يتجلى المكان بطلًا حقيقيًّا في اللوحات الأخيرة للتشكيلي اليمنيّ حكيم العاقل، ابتداءً من أعماله التي قدّمها في معرضه الثاني عشر بصنعاء عام 2016، ومرورًا بمعرضه التالي بمدينة المنامة البحرينية عام 2018، وانتهاءً بالأعمال التي ما زال ينشرها تباعًا في حسابه بمنصة "فيسبوك"، والتي تعكس تجربة متطورة في تقنياتها ورؤيتها في الاشتغال على تمظهرات الأرض/ المكان وثيمة المرأة/ الإنسان، سواء في الأعمال التي تشتغل على الطبيعة أو التي تقتنص الصور داخل البيت.
في كل تلك الأعمال، تتجلى المرأة عنصرًا محوريًّا، كأنه يقول لنا من خلال هذه النصوص البصرية إن احتفاءه بها هو احتفاء بالحياة التي تتشكل في المكان، سواءً داخل البيت أو في الفضاء الخارجي (الطبيعة)؛ فأفكار السلام والجمال والعدل والحب، يشتغل عليها هذا الفنان في السنوات الأخيرة من خلال متواليات، في سياق رؤيته التي يحاور من خلالها علاقة الإنسان بالأرض أو علاقة الإنسان بالجمال بمدلوليه الداخلي والخارجي ارتكازًا على دالة رئيسية هي السلام، والتي عالجها بمستويات مختلفة؛ وهي التجربة التي عبّر عنها، لأول مرة بوضوح، في معرضه الثاني عشر بجاليري صنعاء عام 2016، والذي أقيم تحت اسم "الحرب والسلام".
الأرض
المجموعة الأولى من هذه الأعمال الأخيرة، والمتمثلة في لوحاته التي يشتغل فيها على الطبيعة؛ تنقسم إلى جانبين: الجانب الأول متمثل في اللوحات التي تحضر فيها المرأة مركزًا سرديًّا بجانب دائرة عُرفت في أعماله الأخيرة بالتعويذة، والتي تبرز فيها الأرض (خلفية اللوحة) كبعد وجودي. في كل هذه الأعمال يحاول حكيم استنطاق خصوصية العلاقة المفترضة بين الكائن/ الإنسان، والمكان/ الأرض، في حوارية غير مرئية تُكرس أهمية السلام؛ وهو ما تتحدث عنه تمظهرات المكان شكليًّا ولونيًّا.
اعتمد حكيم، في هذه الأعمال، على تجريدية تعبيرية تنزع عن المنظور وتمظهرات الواقعية، وتستنطق من خلال مهارات التلوين طاقات الألوان وتكوينات الأشكال في التعبير، وتعكس رؤى أوسع وأكبر، في سياق تقديم قراءة لما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة.
تحمل الأعمال الجديدة رؤى أوسع، متجاوزة ثيمة التعويذة إلى بلورة رؤية جمالية تعبّر عنها تجريدية تعبيرية مكثفة في لونيتها ودلالاتها.
ففي الأعمال التي تتمركز فيها المرأة وتحيط بها فسيفساء طبيعية لدائرة كروية تحيلنا القراءة إلى مديات متعددة للرؤية التي تعامل من خلالها الفنان في نسج نصوص بصرية محتشدة بتشكلات متداخلة، وفي الوقت ذاته تؤكد جمالية التناغم بين الكائن والمكان، وهو ما يعكسه الفنان في علاقته الخاصة بالبيئة المحلية في لوحته، والتي يبقى فيها اليمن مكوّنًا ثقافيًّا فاعلًا ومؤثرًا في تشكيل موضوعات لوحاته؛ وهي الموضوعات التي يحضر فيها المتخيل بطلًا لونيًّا يعكس رؤية وتجربة واعية بالفن. وهنا لا يمكن تجاوز العلاقة الثقافية الواعية للفنان بالتراث وتوظيفه بمهارة عالية لونيًّا وشكليًّا، وهو ما نشاهده في ملابس المرأة مثلًا.
تلك الرؤية هي نتاج حوارٍ مستمر بين تراكمات التجربة ومخزون الذاكرة، ممثلة في ذكريات وأحلام ومشاهدات يُعيد توظيفها فيما يرسمه في سياق فكري وثقافي يخدم رؤية الفنان؛ ومن معين هذه الرؤية ينسكب النص البصري بسردية لونية عالية، تستنطق جمال الأرض في علاقتها بالإنسان، باعتبار الأرض وعاءً لإنسانيتنا.
تتجلى المرأة، هنا، رمزًا لهذا الكائن باعتباره الإنسان. وتمتد هذه الأعمال ابتداءً من سلسلة الأعمال التي عرضها في معرضه الأخير عام 2018، وحتى الآن. وتحمل الأعمال الجديدة رؤى أوسع متجاوزة ثيمة التعويذة إلى بلورة رؤية جمالية تعبّر عنها، تجريدية تعبيرية مكثفة في لونيتها ودلالاتها، والتي تتجلى أكثر وضوحًا في تفاصيل منظور المرأة الخارجي؛ وهي تفاصيل ثقافية يمنية تنضح سردًا بلغة لونية مدهشة في سياق حكاية لا تتوقف فصولها، وأنت تتأمل اللوحة!
الجانب الثاني من هذه المجموعة يتمثل في الأعمال التي ينفتح فيها المنظور على الحقول والوديان والمناظر المكانية الجمالية في اليمن؛ وهنا تتحول الأرض التي كانت خلفية في اللوحات السابقة إلى مركزٍ بصري هنا؛ وفيها تشعر بتجانس كل شيء؛ فالأرض والإنسان جزء من مكون واحد، هكذا تحكي الألوان وتتحدث الأشكال والتكوينات، التي أجاد الفنان صوغها بلونية على درجة عالية من التناغم الشكلي، والذي يؤكد مدى براعة حكيم في اشتغاله على مجمل المنظور؛ وهذا ليس بجديد عليه، وهو حاصل على ماجستير في فن الجداريات من "أكاديمية الدولة للفنون- سوريكوف" في موسكو؛ ولهذا نجده متمكّنًا من أشكاله وألوانه، التي يمنحها طاقات تعبيرية هائلة تستوعب التكوين، وتفيض بقراءات لا تتوقف عند حد، مستفيدًا من قدرته على تكثيف اللون ضمن تجريد مُفعم بالدلالات.
بل إن بعض هذه الأعمال تكون خالية من العنصر الإنساني، ومع ذلك تجدها تفيض شاعرية وجمالية إنسانية؛ فالروح الإنسانية تدبّ في تفاصيلها اللونية والشكلية؛ فتشعر بالتكوينات تنبض وتتدفق جمالًا؛ فالجبال والسهول والوديان والضباب والقرى والبيوت... كل تلك التفاصيل تتجلى بتعبيريتها اللونية، التي تنضح دلالات إنسانية ووجودية وجمالية. وفي مجمل هذه الأعمال يحاول الفنان حكيم العاقل بلورة رؤيته تجاه علاقة الإنسان بالمكان بمعناه الواسع (الأرض)، في سياق التعبير عن رؤيته تجاه الجمال والسلام باعتباره ثنائيًّا موازيًا لثنائي الأرض والإنسان.
تعكس مجمل هذه الأعمال حالة فكرية وتقنية متقدمة للفنان في التعبير تشكيليًّا عن رؤيته الإنسانية تجاه العلاقة بين مشاعر الكائن وتمظهرات المكان، مجسدًا مشاعر الإنسان في علاقته بالمحيط.
البيت
في المجموعة الثانية من هذه الأعمال، يشتغل حكيم على المكان؛ لكنه ينتقل إلى داخل البيت مصورًا مناظر داخلية هناك، وفيها تحضر المرأة مركزًا أيضًا، وأحيانًا يكون معها الرجل، ويقتنص حكيم مَشاهدًا قد يعتبرها المُشاهد العادي تصويرًا خفيف الوزن، موضوعيًّا وتقنيًّا، لكنها ليست كذلك؛ فالفنان، هنا، يشتغل على المكان الداخلي باعتباره جزءًا من المكان الخارجي؛ فالسلام هنا هو جزء من السلام في الخارج.
في هذه المجموعة، اشتغل الفنان على مناظر في البيت؛ متجاوزًا الجدران، مصوّرًا مشاهد تعكس جانبًا آخر من جوانب العلاقة بين الإنسان والمكان، وهي العلاقة التي استحضر فيها حكيم المرأة مع الرجل، في سردية جديدة تمثل محور العمل الفني.
واعتمد الفنان كعادته على ألوان الأكريليك والتجريد الشكلي التعبيري في تصوير مشاهد للمرأة وبعضها للمرأة مع الرجل، في سياقات تعبيرية لونية تحيل الوعي باللوحة إلى دلالات فلسفية تُعيد قراءة الجمال الإنساني من منطلق وجودي.
بعض تلك الأعمال تعاملت مع المرأة وهي في حالة سكون. حضرت المرأة في هذه اللوحات بمستويات مختلفة؛ فنجد المرأة الريفية بملابسها وتفاصيلها التقليدية، وأخرى تحضر فيها المرأة بملابس غير تقليدية، كلوحة المرأة الجالسة على كرسي (كنبة). وفي كلتا اللوحتين، اشتغل الفنان لونيًّا بشكل استنطق كثيرًا من الدلالات التي تعزز من فاعلية الحوار بين سكون اللوحة الهادر وقراءة المَشاهد التي تنفتح على أكثر من نص.
أما اللوحات التي استحضر فيها الفنان المرأة مع الرجل، وبعضها في حالة من الحوارية الساكنة أيضًا، هذه اللوحات، وبخاصة الأعمال الجديدة، تؤكد مدى عمق وسَعة الرؤية الجمالية والفكرية التي تُسند تقنية الفنان في اشتغاله اللوني على سطوح المنظور واستنطاق مشاعر وأحاسيس الكائن، والتعبير عنها لونيًّا وشكليًّا. وهو ما نستشعره في تفاصيل الوجه والجسد والزي، بل إن أسلوب الجلوس والتفاتة الوجه وحركة الأطراف...إلخ، كل ذلك يحكي الكثير عن دواخل الكائن ومشاعره.
إلى ذلك، ما زال مستمرًا في التقاط مشاهده، بما فيها مشاهده داخل البيت، وبعض هذه المشاهد يصورها وفق تقنية "عين الطائر"، والتي أصبح معها ماهرًا في ضبط المقاييس والأحجام وفق المنظور من أعلى.
تعكس مجمل هذه الأعمال حالة فكرية وتقنية متقدمة للفنان في التعبير تشكيليًّا عن رؤيته الإنسانية تجاه العلاقة بين مشاعر الكائن وتمظهرات المكان، مجسدًا مشاعر الإنسان في علاقته بالمحيط، وتمظهرات المكان في تعبيره عن الحالة العامة لوجودية الإنسان وحاجاته. وهذه الأعمال هي امتداد لتجربة حكيم الفنية الراهنة وتطويرٌ لرؤيته الجمالية/ الفكرية في التعبير عن أهمية التعايش بحب، وهي رؤية تؤكد أهمية السلام كحالة داخلية للإنسان وتعبير حياتي يعكسه المكان كحالة وجودية إنسانية.
وُلد حكيم العاقل، الذي يعد من أبرز أسماء الجيل الثاني في المحترف التشكيلي اليمني، في تعز (وسط اليمن) عام 1965. نظّم 13 معرضًا شخصيًّا، وشارك في عدد من المعارض الجماعية داخل اليمن وخارجه.