع الحلم الذي كان ذات يوم حقيقة. ذهبت إليه نهاية الثمانينيات؛ مبنى قديم وسط شارع التحرير، ثم تبعته حين انتقل إلى شارع الزراعة وجولة سبأ، ثم هذا المكان الذي كان بيتي ومنزلي. رأيته من الخارج وكنت أعرف كم حبيبات من الغبار تكتسح نوافذه في الدقيقة. بدا الأمر وكأن امرأة فاتنة تطل من شرفته الكونية. قلت في نفسي مع الشاعر القديم:
كلُّ السيوفِ قواطع إن جُرِّدت وسِهَامُ لَحْظِكِ قاطعٌ في غِمدِه
كان يبدو لي ذات يوم وكأنه سبيكة ذهبية، لم أهم أبدًا في التقاطها، ولكني تركتها هناك من أجل الأجيال والمستقبل. ها هو منهك، تقرضه الأرضة وتسكنه الهشاشة. تتآكل أعمدته وأبوابه ونوافذه بصمت. هنا تلاشت اللغة وارتفعت من الأعماق أصوات طبول الدموع. كيف حدث ذلك ولماذا؟ هنا تركت ذات يوم أحلامًا مرتبة، لكنني أفقت فزعًا. لم أسمح لحقيبة ذاكرتي أن تتداعى. تباهيت أمامها بأنني أغلقت سماعة الهاتف التي بدا الأمر –أيضًا- وكأنها معلّقة تخرج منها أصوات الأصدقاء والأحبة. استطالت ذاكرتي ولم أبرح المكان. تخيلت أنني نفذت من الشقوق المهملة في المبنى، ورأيتني أصعد الدرجات كما كنت أفعل دائمًا. ذهبت أكتافي تصطدم بأجساد شبحية، حاولت إرهاف السمع، أردت في الحقيقة أن أفرز الأصوات، وكانت المفاجأة أنها أصوات الأصدقاء الذين اكتملت معارفي معهم على هذه الرفوف. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. نبتت في أعماقي أعشاب طرية لأني تذكرت أنني أحث السير إلى المكتبة. كُتب كثيرة تمنيت أن أزيح من فوقها الغبار؛ هنا كتاب "إدوارد سعيد وتفكيك ثقافة الإمبريالية" لهشام علي، وهناك كتاب "الكتاب" لأدونيس، وهذه مجموعة أعمال غسان كنفاني، وهذا كتاب "لماذا تقدم الغربيون" للقمان. طالما تنقلت أحلام يقظتي في هذا المكان الذي اختزل العالم.
قبل خروجي تناولت ديوان محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيدًا"، سمعت درويش وهو يقول بصوته العابر للقارات: "لكي يؤنس البيت يا ولدي/ فالبيوت تموت إذا غاب سكانها". تركت الديوان وخرجت. في إحدى الغرف سمعت صوت محمد حسين هيثم وهو يلقي قصيدة "بنو عمي".
كان اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين يذكرني خلال مشواره الطويل، بالنسر الذي حين يشيخ منقاره وتكل أجنحته عن الرفرفة، يعمد إلى أعلى قمة جبلية فينتف ريشه ويكسر منقاره ليتجدد، ثم يعود إلى التحليق والصيد بمنقار جديد وأرياش خارقة للفضاءات. أما اليوم ومنذ 2011، والاتحاد صامت. يعيش حالة ذهول طويلة الأمد. كأن مثلث برمودا الحرب ابتلعه إلى الأبد، ولا أدري متى سيعود هذا المُكَون (بضم الميم وفتح الكاف) الجمالي إلى التحليق بكل جسارة، ولا أخفي على أحد أن إغلاق مبنى الاتحاد في صنعاء يشعرني بأن جزءًا كبيرًا من ذاكرة تكويني تم مسحها بممحاة غير مرئية، صدمة الإغلاق لا تدمي العين والقلب وإنما تحرق الذاكرة وتصادر الوجود. كما لا أخفي على المتابع أن الكثيرين ممن تفتق وعيهم عبر هذا الناي الشعبي المتماوج في الشعاب والجبال والوديان، يشعرون وكأنهم أرامل اتحاد الأدباء. ولا أدري لماذا كلما التقيت بأحد الأصدقاء الذين تقاسمت معهم نشوة الحياة في اتحاد أدباء صنعاء؛ لمحت بين عينيه ملمح الأرمل التي كان لها ذات يوم زوج يملك الكثير من الفتوة والجمال.
إن التفسير الوحيد لغياب هذا الشكل الهندسي البديع المرسوم في قاع الذاكرة والبهجة، والذي أجاد المهندسون تصميمه كما لو أنه عرش بلقيس، يعود إلى أنه ولد بجناحي نسر ولا يستطيع إلا أن يحلق بجناحيه. فعلى الرغم من أن الشاعر الكبير الدكتور مبارك سالمين أمين عام الاتحاد يحاول النهوض به مستخدمًا كل تاريخه الإبداعي والفكري، إلا أن القوى المتحاربة تعمل على خنق هذا الشاهد المحايد الذي لا يستطيع التنفس برئة واحدة؛ لأنه من حيث المنشأ والتكوين، ولد في فضاء مستقل وحر.
كان اتحادنا في يوم ما يوازي بحضوره المدارس المعرفية كلها، ويوازي مراكز البحث العلمي والأكاديميات ومعاهد الفنون الجميلة، بل ويتفوق عليها، لأنه الأقرب إلى النخبة، وقد رأيت بأن الكثير من أساتذة الجامعات يفخرون بانتمائهم، فيحس الواحد منهم أن حصوله على البطاقة يعد تشريفًا ومكسبًا إضافيًّا لمعارفه. إن غياب اتحاد الأدباء والكتاب هو في الحقيقة محاولة لتغييب الصوت الأول في مشوار بناء وطن المؤسسات على طريقة الجاوي والبردوني والربادي والشحاري ومحمد عبدالولي، وعبدالله فارع وزين السقاف، وسلام ناجي؛ فطوبى للودعاء. ولعل القارئ يعرف بأن المسيحيين يؤمنون بوداعة المسيح وحلمه معًا، فقد ورد في إنجيل متّى قوله: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض"، والوديع هو الشخص الهادئ الطيب المسالم، البعيد عن الخصام، لكنه الممتلئ بالحكمة والأقدر على كسب الناس وإقناعهم. هؤلاء كما يقول المسيح يرثون الأرض؛ لأن سكان الأرض يحبون وداعته، ولذلك فإن الجميع يعيش معهم بسلام؛ فيبقون على الأرض، لأن الأرض لمحبي الحياة وليس الموت، وهكذا عرفت ذلك. فمن حسن حظي أنني في أول مقيل لي باتحاد الأدباء، وجدت الربادي ودماج وعبدالله قاضي ونايف الأمير، وما زلت إلى اليوم أتذكر حواراتهم، وأتذكر كيف استطاع هؤلاء الودعاء إقناع السياسيين بأهمية الوحدة اليمنية.