إن أي عمل فني إبداعي يدور داخل ثلاث دوائر عامة مفتوحة، هي: الماضي والحاضر والمستقبل، لكن المفردة النهائية لنجاح أي عمل هي: الموهبة، الموهبة بدهشتها وعمقها، والدهشة بانفلاتها على المعرفة والحرية والجمال، الدهشة بسمو فكرتها واتقاد بريقها. وتعد الأعمال القديمة مثل ألف ليلة وليلة في الشرق والأوديسة في الغرب -مثلًا- من الأعمال، التي جاءت لتترجم، واقع الشعوب في تلك الحقب التاريخية؛ فألف ليلة وليلة عكست روح الشرق، وقدمته للعالم، منطلقة من واقعة شهريار الذي كان لا يثق بالمرأة، ويرى أنه لا بد من قتل امرأة كل ليلة؛ ولأن هذا الحديث عنيف، فقد لجأ الخيال الشعبي إلى تسطير حكايات ألف ليلة وليلة، تلك الليالي التي لم تنتهِ بعد ذلك؛ لأنها كل يوم كانت تترك سؤالًا جديدًا، في إشارة إلى أن فكرة العالم؛ أو الكون بُنيت على التساؤل، والبقاء والمحافظة على النوع البشري من أجل الحصول على الإجابة التي تتأبى –عادة- والإجابة النهائية لا تعني سوى نهاية العالم!
وكذلك الأوديسة، فقد انطلقت من حادثة عادية –مكملة للإلياذة- إلا أنها ليست عادية بمعنى آخر؛ لأنها تمثل منشأها الوجودي بأبعادها العديدة، المتعلقة بحاجة الإنسان، وشغفه الدائم بالبحث عن إجابات للأسئلة الإنسانية العالقة والمتعلقة بالحياة وغرابتها، والشعور بأنها لغز يقود الإنسان إلى العذاب، وهي تمثل وجهة نظر الإنسان حول العالم في تلك الفترة، وجديرٌ بالذكر أن ملحمة الشاعر الأعمى هوميروس تحكي قصة أوديسيوس ملك "إيثاكا"، الذي حسم حرب طروادة وعزم على العودة إلى الديار، ولكن غضب إله البحر "بوصيدون" أعاق مشوار العودة بوضع العقبات والعراقيل التي استمرت مواجهتها عشر سنوات من أجل العودة إلى الزوجة الوفية "بينيلوبي"، التي كانت في انتظاره رغم الإغراء؛ فأصبحت رمزًا للوفاء.
هذه الأشكال القديمة، التي نسبت لجذورها استدعت الحاجة الأدبية والمعرفية والأخلاقية للوجود وفسرته وَفق وعيها.
وإذا كانت هذه الأشكال الإبداعية "الأثنوجرافية" تجسد الرحلة إلى الداخل المحسوس والمُشاهد في الحياة اليومية؛ فإن الرواية الخيالية والشعر والقصة والسينما والمسرح والدراما، تمثل عكس ذلك؛ فهي رحلة إلى عالم جديد آخر؛ لأنها ابنة لحظتها التاريخية الجديدة، فالأثنوجرافي بحث عن حل أرضي بقصد الانتقال من مكان إلى آخر، وهو عمل مرحلي له علاقة بإشباع حاجة الذات عبر الجغرافيا المحددة بخرائطها، وعلاماتها. أما رحّالة الخيال العلمي مثلًا، فإنه يذهب إلى الأعلى، وربما يغيب عن العالم ويموت، ثم يحيا وينطلق على هيئة أخرى في عالم آخر.
الإبداع حاجة إنسانية
ولعل السؤال الذي سنقف إزاءه هنا هو: إلى أي مدى يحتاج الإنسان إلى الفن والخيال الإبداعي، ثم هل يعبّر ذلك عن الهوية أم يعبر عن حالة اغتراب في مجتمعاتنا العربية، وخصوصًا اليمن؟
إننا هنا لا نسعى إلى التعبير عن إجابة، أو التأصيل لمفهوم قدر ما نسعى إلى الاقتراب من الغيوم الملقاة في أفق لا نهائي. هناك إشكاليات غريبة في واقع الأمة العربية، وخاصة اليمن- بلادنا؛ ففي الوقت الذي يتوق فيه العالم إلى الخروج عن الكون، والبحث عن أكوان جديدة، يعكف العرب على مفردات مثل: "الصحوة الإسلامية" أو "حجاب المرأة" أو "الإسلام هو الحل"!
ربما يبدو السؤال خارجًا عن الاسترسال الموضوعي للفكرة، لكنه في صميمه جملة وتفصيلًا؛ لأن مثل تلك الأفكار لا تمكّن القارئ أو الباحث من الفهم، فالدعوة إلى التقوقع الديني، قادنا إلى تقوقع معرفي، وبالتالي غابت عن حياتنا، وعقولنا اشتهاءات هي في الأساس احتياجات لها علاقة بالتكوين الإنساني المراد. ومن ذلك، حاجة الإنسان إلى الإبداع؛ لأن الإبداع في كافة أشكاله هو حالة وعي بالذات، وبالتالي حالة وجود؛ فلنتخيل الحياة بدون كتابة. الحياة بدون شعر أو قصة أو رواية أو مسرح وسينما وموسيقى ورسم وخيال علمي، لا يمكن بأي حال من الأحوال قبول ذلك؛ لأن كل ما ذكرته له علاقة بخيال الإنسان. الخيال الذي يساهم في نمو الإنسان ونمو ذاكرته وحاجته إلى مستقبل أكثر جمالًا. وغياب الخيال الذي تستدرجه عادة ظواهر القمع، لا يعني سوى استنزاف الإنسانية والصحراء بكل خوائها وعماها، والجبال القاحلة بكل ثقلها وانكسارها. فهذا كنفوشيوس يقول: "لا تسردوا لي تاريخ أي شعب من الشعوب، وإنما غنوا لي أغانيه".
يمكن القول إن سبب الحروب التي ابتليت بها العديد من الأقطار العربية، وخاصة اليمن، يعود إلى غياب الفن الخالد والملاحم النصية التي تدعو إلى الجمال وثقافة التسامح
إن الفن هو تعبير عن هوية الإنسان على ظهر الطبيعة، وهو يعني فيما يعني بصمة الشعب الإنسانية التي سيتركها للأجيال المتلاحقة. ولعل ابن خلدون كان محقًّا حين عدد الصناعات المهمة في العمران البشري، وذكر منها "الغناء والبناء"، وأحب هنا أن أورد تعريفًا عن الفن -الفن في أشكاله المختلفة- كما صاغه أحد المبدعين: "هو محاولة البشر لتصوير الإيقاع الذي يتلقونه في حسهم من حقائق الوجود؛ أو من تصورهم لحقائق الوجود في صورة جميلة مؤثرة".
ويمكنني القول مما سبق كله، إن سبب الحروب التي ابتليت بها العديد من الأقطار العربية، وخاصة اليمن، يعود إلى غياب الفن الخالد والملاحم النصية التي تدعو إلى الجمال وثقافة التسامح، ولعل ما حدث من تجريف في اليمن للفنون، خير دليل على ما أردت الذهاب إليه.
من كان يتصور أن تتحول اليمن من منبع للفنون والإبداع إلى ما نحن عليه؟ قرأت كثيرًا في كتب التاريخ العربي؛ معظمها عندما تؤرخ للفنون تعود إلى اليمن. في فن العمارة مثلًا، يتحدثون عن القصور العظيمة التي شيدها اليمنيون والسدود ونظام الري الذي لا تزال شواهده قائمة في النصوص النقشية. من القصور مثلًا، قصر غمدان، ومن السدود سد مأرب العظيم، وجميعنا يتذكر هذا البيت الشعري القديم -الذي يتحدث عن حقبة الدولة الحميرية- وورد ذات حلم في مناهجنا الدراسية:
وفي البقعة الخضراء من أرض يَحْصُبٍ ثمانون سدًّا تقذف الماء سائلَا
وهو ما تريد إرادة الخالق في هذا الزمن أن تذكرنا به حين حفرت الأمطار عميقًا في البحث عن الغيول والعيون والأنهار التي دفنتها عوامل التعرية، ومن ذلك، الأخبار التي تتحدث عن النهر الثالث الشبيه بنهر النيل، ولكن السيول طمرته قديمًا.
أما حين يؤرخ الموسيقيون للموسيقى، فيقولون تعود الموسيقى إلى صانع أعواد في اليمن قبل الإسلام، كان يقصده المهتمون من الجزيرة العربية كلها للاستفادة منه. وكذلك حين يتحدثون عن الغناء، يقول دكتور حسين نصار: "فقد وهب اليمنيون الفنون الشعبية أدبًا رائعًا، خالدًا، كانوا يتغنون به في كل موطن حلوا به قبل الإسلام وبعده، وبقي عندنا من هذا الأدب الشعبي اليمني ثمرتان؛ الأولى منها ما رواه عبيد بن شرية الجرهمي لمعاوية بن أبي سفيان في مجالسه الليلية، واستولى منه على اللب، فأمر كتبته بتدوينه فدوّن، ووصل إلينا حاملًا عنوان "أخبار عبيد بن شرية"، والثمرة الثانية ما رواه وهب بن مُنبّه ودوّنه ابن هشام صاحب "السيرة النبوية". [د.حسين نصار، الشعر الشعبي العربي، منشورات اقرأ، ط2 1980م، ص23].
ومن يستطيع أن يتجاوز فن الروْي الذي أصبحت فيه سيرة سيف بن ذي يزن اليمنية تروى في كل الأقطار العربية، وسيرة بني هلال، وغير ذلك. أما قصة امرئ القيس مع الشعر، فهي معروفة لدى الجميع، ثم ما تلا ذلك من كتابات الإخباريين. يقول نصار:
"فإذا تركنا اليمن لم نجد شعبًا، بل قبائل، لا يعرف أفرادها غيرها ولا تتجاوب مشاعرهم مع سواها". [نفس المرجع السابق].
ما أمرّ الحياة بلا فن
ومن المعروف أن مدينة عدن أول بلد في الجزيرة العربية عرفت ما هو المسرح قبل مئة عام من اليوم؛ ففيها عُرضت أول مسرحية عام 1904، مع مطلع القرن العشرين الماضي، والعرض قدمته فرقة هندية كانت في طريقها إلى دولة أفريقية، ووقفت في ميناء عدن للاستراحة والتزود بالوقود. وبعد ذلك أصبحت عدن فضاء للمسرح والغناء. وحين اشتعل النور مع بداية الثورة اليمنية عام 1962، تفاءل الناس خيرًا –بعد أن أغلق الإمام أحمد ووالده الإمام يحيى، اليمن لعقود طويلة. وبدأ الناس يؤرخون لبداية جديدة مع حياة جديدة تتآلف مع تغييب صوت البنادق في سبيل فتح المجال لصوت المسارح ودور السينما ومعاهد الفن.
ربما يؤدي بناء المعاهد الموسيقية والمسرحية والسينمائية في اليمن، إلى دخولها سوق الفن العالمي، وبالتالي اكتساب خبرات تعود على اليمن بدخل مادي ومعنوي، خاصة أن مجالها الجغرافي وإرثها الموسيقي وموروثها الشعبي، لم يُستثمر بعد
وها هو صاحب نوبل، نجيب محفوظ، يزور اليمن مع بزوغ صوت الثورة عام 1968، ويقول: "أخيرًا تراءى لنا ميناء الحديدة. تطلعنا بشغف نحو الأرض التي ظلت دهرًا طويلًا متقوقعة، حتى ثارت ثورتها فحطمت القشرة الصلبة التي تحسبها فيما وراء التاريخ". ويقول في مكان آخر: "لقد أغلقت اليمن الأبواب على نفسها ألف سنة فلم يختفِ منها الشعر، ولكن المشكلة الحقيقية متى يغزوها العلم؟". ولعل هذا القول الصائب يحمل العديد من الدلالات، فالعلم هو في الحقيقة من سيسمح للحياة بالتدفق. ما أمر الحياة بدون كل ذلك الجمال؟ إذ إننا لا نستطيع أن نتخيل الحياة هكذا بدون فن.
بدأت محنة تغييب الفنون في اليمن مع انتشار المدّ الوهابي في الجزيرة العربية بداية عقد الثمانينيات؛ حيث بلغ تأثير الإسلام السياسي أوجه، حين أُغلقت 49 دار سينما في اليمن، وتعطلت دور المسارح التابعة للدولة والمراكز الثقافية والمدارس، فلم تعد هذه المسارح تحتفي بالفن والغناء والمسرح، وإنما فُرّغت تمامًا للمهرجانات الرسمية والخُطب الدعائية للأحزاب وغيرها. وقد تبع ذلك تنزيل مادتي التربية الموسيقية والرسم، من المنهج المدرسي، أما التربية البدنية فقد كان يتم التعامل معها بلا مبالاة، كون الاهتمام بالكرة يلهي عن ذكر الله.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه، أن اليمن شهدت نهضة إبداعية في سبعينيات القرن العشرين الفائت، التي فُتحت فيها قاعات المسرح والغناء والسينما وانتشر الفن بشكل غير مسبوق، ثم تحوّل الأمر إلى أن غُيّب تمامًا في فترات لاحقة. أما اليوم، ومع ارتفاع صوت الدبابات والطائرات والرصاص، وصل الأمر إلى مداه المنفلت، حيث أصبح الفن يتعرض للإقصاء والملاحقة والقتل. كل ذلك بسبب عدم استشعار وتفهم القائمين على الحياة العملية، حاجة الإنسان إلى الإبداع، غير واعين بأن جحيمية الحياة التي نعيشها تعود إلى غياب الأنساق الروحية والبصرية عن المشهد الثقافي. وغير منتبهين بقصد، إلى أن أهمية حضور الفن بأنواعه المختلفة، سيعمل كثيرًا على التقليل من معدلات الجريمة، وأن الفن: مسرح، غناء، سينما، تمثيل...، سوف يستثمر الكثير من الطاقات الشبابية المهدرة، وربما أدى بناء المعاهد الموسيقية والمسرحية والسينمائية إلى دخول اليمن سوق الفن العالمي، وبالتالي الاستفادة من مخرجات الفن عبر المشاركة والمساهمة في الحضور الدولي؛ وبالتالي اكتساب خبرات تعود على اليمن بدخل مادي ومعنوي، خاصة أن اليمن ما تزال مادة خصبة لم يتم الاستفادة من مجالها الجغرافي وإرثها الموسيقي وموروثها الشعبي.
إننا في هذا البلد الغني بمورثه نحتاج بدرجة أساسية إلى ثورة ثقافية تحقق الرفاه للمجتمع، لأن مقياس تطور البشرية اليوم يقاس بمدى ما يتبلور من وعي وطني وإنتاج ثقافي. ولعل غياب كل ذلك هو الذي أنتج حربًا ضروسًا يكاد يكون الأمل بسيطًا في إيقافها. وكلما أوغلنا في الاحتراب تضاءل دور العطار في أن يفعل شيئًا.