لم تغادر تلك الإيماءات مخيلتي، متذكرًا ذلك الحديث بين الجيران وأنا مواصلٌ خطواتي السريعة على الطريق نحو منزلي، في حين أنّ صوت الطيران كان قد ارتفع ضجيجه وسرعته أكثر، حينها كنت قد ابتعدت عن منزل النجار (محمد قائد) الواقع أعلى العقبة الذي مررت بجانبه قبل لحظات لا تتعدى ثلاث دقائق، اجتزت فيها مسافة تصل إلى ما يقارب 150 مترًا.
فجأة، شيءٌ ما دفعني من خلفي بقوة، متبوعًا بسرعة، بصوت انفجار قوي، من شدة سماعه لا أعرف كيف أخفيت رأسي وجزءًا من كتفي بين أشواك شجرة بجانب حجر على قارعة الطريق، في حين لم أعد أشعر بجسدي وكأن حواسي الخمس قد توقفت، كما لاحظت ذلك من الصعوبة التي واجهتها لتحريك يدي وإزاحة الأشواك المؤلمة من خدي وأذناي ومقدمة رأسي.
أتذكر جليًّا كيف بدأت الحرب وتسللت إلى منطقتنا، وكيف استطاع طرفا الصراع المستمر تقسيم الحي الذي أسكنه في تعز (جنوب غربي اليمن)، إلى نصفين. لم يعد هناك شيء في الذاكرة سوى المأساة وكيف بدأت، قبل حلول مساء 20 أغسطس/ آب 2015، عندما تفاجأ سكان حي "صالة" باشتباكات بين مسلحين يتبعون طرفي الحرب، وكأنما كان كل شيء مُجهَّزًا ومُعدًّا مسبقًا.
بمجرد أن انتهى صوت الانفجار، حاولت إخراج رأسي من بين تلك الأشواك، وإذا بصوت وصول الشظايا بكل مكان بالقرب مني، مما جعلني أخِز رأسي مجددًا بين تلك الأشواك الجارحة وعيناي المفتوحتان يراقبان سقوط تلك الكرات الحمراء الصغيرة والكبيرة المتناثرة على جدران المنازل والطريق دون أن أعلم من أين مصدر انطلاقها.
لم أستوعب ما رأيته، عندما حاولت أن أتمالك نفسي وأقف على قدمي، فتحت عينيّ على ما يشبه الجمر الملتهب في السماء يتطاير بعيدًا في كل مكان، كان جسدي يرتعش خوفًا حينما كانت تسقط أهوال تلك الشرارات وتصدح بأصوات ضرباتها الخارقة فوق المباني وعلى طريقنا المرصوص بالأحجار الصلبة، لتتطاير في كل مكان بصورة لا تجد وصفًا لشدة رعبها.
بالطبع لم تكن كل تلك الشرارات المتساقطة شظايا الصاروخ المنفجر، فبعضها كانت أحجار المنزل المدمر، وبعضها كانت قطعًا حديدية، لكنها جميعًا كُرات حمراء مختلفة الأشكال، جمعَها تطايُرها في الجو.
لم أستوعب ما حدث سريعًا حتى سمعت صراخ النساء، وبدأت أقدامي بالتحرك لتشدني باتجاه الدخان والغبار المتطاير، حينها كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف مساءً. أسرعت قدماي كلما سمعت صوت الصراخ لأجد نفسي بين عشرات الشباب من أهالي المنطقة مهرولين إلى مكان الحدث.
صحيح انخفضت حدة المعارك العسكرية على جبهات القتال، وتوقف قصف الطيران السعودي الإماراتي، لكن المأساة لم تتوقف، رعبها محفور في النفوس كذكرى لا يمكن أن تمحى بعوامل الزمن وتوقف صوت المدافع والغارات؛ هناك وجه آخر لهذه الحرب أكثر بشاعة وتوحشًا يجب أن يروى، كما سنعاين ذلك من "صالة" في تعز، ومأساتها التي تجسد ما عايشه اليمنيون من هول المعارك وقصف الطيران منذ العام 2015.
مأساة القصف وبشاعة الحرب
مساء الخميس، الموافق 20 أغسطس/ آب 2015، بدأت والدتي بتجهيز العشاء، وتراهنت معي لكي أذهب إلى سوق المنطقة البعيد شرقًا عن منزلي مسافة نصف كيلو تقريبًا لشراء الحليب والملح. كان أمامي وقتٌ محدد لا يتجاوز 15 دقيقة، وخلاله يجب أن أثبت لها أنها أفرطت بطرح الوقت المتاح والذي كان طويلًا جدًّا بالنسبة لي.
ذهبت إلى السوق راكضًا تحت ضوء القمر لشراء الأغراض التي تنتظرها والدتي، وفي طريق العودة كالعادة سلكت طريق العقبة، وهي طريق شبه عمودية لبضعة أمتار فقط، كفيلة أن تكون بمثابة تحدٍّ للسيارات القوية والضعيفة حتى تصل إلى أعلى تلك العقبة المعروفة في "صالة" بمنزل محمد قائد (بيت النجار).
في ذلك الوقت، سمعت صوت الطيران يحلق بالسماء. لم أعِر الأمر أي اهتمام؛ لأنّ ضرباته كانت تقع في أماكن بعيدة عن المنطقة، وكانت بالطبع فترة ذروة قصف طيران التحالف في مدينة تعز وباقي الجغرافية اليمنية، في الوقت ذاته، ومن سخرية القدر، راودني شيء آخر أثناء سماعي صوت الطيران، حينها تذكرت تصرفات جيراني عند سماعهم صوت الطيران في أيام قليلة سابقة، في وضح النهار وهم فوق أسطح منازلهم يستشعرون أين سيضع الطيران أثقاله، حيث كان أحدهم يخاطب الآخر ظهيرة أحد الأيام قائلًا: "الطيران يستهدف التأريخ اليمني القديم والآثار، وأخاف أن يستهدف بغاراته قصر الإمام (قصر الإمام أحمد المعروف بقصر صالة)؛ لأنه لا يوجد في منطقتنا غير هذا المبنى الأثري القديم!"، ليجيبه الآخر الذي كان يعتلي سطح منزله أيضًا بكل ثقة: "لا تخف على قصر الإمام، فالإمام أحمد كان لديه (جن) لا يزالون داخل القصر يحرسونه ويستطيعون التصدي لأي صاروخ قد يستهدف القصر"، وأشار بيده اليمنى واليسرى إلى أعلى رأسه، مبينًا كيف سيتصدون الجن لأي هجوم.
هكذا حاول البعض مواجهة مأساتهم التي لم يكن في مخيلة أحد أنها ستطول لسنوات؛ حيث تابع هذا الرجل حديثه لجاره بالقول: "إذا كان الطيران يريد أن يستهدف قصر الإمام لكان فعلها منذ البداية، ولكن لا يستطيع فعل ذلك حتى وإن قرر القصف، فالجن يمنعون الطائرات ويصعدون إليها ليعطلوا أنظمتها". هذا ما كان يثير "ضحكي" بمفردي وأنا أركض في الطريق عائدًا بالحليب والملح إلى أمي لإعداد وجبة العشاء.
لم أستوعب ما حدث سريعًا حتى سمعت صراخ النساء، وبدأت أقدامي بالتحرك لتشدني باتجاه الدخان والغبار المتطاير، حينها كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف مساءً. أسرعت قدماي كلما سمعت صوت الصراخ، لأجد نفسي بين عشرات الشباب من أهالي المنطقة مهرولين إلى مكان الحدث.
تفاجأنا جميعًا أثناء وصولنا إلى منزل (محمد قائد) المتناثرة أحجاره على الطريق بشكل كامل، حيث يكاد أن يختفي تمامًا رغم مساحته الكبيرة والمكون من ثلاثة طوابق. كانت الأدخنة لا تزال تتصاعد من بين الركام، وبدأت بمعية أصدقائي وبعض سكان الحي من كبار السن وغيرهم بأعمال الإنقاذ؛ إزالة التراب والنبش في الركام وسط صرخات وبكاء النساء من المنازل المجاورة.
كنت أقوم بإزالة الأحجار والركام، وأشعر بحرارته وبجواري تفوح رائحة الجثث المحترقة. أعتقد أنّ من لطف الله أنني فقدت رائحة الشم ذلك الوقت من هول المنظر ونحيب من جاؤوا للإنقاذ والمساعدة.
فيما كنا بحالة ذهول وصدمة من هول المأساة، كانت هناك مشاهد ضاعفت الصدمة لدينا، عندما انسل البعض، مغطين وجوههم، إلى مكان المأساة، ليس للمشاركة بالإنقاذ، بل كانت المفاجأة قيامهم بأعمال النهب لمحتويات وأثاث وأدوات المنزل المدمر، مع وصول الأمر إلى نزع المجوهرات من يدي وعنق جثة محترقة لامرأة لم يتبقَّ سوى نصفها. هكذا كشرت الحرب عن بشاعتها ووحشيتها ومختلف أوجهها القاتمة منذ اشتعالها في العام 2015.
عاود الطيران تحليقه للمرة الثانية في سماء المنطقة بعد عدة دقائق من الضربة الأولى ليبث فينا الرعب والخوف، خشية أن يتم استهداف المكان مرة أخرى. أصابنا ذلك بالفزع المتزامن مع انفجار آخر مدوٍّ بفعل غارة جوية أضاءت الحي بأكمله، حيث استهدفت منزلًا آخر لا يبعد كثيرًا من دمار المنزل الأول.
بعد أن استوعبنا صدمة الانفجار الثاني، ذهب البعض لمعاينة المكان وتقديم ما أمكن من المساعدة في الإنقاذ، في حين واصل آخرون ممن بقوا البحثَ بين ركام (بيت محمد قائد) المدمر، فقد تم إخراج جثث وأشلاء متفحمة.
في خضم ذلك، تبادر إلى سمعنا صوت أنين من الألم، ليتركز جهدنا جميعًا في الوصول إلى مكان انبعاث هذا الصوت، والذي تطلب إزاحة كتلتين إسمنتيتين شكّلتا مثلث حماية ساهم في بقاء أحد ضحايا المنزل (يوسف محمد قائد- البالغ من العمر 30 سنة) على قيد الحياة. تم إخراج الشاب الناجي الوحيد من الأسرة بأكملها من بين الركام والأنقاض بأعجوبة، إلا أنه كان فاقدًا للسمع من هول وشدة الانفجار الذي حدث له ولأسرته، ليرافقه الصمم بقية حياته، بينما بقية أسرته بالكامل التي كانت بداخل المنزل تناثرت أشلاؤها وتلاشت بين الركام.
غارات لقتل المزيد
لم تكن الغارة الجوية الثانية بالهينة إطلاقًا، حيث استهدفت منزلًا مدنيًّا مكونًا من ثلاثة طوابق، لا يبعد أكثر من 70 مترًا تقريبًا عن دمار الغارة الأولى، حيث أحدث الانفجار هزة أرضية مدوية، حوّل حياة ما لا يقل عن أربع أسر إلى أشلاء تحت الأنقاض.
هرع حينها بعض الشباب ممن كانوا حولي فوق ركام ودمار الهجمة الأولى إلى موقع قصف الهجمة الجديدة الثانية القريبة أيضًا منا، بينما أنا لم أستطع أن أحرك أقدامي تائهًا بذاتي بين الحيرة والذهول بسبب ما يحدث حولي.
فقد طال النسيان الأغراضَ التي ذهبت لشرائها وتنتظرها أمي، التي لم أفكر بقلقها الشديد في هذه اللحظات، حيث تأخرت في العودة إلى المنزل، وهول ما حدث خلال فترة ذهابي إلى البقالة والفوز بالرهان والتحدي مع أمي.
هذا اليوم، 20 أغسطس/ آب، هو الذكرى الثامنة لمأساة جريمة بحق الإنسانية ارتكبها طيران التحالف بشن 6 غارات جوية متتالية في غضون نصف ساعة فقط في محيط جغرافي لا يتعدى 200 متر مربع، استهدف في أغلبها منازل مدنيين في محيط قصر صالة ليتسبب بمقتل وجرح عشرات الضحايا من الأطفال والنساء والرجال.
لم يتأخر كثيرًا من ذهبوا لمد يد المساعدة لإنقاذ ضحايا الهجمة الثانية ذات الخسارة البشرية الهائلة، حيث عادوا سريعًا، من حجم الكارثة المأساوية التي شاهدوها، لقد كانت طوابق المنزل الأربعة مكومة فوق بعض ومستوية على الأرض بكل الأسر التي كانت تسكنها والتي تم دفنها تحت الأنقاض. وعمت روائح الجثث الكريهة المنطقة لأيام فيما بعد، بسبب عدم القدرة على إخراجها.
لم تمضِ سوى دقائق معدودة من الهجمة الثانية في تلك الليلة الموجعة إلا وقد ملأ صراخ الناس جميعًا أرجاء الحي، كلٌّ على ما حدث له من ضرر بسبب شدة الضربات الجوية. وقتها حلق الطيران للمرة الثالثة واستهدف مباشرةً بغارتين جويتين منزلًا شعبيًّا ومكانًا فارغًا في محيط (قصر الإمام) في الحي ذاته، وعاود التحليق للمرة الأخيرة واستهدف بغارتين جويتين محيط القصر مرة أخرى، حيث دمر القصف منزلًا سكنيًّا آخر، وتسبب بأضرار بالغة في منازل أخرى مجاورة، إضافة إلى جرح عشرات المدنيين بينهم نساء وأطفال.
كرة نار ليلة مأساوية
هذا اليوم، 20 أغسطس/ آب، هو الذكرى الثامنة لمأساة جريمة بحق الإنسانية، ارتكبها طيران التحالف بشن 6 غارات جوية متتالية في غضون نصف ساعة فقط في محيط جغرافي لا يتعدى 200 متر مربع، استهدف في أغلبها منازل مدنيين في محيط قصر صالة، ليتسبب بمقتل وجرح عشرات الضحايا من الأطفال والنساء والرجال.
في تقرير حقوقي نشرته مواطنة لحقوق الإنسان أواخر العام 2015، سلطت فيه الضوء على عدد من الضربات الجوية للتحالف في عدد من المحافظات اليمنية، من بينها تلك الضربات التي حدثت ليلتها في حي صالة، واصفًا إياها التقرير بأنها إحدى أدمى هجمات التحالف بقيادة السعودية، فقد لقي قرابة 50 مدنيًّا حتفهم، بينهم 23 طفلًا و12 امرأة، وأصيب آخرون (31 شخصًا) بجروح، بينهم تسعة أطفال وثماني نساء. حيث أسمت مواطنة تقريرها (غارات عمياء) آنذاك، محاكيًا واقع ما حدث فعلًا، فما حدث ليلتها في حي صالة هو غارات عمياء لم تجد طريقًا للقتل غير ضحاياها المدنيين من الأطفال والرجال والنساء.
في الوقت الذي نشهد فيه الذكرى الثامنة (مرور 8 سنوات) من تلك الليلة الموحشة بدمارها ومأساتها، لا يزال العم محمد قائد يبني بيته الذي لم يكتمل بنفسه على أنقاض الركام والدمار.
بالحديث عن ذكرى ما خلفه طيران التحالف من دمار لمنزل النجار محمد قائد في الغارة الجوية الأولى، في تلك الليلة، والذي فقد فيه رب الأسرة جميع أحفاده وبناته وأبنائه، عدا واحد تم إنقاذه، فقد كان قدر رب الأسرة (محمد قائد) يومها أن يكون في الأراضي المقدسة مع زوجته لأداء مناسك العمرة في السعودية، بعيدًا عما حدث لبقية أسرته، ولم يعلم ما حدث إلا اليوم الثاني أو الثالث بعد أن تواصل به ساكنو الحي تليفونيًّا. لا نعلم كيف كانت حالته يوم تلقى ذلك الخبر الحزين.
عاد بعدها إلى منزله المدمر، يقف بحزن شديد بين الركام طيلة النهار، وينام عليه طيلة الليل، لا يفارق ركامه وحطامه، رغم عرض بعض الجيران منازلهم ليبيت فيها، رفض ذلك وفضل البقاء في مكان صغير بناه في إحدى زوايا منزله فوق الدمار ليبقى فيه مع زوجته.
هكذا بدأت الحرب وثقلت أوزارها، ككرة نار تدحرجت في ملعب كرة قدم، معلنةً انطلاق شرارة حرب مسعورة؛ وضعت الحي الذي نقطنه في منطقة صالة بمحافظة تعز، ما بين خط المنتصف ومنطقة الجزاء لملعب يتوسطه طرفا الحرب، بل وضعت اليمن كلها في ذات النقطة وحوَّلتها إلى كومة هائلة من ركام المآسي.