عمالة الأطفال في وصاب

وجه آخر للكفاح في زمن الحرب
عبدالله حمود الفقيه
September 1, 2024

عمالة الأطفال في وصاب

وجه آخر للكفاح في زمن الحرب
عبدالله حمود الفقيه
September 1, 2024
.

"وحدهم الفقراء يستيقظون مبكرين، حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد،" هذا ما قاله الشاعر الراحل محمد الماغوط، وكأنه كان يرى أطفالا في بلادنا كُتب عليهم أن يحملوا هم أسرهم المطحونة بأزمات إنسانية واقتصادية خانقة خلفتها عشر سنوات من حرب لا يعلمون لم اشتعلت ولا متى ستنطفئ، وأفقدتهم مرتبات عائليهم.

بين عِزَل بني علي والأثلاث وبني منصور وبني العزب في وصاب السافل، الواقعة غرب مدينة ذمار، وتبعد عنها حوالي 180 كم، سيلفت نظرك مرور الكثير من الأطفال، معظمهم بين الثالثة عشرة والسابعة عشرة من العمر، حاملين على كواهلهم "شوالات" تحوي ملابس، وبين أيديهم حقائب بلاستيكية تضم بضاعة متنوعة، يطوفون بها بين منازل القرى، لما يقارب 12 ساعة مشيا على الأقدام، بين واد وجبل، دون أي وسائل للسلامة، يقاسون تقلبات الجو ووعورة الطرق ومخاطر جمة.. تقودهم عزيمة وإصرار، يفوقان أعمارهم، على خوض التحدي ومواجهة أقدارهم، التي وضعتهم وجها لوجه مع قسوة الحياة ومتاعبها.

 

طفل من من وصاب يعمل كبائع متجول بين القرى الريفية

ابتسامة تغالب تعب أبي بكر

وبين من وجدناهم خلال رصد ميداني الطفل أبو بكر (13 عاما) الذي كان يحمل على ظهره شوالة ممتلئة بالملابس، فيما تقبض يداه على كيسين فيهما إكسسوارات ومستلزمات أسرية أخرى، يتنقل بها بين القرى، وابتسامة ريفية تكسو وجهه وتغالب إحساسه بالتعب والخوف من أن تتبلل بضاعته مع تساقط قطرات المطر. 

يخرج أبو بكر، الذي يدرس في الصف السابع، ويحاول المواءمة بين الدراسة والعمل، الساعة السادسة صباحا من قريته في عزلة بني علي، ويظل يطوف ببضاعته بين العديد من العُزل حتى المغرب، وفق حديثه لخيوط.

سألته ما الذي يدفعه للعمل؟ فأجاب وقد ملأت ملامح وجهه علامات التعجب، كما لو أن سؤالي غير منطقي، أو كأني وجهت له إهانة: "كيف ليش؟!" وأردف: "أطلب الله..!!." أسرعت في تعديل سؤالي، "أقصد في هذا العمل الشاق؟" ليرد علي: "أيش أعمل، يا الله حصلت هذا الشغل،" ليشرح لي حينها أن والده بدون راتب ولا يستطيع العمل، فيتحمل هو وأخوه الأكبر، الذي ترك الدراسة في الصف السادس واتجه إلى صنعاء للعمل في الماء، عبء توفير احتياجات أسرتهم المعيشية المكونة من ٥ أشخاص.

ووفق أبي بكر، فهو يعمل لصالح أحد تجار قريته في بني علي، إذ يعطيه البضاعة يبيعها ونصيبه من الألف ١٥٠ ريالا.

حتى نهاية التسعينيات، كانت تشتهر عزلة بني عمر بخياطة الملابس وتوزيعها، وكان يسمى بائع الملابس المتجول بين القرى "عُمَري،" وفق ما أوضحه الحاج "عباس قاسم،" وهو رجل من أبناء وصاب جاوز الستين من العمر. واستدرك قائلا: "الأمر تغيَّر في ما بعد مع ظهور جيل محافظ يمنع حتى على العجائز الظهور أمام هذا الرجل، إضافة إلى اعتماد الناس على السوق في شراء متطلباتهم، فقد كانت الدنيا سابرة، والسيارات سارحة راجعة للثلوث- أحد أسواق المديرية- تتعلق مع الطارف-أي أحد تقابله- وترجع ما حد يقلك مالك." وتابع: "حينها استعان البعض بأطفال ليبيعوا الملابس المحلية، لكن بصورة قليلة وفي أوقات متباعدة، أما الآن قدهم كثير، يوم يومين وتلاقي أطفال يجوا للبيت يبيعوا ملابس وطنافس-يقصد الإكسسوارات ومواد التجميل- وبهارات وغيرها."

أدى النزاع الدائر في البلد الأفقر عالميا إلى توقف البرامج الخاصة بمكافحة عمالة الأطفال، في حين تركز الدعم الدولي على الأولويات الإنسانية والبرامج الإغاثية، وسط تحذيرات من تنامي التأثيرات الكارثية على الأطفال في اليمن ومستقبلهم.

أمل الماضي وانتكاسة الحاضر

يعزو الحاج عباس ذلك إلى الفقر الذي جعل الناس "يخرِّجوا عيالهم مثل الذر." عكس ما كان قبل الحرب، فقد كان الأطفال بدأوا يلتحقون بالمدارس ويهتمون بالتعليم، ووقت الفراغ يعينون أهاليهم في الأعمال الزراعية والمنزلية، مشيرا إلى ما يبذله الآباء من جهد ليتفوق أبناؤهم، حتى إن الكثير منهم اضطروا لبيع أغنامهم في سبيل تفريغ الأطفال من الذكور والإناث للدراسة، وحين يتخرجون من الثانوية يرسلون الذكور إلى المدن للالتحاق بالجامعة.

طفل يبيع الملابس - وصاب ذمار

تحتل محافظة ذمار المرتبة الثالثة في عمالة الأطفال (5-17 سنة،) بنسبة 26%، في حين بلغت نسبة الأطفال المشاركين في أعمال خطرة، في المحافظة، 38.1% وفق بيانات المسح العنقودي متعدد المؤشرات، الصادر في العام 2023، عن الجهاز المركزي للإحصاء في اليمن، وتم تنفيذه بدعم فني من (اليونيسف.)

وأظهرت البيانات ذاتها أن 23.4% من الأطفال في اليمن منخرطون في أعمال خطرة، معظمهم من أبناء الريف (28%،) مقابل (11.1) في المناطق الحضرية.

وكانت نتائج المسح الوطني حول عمل الأطفال في اليمن للعام 2010، قد بينت أن الأطفال المنخرطين في سوق العمل ممن تتراوح أعمارهم بين 5 و 17 عاما 1.6 مليون طفل، معظمهم من أبناء الريف، يعمل الغالبية العظمى منهم (57.4%) في قطاع الزراعة، فيما بلغت نسبة الأطفال العاملين في مهن أولية خارج مجال الزراعة (30%،) كما تصنف الغالبية الساحقة من هذه المجموعة مراسلين، حمالين، بوابين، وعاملين في مجالات ذات صلة. ويظهر تحليل أكثر تفصيلا أن هؤلاء الأطفال يعملون بشكل أساسي في جلب المياه والحطب لأسرهم وللآخرين، بينما يشكل العاملون في مجالي الخدمات والبيع 7.2% من الأطفال العاملين، وتتألف نسبة صغيرة منهم (2.8%) من الحرفيين.

 وأدى النزاع الدائر في البلد الأفقر عالميا إلى توقف البرامج الخاصة بمكافحة عمالة الأطفال، في حين تركز الدعم الدولي على الأولويات الإنسانية والبرامج الإغاثية، وسط تحذيرات من تنامي التأثيرات الكارثية على الأطفال في اليمن ومستقبلهم.

وخلال رصد ميداني في عدد من عِزَل وقرى وصاب السافل، لاحظت خيوط ارتفاعا في معدل الأطفال العاملين في المديرية التي لم يعد يخلو منزل فيها من أطفال يعملون لإعالة أسرهم، في ظل ما تشهده البلاد من أزمة قاتمة ألقت بظلالها على معظم الأسر التي كان دخلها متوسطا، وأصبحت في عداد الفقيرة والأشد فقرا، ما جعلها تعمد إلى تشغيل أطفالها في مهن مختلفة بعضها تفوق أعمارهم كثيرا، وأمسى من الطبيعي أن ترى أطفالا لم تتجاوز أعمارهم الثالثة عشرة يقودون دراجات نارية، ويبذلون جل جهودهم للتوازن وعدم السقوط، خاصة مع وعورة الطرق الجبلية غير المعبدة، غير أن أجسادهم الضعيفة وأقدامهم التي لا تصل إلى الأرض تخذلهم في كثير من الأحيان.. بينما اقتحم بعضهم مهنة جمع النيْس وأعمال البناء، والعمل في المطاعم والبوفيات والبسطات والمحلات التجارية، في أسواق المديرية كالثلوث والأحد ومشرافة وغيرها. 

كانت صناعة المعاوز تحتل الدرجة الأولى في قائمة المهن التي يعمل فيها الأطفال في المديرية، وخاصة الإناث منهن. وأوضح استطلاع سابق في منصة خيوط أن حرفة نسج المعاوز مثلت ملاذا للكثير من الأسر، وخاصة أسر المعلمين المنقطعة رواتبهم، فقد لجأت إليها لتخفيف الضغوطات التي أثقلتهم بها الحرب وأزماتها.. وكان للأطفال النصيب الأبرز في هذه المهنة، غير أن الكساد الذي ضرب تجارة المنسوجات اليدوية أخيرا، دفع تلك الأسر إلى البحث عن مصادر أخرى للرزق، ومن ذلك المجازفة بإرسال بعض أبنائها الذكور نحو المدن للبحث عن عمل.

فقدنا رواتبنا، أصبح أطفالنا يعيلوننا بدلا من أن نعيلهم.. و لم أجد أمامي سوى فصل بناتي من المدرسة حتى يتفرغن للعمل في المعاوز، وليكون دخلهن بديلا للراتب الذي انقطع وكان بالكاد يغطي مصاريف البيت، وهذا ما فعله معظم المعلمين من زملائي.

يبددون العتمة بأعمارهم

ينسج الطفل عبد الرحمن (15 عاما) من سنوات طفولته خيوط ضوء توازي خيوط المعاوز التي يصنعها، ليبدد جزءا من عتمة الأزمات المعيشية التي خلفتها سنوات الحرب، وضاعفها انقطاع مرتب والده المعلم في مدرسة القرية.

إلى جانب عبد الرحمن، اثنتان من أخواته (13 عاما و 16 عاما) اضطرتا لترك الدراسة إثر انقطاع مرتب والدهما، في العام 2016، وهو المصدر الوحيد للعيش، واحترافِ صناعة المعاوز بمكائن يدوية متنقلة مخصصة للعاملين في المنازل، ليعيلوا أسرتهم الكبيرة المكونة من 12 شخصا.

يقول والدهم بأسى: "بعد أن فقدنا رواتبنا أصبح أطفالنا يعيلوننا بدلا من أن نعيلهم.." وأوضح: "لم أجد أمامي سوى فصل بناتي من المدرسة حتى يتفرغن للعمل في المعاوز، ليكون دخلهن بديلا للراتب الذي انقطع وكان بالكاد يغطي مصاريف البيت." وأشار إلى أن هذا ما فعله معظم المعلمين من زملائه.

وحين سألته لم لا يبحثون هم عن عمل، أوضح أنهم مجبرون على التدريس والدوام يوميا بدون راتب، حتى لا يتم الرفع بهم منقطعين ومن ثم فصلهم.

ولم يتسلم 171,600 معلم ومعلمة- ثلثا العاملين في مجال التعليم- رواتبهم بشكل منتظم. وبحسب تقرير لمنظمة اليونيسف في يوليو 2021 فإن ما يربو على مليوني طفل (فتيان وفتيات في سن الدراسة) خارج المدارس بسبب الفقر والنزاع وانعدام فرص التعليم، وما يقرب من أربعة ملايين طفل إضافي معرضون لخطر فقدانهم فرص الحصول على التعليم. في حين أظهرت بيانات رسمية، في العام 2023، أن (25 بالمائة) في مرحلة التعليم الأساسي، وأكثر من نصف الأطفال (53 بالمائة) في مرحلة الثانوية، خارج المدارس.

بمعنويات عالية، وابتسامة تحمل الكثير من الإصرار والتحدي، يحدثنا عبد الرحمن أنه يعمل وأختيه منذ الساعة السادسة صباحا حتى الساعة العاشرة في الليل، بما يعادل 16 ساعة في اليوم، وأحيانا قد يستمرون إلى الثانية عشرة منتصف الليل إن طرأت أعمال أخرى- كمساعدة الأهل في الزراعة وأعمال المنزل- تشغلهم عن إكمال العمل.. وعن الإنتاج والمقابل المادي، يبيِّن أن ذاك بحسب نوع المعوز. فثمة أنواع يمكن إنجاز معوز منها في اليوم، بإيجار يتراوح بين 1500 و2000 ريال، وبعضها تأخذ يومين وأكثر، بمقابل قد يصل إلى 3000 ريال. وكانت المبالغ- وفق والدهم- تسلم معظمها بعد إكمال الشرعة (8- 10 معاوز،) لكن بعد انهيار سوق المعاوز في الفترة الأخيرة، لا يسلمهم العميل سوى القليل منها، ومعظم الأحيان يعطيهم مقابلها مواد غذائية من تاجر يتعامل معه.

يأمل عبد الرحمن الذي تجاوز هذا العام الصف التاسع بمعدل 77.29، رغم انشغاله بالعمل في الحياكة، أن تنتهي الأزمة ليتمكن من مواصلة دراسته كما ينبغي، ويحقق مستويات عالية.

عدد الأطفال العاملين في المديرية تضاعف بصورة ملفتة في الآونة الأخيرة، جراء الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد. وهناك أطفال تقل أعمارهم عن الخامسة عشرة يتجهون إلى أعمال عديدة كالحياكة وجمع المخلفات وأعمال البناء والتسول.

سُبل الإنقاذ من مخاطر عديدة

مخاطر جمة يتعرض لها الأطفال العاملون في المنطقة، وهم يخوضون مغامراتهم في سبيل توفير لقمة العيش، كحسام (13 عاما) الذي يقود دراجة نارية، يعمل بها في نقل الركاب بين سوق الثلوث والقرى، وكثيرا ما يتعرض للسقوط، ما يؤدي لإصابته ومن معه برضوض وجروح، وفق والده الذي أكد أنه يضطر أحيانا للذهاب به إلى المركز لتلقي العلاج.. في حين أشار أحد الباعة المتجولين إلى سقوطه من منحدر وإصابته بكدمات ورضوض، إضافة إلى معاناتهم من ضربات الشمس والبرد والإنفلونزا.

الطفل عبدالرحمن يعمل في الخياطة - وصاب - ذمار

الأخصائي الاجتماعي والنفسي، أحمد علي صالح الأحمدي، يؤكد أن عدد الأطفال العاملين في المديرية تضاعف بصورة ملفتة في الآونة الأخيرة، جراء الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، مبديا أسفه أن أطفالا تقل أعمارهم عن الخامسة عشرة، يفترض أنهم في المدرسة، يتجهون إلى أعمال عديدة كالحياكة، وجمع المخلفات التي يُعاد تدويرها، وجمع النيس والكري وأعمال البناء، ومنهم من أصبحوا باعة متجولين، ومنهم من اتجه إلى التسول، وغير ذلك من الأعمال التي تفوق طاقاتهم وقدرة أجسادهم على التحمل.

ويحذر أحمد، الذي يعمل مدير حالة في المركز المجتمعي لحمايه الطفل والإرشاد الأسري في الأحد (مركز مديرية وصاب السافل،) من التداعيات السلبية -على كافة المستويات- لهذه الظاهرة على المدييَن القريب والبعيد، كما نبه إلى انخراط الأطفال في سوق العمل وتحملهم همَّ الأسرة.. ناهيك عن تأثيره على المستوى التعليمي والوعي لديهم، فإن تلك الأعمال تعرضهم للعديد من المخاطر النفسية والصحية والجسدية، من بينها الاعتداء الجسدي والانتهاكات والتحرش والأعمال غير الأخلاقية، والانحرافات السلوكية. مضيفا أن البعض منهم، خصوصا الأطفال الذي يعملون باعة متجولين بين القرى والعزل، قد يتغيبون عن المنزل لعدة أيام، فيبيتون في مناطق لا يعرفونها ويضطرون- أيضا- للمشي ليلا، ما يضاعف حدة المخاطر عليهم، التي يمكن أن تصل إلى الوفاة.

ويزداد الأمر سوءا بالنسبة للأطفال الذين يتجهون إلى العمل في المدن، في ظل بيئة عالية المخاطر، ووضع متدهور أمنيا وإنسانيا وأخلاقيا، حيث قد يصبح الطفل ضحية للانتهاكات والقتل، كما حدث مع الطفل محمد مهدي سالم قائد (15 عاما،) المنحدر من قرية السمحة بني سوادة، وصاب السافل، الذي رحل إلى مدينة تعز ليعمل في أحد المطاعم، دون أن يدري هو أو أسرته أنه سيفقد حياته، في حادثة غامضة، فقد وُجد، صباح يوم السبت الموافق 9 فبراير 2019، مشنوقا على ماسورة مياه في أحد حمامات المطعم، في حادثة تداولت خبرها حينها عدد من المواقع المحلية.

والحلول تكمن وفق أحمد بتوعية الأسر بالمخاطر الناجمة عن الكثير من الأعمال، ليتجنبوا الدفع بأطفالهم إلى الأعمال الخطرة، وفي حال الضرورة يجب البحث عن أعمال تناسب عمر الطفل وقدراته، وألا يتم الضغط عليه وإرهاقه بها، وإزاء ذلك- بحسب أحمد- يجب دفع رواتب المعلمين والموظفين، والتمكين الاقتصادي للأسر التي لا يوجد لها معيل كبير وتعتمد على الأطفال، سواء من الدولة أو المنظمات المعنية، ويمكن أن يتم دعم الأطفال وتوفير فرص عمل قليلة المخاطر لهم، إضافة إلى دعم العملية التعليمية ومجانية التعليم.

•••
عبدالله حمود الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English