أدهشني العنوان «شرخ الماء»، فلـ«شرخ» معانٍ كثيرة. وإذا كان الماء بعيدًا عن الشرخ؛ فإن إضافة الشرخ للماء ذروة الإبداع والإغراب.
رجعت إلى اللسان (لسان العرب)، أوعى معجم لغويّ؛ فقرأتُ الآتي: الشرخُ: الأصلُ، والعرق. الجرف الناتئ كالسهم ونحوه. وشرخَا الفوق: حرفاه المشرفان اللذان يقع بينهما الوتر. زنمتا السهم. شرخ الأمر والشباب: أولُه. وشرخَا الرحل: أولُه وجانباه، وقيل: خشبتاه من وراء ومقدم. وشرخ الشباب: أوله، ونضارته وقوته. ونجل الرجل: شرخه. والشرخ: الحد. والشرخ: نتاج كل سنة من أولاد الإبل. الشرخ: النتاج. والشرخ: ناب البعير. والشرخ: النصل. والشروخ: الأتراب.
للماء في الدلالات والمجاز معانٍ وأبعاد تبدأ ولا تنتهي كالحياة؛ فالماء الحياة. ﴿وجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كلَّ شَيءٍ حَيّ﴾ الآية. المَاءُ: الخَصبُ، والنَّمَاءُ، والأَصْلُ. ﴿وَكَانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ﴾. المَاءُ: الصَّفَاءُ، السّهُولَةُ، اليُسرُ، الودُّ، الفَرَحُ، الطَّهَارةُ، الطُّفُولَة.
وتركيب الجملة الاسمية له ظلال ومعانٍ ودلالات تتجاوز معنى المفردة وتتسع أكثر فأكثر، ولنترك ذلك للسرد؛ فهو من يعطي للعنوان معناه ومبناه.
تمزج الرواية ما بين السيرة الذاتية والتاريخ؛ سيرة قريته، سيرة التعليم التقليدي (المِعْلامة). سيرة عبدالملك، والطفل حسام، وهديل، والفقيه، وزوجته مليحة العاقر، والشيخ زاهر، وعايض، وعشرات الأسماء. كما يصف حالة القرية البائسة، وعششها التي لا تستر "العورة"؛ قرية عبس فيما قبل 1962، وما بعدها؛ وهي نقطة العبور إلى المدينة: الحديدة، صنعاء، وعدن، وأحداث تنمو، ليس بشكل تصاعدي شأن الرواية القديمة، وإنما تتجه للسير أفقيًّا، الأمر الذي فتّت الحدث، وتماهى الزمان في المكان، ومكّنه من التحرر من قيود تثقل السرد وتقيده بما يبعده عن الإبداع، والمزج بين أكثر من أسلوب سردي.
ويؤرخ للنجدة القومية المصرية إلى المنطقة -منطقة عَبْس- المكان، ويكون زمن الرواية زمن ثورة سبتمبر وأكتوبر، وأحداثهما الزاهية والدامية معًا.
المكان المبتدأ "عبس"، وحتى حجة-المدينة، خط الدفاع الأول عن الثورة الوليدة؛ فشرقها وشمالها مناطق الهجوم الملكي المدعوم من السعودية، بينما المنطقة حجة: عبس، والزهرة، واللحية والزيدية هي الخطوط الأولى للدفاع عن الثورة والجمهورية.
السرد المائز والإبداعي ينوس ما بين التداعي، ويرتقي إلى السرد الشعري، ويجسده ضمير المتكلم والغائب.
من خلال السرد نستقرئ مرحلة ما قبل العام 1962، وما بعد الثورة في المناطق التهامية، كانعدام التعليم، وغياب الخدمات العامة، وانعدام المياه والكهرباء، وطرائق حياة بؤساء تهامة.
مع وجود الجيش المصري وجدت السينما لأول مرة، وبني مستوصف في القرية، ومدرسة حديثة، وبدأ التعليم الحديث والمواد العلمية: الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، التربية الفنية والوطنية تدخل لأول مرة في الـ(ج. ع. ي)، ويشير السارد إلى تفتق الوعي بالحداثة، وتداول الكتب الحديثة، كما يشارك السارد، ولأول مرة أيضًا، في انتخابات نيابية، وانتخاب النائبين: يوسف الشحاري، وعلي عبدالعزيز نصر، الشاعرين والشخصيتين العامتين.
لأول مرة تعرف القرية مواد غذائية غير معروفة قبلًا، وتتلقي الأدوية، وتعرف لبس الأحذية، وتقاليد الختان الطبية التي لم تكن معروفة، وفي هذه المناطق كان الختان البدائي هو السائد في مطلع القرن السابع الهجري، كما أشار المؤرخ ابن المجاور في كتابه «المستبصر»، ويأخذ الختان مساحة أوسع في رواية «ساق الغراب»، للروائي الرائع يحيى امقاسم، وقد ظلت هذه العادة قائمة حتى قيام الثورة السبتمبرية 1962، حيث يقام مهرجان تحضره القرية والقرى المجاورة، ويجري قطع قلفة الشاب المفاخر بحسبه ونسبه، ولا يبكي رغم القسوة التي قد تمتد إلى الفخذين، ولا يعتبر الشاب رجلًا إلا بعد الختان.
يتمازج السرد السّيَري بالتاريخي؛ الترابط الأسري، طرائق الزواج، انتشار الأوبئة الفتاكة كالجدري، والسل...، وتغول المشايخ، وزواج الصغيرات.
الشخوص عديدون: الطفل حسام الذي تتبناه مليحة زوجة الفقيه، وهي عاقر، وهديل الشابة العاشقة لحسام يهربان معًا ليأخذ بكارتها. البطل الرئيس عبدالملك، الطالب المجدّ والمجتهد ابن التعليم الحديث، والآتي من التعليم التقليدي. الأبطال الثانويون عديدون: حسام، هديل، يسلم، الفقيه وزوجته مليحة، الشيخ زاهر، وعايض، مراد عبدالحي، البطل السلبي، ميسون صديقة مليحة، وزوجها سائق اللاندروفر، ودرهم زميل عبدالملك في الدراسة، والانتماء الماركسي.
تسرد الرواية الخلايا الماركسية في مدينة الحديدة، والخلايا الأولى، والكتب، وطرائق التثقيف، والرصد الأمني للنشاط السياسي الحزبي، والتعذيب في المعتقلات السياسية، والإغراء بمختلف أساليب الإغراء، وأقسى أساليب التعذيب، ومنها عدم منح "حسن السيرة والسلوك" حينها، والتجويع، والضرب، والتعليق.
للمرأة حضور في "شرخ الماء"، وهي مشروخة في مجتمع القرية التقليدي؛ بطرائق الزواج؛ وزواج الصغيرات، وتغول الشيخ في التزوج بمن يشاء
يبدأ شرخ الماء في الرواية باعتقال الأمن السياسي للطالب عبدالملك، ويبدأ بإعلان إذاعة صنعاء بمقتل الشهيد إبراهيم الحمدي، ويزداد الشرخ بالتحولات الشاملة في المجتمع، ولجوء الشباب، أبناء الثورة، للعمل السري، والقمع الذي شهدته الحياة بعد الانحرافات في صف الثورة. ورغم تخفف الرواية من حمولة الأيديولوجيا الثقيلة إلا أنها تقدم توصيفًا دقيقًا للشرخ.
مسلك مراد عبدالحي- عضو المنظمة الحزبية، الذي يستقيل من القطاع الخاص؛ لأن للتاجر سجلين: سجل للحساب الحقيقي خفي، وسجل زائف للتهرب من الضرائب، ثم يقع في فخ الإغراء بسبب عدم الحصول على حسن السيرة.
للمرأة حضور في "شرخ الماء"، وهي مشروخة في مجتمع القرية التقليدي؛ بطرائق الزواج؛ وزواج الصغيرات، وتغول الشيخ في التزوج بمن يشاء، كالزواج من هديل بعد إفساد علاقتها بحبيبها العاشق حسام منذ طفولتهما. يصطاد حمامة، فيعطيها للصغيرة هديل، فتطير من يدها كترميز لمصير علاقتهما؛ فبعد أن هربت معه، وضياع بكارتها يتزوجان، ويكون الطلاق.
في الحديدة تحضر شخصية ميسون صديقة مليحة زوجة الفقيه في القرية، وزوجها سائق اللاندروفر، وماجد سيف، والطالب درهم الملتحق بالتنظيم الماركسي.
كثيرًا ما أكد نقاد الرواية باعتبارها ابنة الطبقة الوسطى، وثمرة الثورة الرأسمالية، وفاكهة المدينة. و"شرخ الماء"، وإن ولدت في الريف- عبس، إلا أنها نمت وتطورت وتشابكت أحداثها في المدينة، والقرية فيها منذ البدء ليست معزولة عن المدينة، فمعظم الشخوص، كعبدالملك، ومراد، وحسام، والمشايخ، لهم صلة بالمدينة، وتشابك الأحداث في الحديدة وصنعاء تأخذ المساحة الأوسع في المكان والزمان.
سرّ "شرخ الماء" يتجلى في الصراع والتفكك الذي ينخر المجتمع والأحزاب والسلطة، ويكون الشرخ هو المعنى العميق للرواية وشخوصها.
التثقيف، والنضال السري، وإخفاء الكتاب أو القراءة وكأنها داء وبيل؛ فالكتاب الماركسي لغم حقيقي، وأخطر من القنبلة، والأمن وحراس الأمن والعيون لا وظيفة لهم غير متابعة الناشطين السياسيين، ومصادرة الكتب، والبيانات الحزبية، واعتقال وتعذيب الحزبيين والمعارضين، والفساد ينخر جسد الحكم.
يربط السارد الرائع الفساد الوظيفي بالمالي والأخلاقي كحالة مراد- عضو المنظمة السابق، وزوجته سامية، وقد انتسب للحزب الجديد (المؤتمر الشعبي العام)، وصار يتغاضى عن سلوك زوجته.
تنوس الرواية بين السيرة الذاتية، وبين السيرة التاريخية، ولعل الشرخ الكبير هو أحداث أغسطس 1968، في صنعاء، و13 يناير 1986، في عدن، وهو الشرخ تكرر في حرب 94، وظل امتداده وآثاره فاعلة وحية.
السرد بالأغاني؛ لتصبح الأغنية مكونًا أساسيًّا من مكونات السرد. والرائع الجنس؛ ملح الطبخة، وبهاراتها يستخدم بحذق ومهارة وروعة وتقنية رفيعة، والربط بين اشتعال التنور، واشتعال الجسد.
يسقط البطل عبدالملك تحت هراوات الملاحقة والتضييق والفصل من الوظيفة، والاعتقال، والتعذيب، والتجويع حد الموت، والإغراء: الوظيفة، المال، الجاه، والجنس، ويبقى الرمز عبدالستار الرافض للحرب، وللمواجهات المسلحة في المناطق الوسطى، والناقد للسوفييت، وهو يتعرض للاعتقال والتعذيب في عدن، ويظل هاربًا متخفيًّا في الشمال، ويمثل الاستمرارية، والرمز للمستقبل.
الرواية هي المؤرخ الحقيقي للحياة العامة، لا كتب التاريخ الزائفة؛ كقراءة الناقد شوقي عبدالحميد يحيى في كتابه «دور الرواية العربية في الربيع العربي».
* عبد الرحمن الخضر، روائي يمني. صدرت له مجموعة قصصية في 2003 تحت اسم "سنكتب غدا"، كما صدرت له مؤخرا رواية "شرخ الماء".