صدر للكاتب اليمني جمال الشعري، عن دار يسطرون في القاهرة، 2021م، عملُه الروائي الثاني "رواية غير مشروعة"، (132 صفحة). بعد سنواتٍ أربع على إصدار عمله الروائي الأول، "تراي شيزوفرينيا".
يحيل العنوان "رواية غير مشروعة"، على حيثيات صياغته التي يتضح -بقليلٍ من التأمل- أنها ليست صياغةً لعنوانِ روايةٍ بقدر ما هي واحدٌ من توصيفات الرواية التي بين أيدينا، والتي من أبرز خصائصها -وفقًا للعنوان- أنّ نسقًا معينًا من التشريعات صادر مشروعيتها، وفي مفتتح الرواية جاءت إشارة الكاتب إلى هذا النسق الذي تقوم عليه سياسةُ النشر، وإلى تماشيه معه -مُكْرَهًا- حينما عدل عن العنوان الأصلي "زنوة قبيلي"، إلى هذا العنوان/ التوصيف.
الشخصيات، وتجانس النزعات الانتقامية
ورد في الرواية عددٌ من الشخصيات، اثنتان منها كانتا رئيستين: "شمسان"، و"عيبان". حيث سُرِدَتْ تفاصيلُ من حياتيهما، لا سيما ما يتعلق منها بأحداثٍ فضاؤها الزمني العقدان الأول والثاني من الألفية الثالثة.
تجانست الشخصيتان الرئيستان في كثيرٍ من السمات، إذ جمعتهما وصمةُ عارٍ اجتماعية واحدة، "لُقَطة/ لقيط". كما تجانستا في تشابه الحيثيات التي وَصَمَتْهما بهذه الوصمة؛ فشمسان مولودٌ لطبيبَين أجنبيين، كانا يعملان في اليمن، فرَّطا فيه بعد انفصالهما وسفرهما، كلٌّ في وجهةٍ مغايرة لوجهة الآخر، فتبنَّت الطفلَ المهمشةُ السمراءُ التي كانت عاملةً لديهما. ومثله عيبان، فقد وُلد في صنعاء لأبوَين اشتراكيَّين، أُودعَ الأبُ السجنَ بعد أحداث 1994م، وفرَّت الأم إلى عدن، بعد أن تركت طفلها -حفاظًا على حياته- في باب أسرة الصحفي الذي لم يُرزق بمولودٍ منذ سنين، والذي سعدَ به وتبنّاه.
كرؤيةٍ في انفصام المجتمع دينيًّا، يتمظهر الانفصامُ الديني في حياة شمسان، فهو في الظاهر متدينٌ صوفيٌّ مجيدٌ الإنشادَ، وفي الباطن ساخطٌ على هذا التصوف بمعناه السائد القائم على تقديس الشخصيات، مفضِّلًا عليه التصوفَ بمعناه الإنساني الشامل.
وتجانسٌ آخر بين الشخصيتين يظهر في صياغة اسميهما، وفي الدلالة على جبلين يمنيين مشهورين؛ جبل "شمسان" في مدينة عدن، وجبل "عيبان" في صنعاء، وفي هذه الدلالة بُعْدٌ رمزي تحيل فيه جغرافيا الجبلين على معاناة الوطن الشاملة.
وتتمظهر جوهريةُ التجانس بين الشخصيّتين، في اضطهادهما الاجتماعي والتنمّر عليهما. ومن ثَمّ في مصيرهما الواحد، الذي وصلت بهما إليه دراماتيكية الأحداث من هامشية الحياة إلى سدة القيادة العسكرية، حيث أصبح كلُّ واحدٍ منهما قائدًا نافذًا في أحد طرفي الحرب اليمنية المندلعة في مارس 2015م. ولم ينل من جوهرية تجانسهما هذا التناقض في انتمائهما العسكري؛ إذ كان تعاطيهما واحدًا مع وضعهما الجديد، كلاهما انتهزه في ممارسة انتقامه من مجتمعه، وفي استثماره للحرب والتَّكسُّب منها. عزّز هذا التجانس المكانُ الواحد الذي آلَ إليه مصيرهما السلطوي، (محافظة تعز)، حيث انقسما بانقسامها، كلّ واحدٍ في الجغرافيا الخاضعة لسيطرة الطرف الذي ينتمي إليه، شمسان في "يفرس"، ومحيطها (جنوب غرب المدينة)، وعيبان في منطقة الحوبان (شمال شرق المدينة). وقد سلطت واحدية المكان -هذه- الضوءَ على حال "تعز"، الممزقة بالظلم من شتى المتحاربين.
الخطاب الروائي
قدم هذا العمل السردي الواقع اليمني على حقيقته، بما فيه من انفصامٍ، وعنصريةٍ وطبقية. لم تقتصر معاناة شمسان على تلك الوصمة الاجتماعية، وإنما ازدوجت فيها معاناته العنصرية؛ لانتماء أسرته إلى طبقة المهمشين "الأخدام". هذه الطبقة التي تقع في أدنى قاعدة الهرم الاجتماعي، وردت على لسانه صورٌ من حياتهم، من مثل: خصوصية سكنهم في مجمعٍ اصطُلح عليه "المحوى"، مساكنهم فيه عشش الصفيح، أنهم منفتحون جنسيًّا. يغلب على نسائهم امتهان التسول، وعلى رجالهم انعدام حس المسؤولية الاجتماعية والأسرية، والميل إلى اللهو، ومن يعمل منهم في حمل البضائع، يبذر أجرتَه في شراء القات وتوابعه.
وكرؤيةٍ في انفصام المجتمع دينيًّا، يتمظهر الانفصامُ الديني في حياة شمسان، فهو في الظاهر متدينٌ صوفيٌّ مجيدٌ الإنشادَ، وفي الباطن ساخطٌ على هذا التصوف بمعناه السائد القائم على تقديس الشخصيات، مفضِّلًا عليه التصوفَ بمعناه الإنساني الشامل، ولم يتضمن العمل ما يحيل على الكيفية التي اكتسب من خلالها شمسان هذه الرؤية الصوفية بمعانيها الإنسانية الشاملة. كما يناقض ظاهرُ شمسان المتدين حياته الشهوانية، ومغامراته الجنسية مع ابنة العاقل، مفرغًا في لقاءاتهما نزعته الانتقامية من أخيها المتنمر عليه خاصة، ومن المجتمع في سياقه العام. انتهت مغامراته -تلك- بمجاهرته بها، وعلى إثر ذلك يقتل الأب ابنته غاسلًا العار، ومتوعدًا الشاب بالقتل حينما يظفر به، لكن الشاب كان قد نجا بنفسه قابلًا الانضمام إلى واحدٍ من طرفي الحرب، منتهزًا عرض قائدٍ من قاداته، ولم يعد إلى قريته إلا قائدًا عسكريًّا ناقمًا على أهلها.
قدمت الرواية الحربَ في عدد من صورها الكارثية التي يدفع فيها المدنيون الثمن، كالمشهد المفزع الذي تسببت فيه غارةٌ جويةٌ على صالة عرس، كان عيبان فيها محتفلًا بليلة العمر، قُتلت عروسه مع مَن قُتل في تلك الغارة الجوية؛ فأصيب بصدمةٍ نفسيةٍ لم يبرأ منها إلا بعد جلساتٍ طويلة من العلاج النفسي. بعدها قذفت به الأحداث إلى مكانةٍ قيادية عالية، ومثل شمسان وظّف سلطته في ممارسة نزعته الانتقامية من المجتمع بطرقٍ شتى.
لقد شخصت الرؤية السردية العامة أزمةَ المجتمع بتراتبية الظلم الذي ينخر بنيته؛ فالفرد ظالمٌ ومظلوم في الوقت ذاته، ظالمٌ لمن هو دونه، ومظلومٌ ممّن هو أعلى منه، حيث تمظهرت هذه الإشكالية القيمية فيما آلت إليه حياة الشخصيتين الرئيستين؛ شمسان وعيبان، وفي فاعلية نزعاتهما الشخصية الانتقامية وأطماعهما في استمرار الحرب واتساع رقعتها.
السردية في اللوحة والسينما والأدب
واضحٌ أنّ الاشتغال على التقنيات السردية -في هذا العمل- قد نال نصيبًا وافرًا من جهد الكاتب، وأضفى -باستثماره لخصائص فنون متعددة- على الرواية ميزةَ تداخل الفنون، حيث تشاركتْ في إنجاز العمل، فنونُ: السينما، والفن التشكيلي، والمسرح، مع محافظة العمل على جوهرية تصنيفه أدبًا روائيًّا توافرت خصائصُهُ السردية في فصوله الثلاثة، مع حضورٍ بارزٍ لتقنية "الميتا قص" في فصله الثالث، الذي كُرِّس للكشف المتدرج عن تداخل التقنيات الفنية المنتمية إلى تلك الفنون. وفي صفحات العمل الأخيرة يمكن الإمساك بالحلقة الأولى من هذه السلسلة التقنية، حيث كانت الخطوة الأولى في بنائه ذات ماهيةٍ سينمائية، إذ ظهرت شخصية المنتج السينمائي "ديفيد مارك"، المشتغل على إنتاج أحداث العمل، بعدما استطاع توليفها مما يجمعه عن الحرب المشتعلة في اليمن. وبمعيته أخواه: "برنت" المخرج السينمائي، "وجوناثان" موزع العروض السينمائية. ثلاثتهم يعيشون في شقةٍ ورثوها عن أبيهم "مارك"، استقل كل واحدٍ منهم بغرفةٍ من غرفها الثلاث، أما صالتها فمشتركة بينهم ومثلها دورة المياه، احتكموا بعد خلافاتهم بشأنهما إلى مصلحة الشؤون العائلية، فأعطت كلَّ واحدٍ منهم الحق في استخدامهما ساعاتٍ ثمان في اليوم والليلة. وعليه كانت الثامنة مساءً موعدًا لانتهاء دور "جوناثان"، يبدأ بعده دور "ديفيد"، ومن ثَمّ دور "برنت".
استهل "ديفيد" إنتاج العمل، ثم تجاوز فنّ السينما إلى الفنّ التشكيلي، فأوكل سردية الأحداث إلى شخصيةِ فنانٍ تشكيليٍّ مريضٍ نفسيًّا، متأثرٍ بتراجيدية الحرب في اليمن، "بوب بيكاسو". وبطريقته الفنية تعاطى الفنان التشكيلي مع المهمة الموكلة إليه، فرسم أحداث الرواية في عددٍ من اللوحات. ثم تنتقل التقنية السردية إلى ميدان الفن المسرحي، حيث اتخذ الفنان التشكيلي من غرفته مسرحًا هو البطل فيه، وجمهوره كائناتٌ لا مرئية إلا له وحده، ولها شرع يشرح تفاصيل كل لوحةٍ من لوحاته.
واحدةٌ من اللوحات تضمَّنتْ شخصية الراوي الخارجي، وفيها كان الانتقال الجوهري من ميادين الفنون إلى ميدان الأدب، فكان الفصلان الأول والثاني ساحةً لسردية الأحداث وروايتها على لسان شخصية الراوي الخارجي -هذه- والتي استمدها الكاتب من حقل الخيال العلمي، ومن ظاهرة "الأطباق الطائرة"، تلك الظاهرة الكونية المحيرة التي من أبرز ما يدور حولها أنها كائناتٌ فضائيةٌ أكثر ذكاءً من الإنسان، وأنها لا تأتي إلى الأرض إلّا للاطلاع على خصائص الحياة البشرية فيها. وبذلك فالراوي الخارجي في هذا العمل "كائنٌ فضائيٌّ"، يثير انتباهه ضجيج الأرض، يقترب منها؛ فيفزعه عذابها الإنساني، روى القليل من هذا العذاب، وترك للشخصيتين شمسان وعيبان مهمة سرد كثيرٍ من تفاصيله.
لقد كانت مَسْرَحَةُ الأحداث على لسان الفنان التشكيلي أيقونةً التقت فيها تقنيات الفنون؛ فمنها وإليها تداعت وتظافرت التقنيات التشكيلية والمسرحية والسينمائية والسردية في إنجاز العمل. وجاء مشهدها الأخير ذروةً للتماهي بين الفنون، ظهرت فيه نهاية البطل -الفنان التشكيلي- في قبضة مسؤولي الرعاية الصحية والنفسية، وفي الوقت ذاته كان بطلًا للفيلم السينمائي الذي أنتجه "ديفيد" عن حرب اليمن، حيث يظهر "جوناثان" مستمتعًا بمشاهدة الفيلم طيلة ساعتين من حصته في استخدام الصالة، وفي الآن ذاته يظهر متلصِّصًا عليه "ديفيد" من غرفته مشاهدًا الفيلم مثله حتى نهايته المتوّجة بمصير البطل وقائمة طاقمه الفني. يبدأ دور "ديفيد" في استخدام الصالة، وفي اللحظة ذاتها يصل "برنت"، فيدخل غرفته، ومن ثقبٍ في بابها تلصَّصَ -هو الآخر- على "ديفيد" الذي يعيد مشاهدة الفيلم ذاته.
*أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد، جامعة عدن ــ اليمن