لم يعد يخفى على أحد أن وضع القوانين المتشددة باسم الدين، بغض النظر عن مدى صحتها، تُجسّد المعاناة الأُنثوية بامتياز، وتظهر في تفاصيل القهر الذي يقع على عاتق النساء في المجتمعات الدينية الصارمة أو حتى المجتمعات التقليدية المحافظة. حيث تتحمل المرأة الجزء الأصعب في الكيان الديني، والذي يجبرها أحيانًا على تقديم الطاعة الدينية مرغمة لا محبة، أو كما يُقال "مُجبرٌ أخاك لا بطل". وهو ما عَبَّرت عنه إستر شابيرو -وسيتم ذكرها لاحقًا- عندما سُئلت عن سبب هروبها، إذ قالت: " الرب كان يتوقع مني ما يفوق طاقتي".
الجماعات المنعزلة تخشى الاندماج في المجتمعات الأخرى، وتخشى على نفسها من الذوبان مع الثقافات المختلفة خوفًا من انصهارها أو ضياع هُويتها - كما يعتقدون، إضافة إلى أنها ترسم للمرأة تعاليم حازمة، وتضع خطوطًا حمراء كثيرة ومعقدة في طريقها حتى يضمن فيها الرجل أو المجتمع المنعزل بقاءها وتعاونها في تشكيل ذات المجتمع. ولعل الأكاديمي والباحث البريطاني ديفيد فنسنت في كتابه "تاريخ العزلة" يرى أن طبيعة العزلة أصبحت مصدر قلق في العصر الحديث، وترجع لكسل هذه الجماعة من الانخراط وإثبات نفسها بوجود تعدد الثقافات الأخرى، فتقنع نفسها بأن العزلة هي الحل المريح لها من الدخول في منافسة أو في البحث عن إمكانيات تطور قوانينها. ولكن الخوف والهلع من تأثر الجماعة المعنية بالآخرين واحتمالية فقدان هيبتها أو سلطتها، يجعل من قوانينها المتشددة عرضة للانسلاخ من قبل الشباب أو الفتيات الرافضين لمنطق التشدد لا منطق الانتماء.
هاربة من الماضي
في السادس والعشرين من مارس لسنة 2020، عرضت شبكة "نتفليكس" الترفيهية مؤخرًا، المسلسل الألماني -حسب تعريب نيتفلكس- "هاربة من الماضي". يرجع المسلسل إلى السيرة الذاتية للكاتبة والمدونة الأمريكية – الألمانية ديبورا فيلدمان، والتي تحظى باهتمام بالغ في ألمانيا بعد صدور كتابها "غير تقليدي"، الذي اقتُبست منه وقائع المسلسل.
هو أول مسلسل لشبكة "نيتفكلس" باللغة اليديشية (لغة يهود أوروبا)، إلى جانب اللغتين الإنجليزية والألمانية. وعلى الرغم من أن الأحداث تدور في أربع حلقات فقط، إلا أنها ثرية بالتفاصيل وزخم الأفكار والتناقضات الإنسانية التي قامت بنقلها للشاشة، المخرجة والممثلة الألمانية ماريا شرادر. أما السيناريو فكتبته الروائية الأمريكية آنا وينغر، في توليفة نسائية ثرية ومبهرة انعكس جمالها في تفاصيل العمل وزوايا كاميراته حول هروب امرأه شابة من مجتمع يهود "الساتمار" في نيويورك، متجهة إلى ألمانيا.
يعرض المسلسل، وبشكل ساحر وانسيابي، تفاصيل مجتمع "الساتمار" للطائفة "الحاسيدية" اليهودية المتشددة في حي ويليامسبيرغ في الولايات المتحدة. وتدور الوقائع بين زمنين مختلفين على طريقة الـ"فلاش باك" للتركيز على الأحداث ومقارنة تفاصيلها وأسباب حدوثها
أستر شابيرو أو "الممثلة الإسرائيلية الشابة شيرا هاس"، فتاة تعيش مع جدَّيها، محدودة التعليم، تتزوج في سن السابعة عشرة، وتحلم بحياة زوجية سعيدة، تنجب فيها العديد من الأطفال وبيت حقيقي، ولن تحتاج إلى مكان آخر تذهب إليه كما كانت تظن. لكن، وبعد عام واحد تقول: " إن لم أهرب الآن فمتى؟"، في مشهد يثير فضول المشاهد لمعرفه سبب تحول حياتها، حتى تصل إلى هذه المرحلة من الخيبة، ويصبح الهروب هو طريقها الوحيد.
يعرض المسلسل، وبشكل ساحر وانسيابي، تفاصيل مجتمع "الساتمار" للطائفة "الحاسيدية" اليهودية المتشددة في حي ويليامسبيرغ في الولايات المتحدة. وتدور الوقائع بين زمنين مختلفين على طريقة الـ"فلاش باك" للتركيز على الأحداث ومقارنة تفاصيلها وأسباب حدوثها. تعيش الطائفة اليهودية "الحاسيدية" (حركة اليهود الحاسيديم) في نيويورك، وتعود جذورها لمدينة "ساتمار" في المجر، وهم بقايا الناجين من الهولوكوست عقب الحرب العالمية الثانية، واستقروا لاحقًا في حي ويليامسبيرغ.
أهم ما تهتم به هذه الطائفة هو إنجاب أكبر عدد من الأطفال لتعويض قتلاهم في الهولوكوست كما يقولون. وتعيش في مجتمع منغلق جدًّا، بعيدًا عن الحياة المعاصرة ويرفض الاندماج مع غيره من المجتمعات، خوفًا على أنفسهم من التأثر من أجل إسرائيل، ولكنهم يرفضون الصهيونية كما جاء في أحد المشاهد. وترتدي النساء الثياب الطويلة، ويجب تغطية الرأس بعد حلاقته ليلة الزفاف وارتداء القبعات أو الشعر المستعار. ولا يعتبر التعليم من أساسيات هذه الجماعة، وبدلًا من ذلك، تتلقى الفتيات التعليمات الصارمة بضرورة احترام القوانين الإلهية، وأهمها إنجاب الأطفال ومعاملة الرجل كـ"ملك"، كما كان يتردد في أذن "أستر" طوال سنوات نشأتها: "يجب أن يشعر زوجك بأنه ملك، وأن تُنجبي له الأطفال"، وهنا يأتي تساؤلها قبل الهرب: "إن كان ملكًا، هل أنا ملكة كذلك"؟
يعيش المجتمع بأسره داخل هذه الدائرة التي لا تقبل نقاشًا ولا تكترث لرأي، خصوصًا للنساء، حسب تعاليم التلمود. تجسد البطلة في المسلسل شعور الانكسار والحيرة في مواجهة ما يرفض عقلها استيعابه، وتستمر في البحث عن المتعة، كحبها للموسيقى التي ترفضها طائفتها. كما يلازمها شعور بالخيبة بعد كل علاقة زوجية على الفراش، التي استطاع المسلسل أن ينقل طقوسها الخاصة بتلك الطائفة، باحترافية. تتبدد سعادة الزوجين أمام تدخل المجتمع في حياتهم ومراقبة الأهل لأدق أحداث "أستر" اليومية وانتظار الحمل المبارك. وفي الحقيقة، استطاع صُناع المسلسل إيصال اضطراب المشاعر في أبسط الإمكانيات والسلوكيات، وبدقة عالية، بدءًا بشخصية "أستر" البطلة الرئيسية، مرورًا بزوجها "يانكي" المتردد والضعيف، الذي تتقولب شخصيته الضعيفة حسب تعاليم جماعته، وصولًا إلى شخصيات أصدقائها الجدد في ألمانيا، والتي عكست صورة الانفتاح وتعدد الثقافات، كالممثلة الشابة "شافيناز ساتر"، وهي ألمانية من أصل يمني، وأستاذ الموسيقى الذي قام بدوره الممثل الإسرائيلي من أصل عربي يوسف سويد. وهو الأمر الذي لم تعتده "أستر" في مجتمعها المنغلق على ذاته.
كان العرب الأولون أحرارًا في حياتهم، يختلطون بكل المجتمعات الآتية من شتى بقاع الأرض. لم يكونوا يومًا متقوقعين بداخل خيامهم بين معاطن الإبل ومرابض الشياه، أو مختبئين خلف أسوار مدائنهم الفاخرة والزاخرة بصنوف المصنوعات
العمل السينمائي
نجح صُناع العمل في عكس صور سينمائية متكاملة في أربع حلقات ثرية، من خلال الملابس المختارة بعناية متناهية للعالمَين المختلفَين اللذين لا ثالث لهما. وكذلك في اختيار الأماكن، كالبحيرة والمقبرة التي تجعل من الهولوكست ذكرى حاضرة لن تتخلص منها ألمانيا مهما مرت بها السنين، خاصة أن الممثلين جسدوها في كل كلمة ونظرة وإيماءة، لترسيخ الأفكار المتناقضة في المسلسل. وإلى جانب ذلك، تصوير الطقوس والشعائر، وخصوصًا الزفاف، مرورًا بالحمام وانتهاء بحلق الرأس. كل هذه العناصر، بالإضافة إلى مهنية الممثلين الذين يقف بعضهم لأول مرة إمام الكاميرا، ووجود بعض الذين ينتمون فعليًّا للطائفة "الحاسيدية"، جعلت من هذا العمل ناجحًا بامتياز وقريبًا جدًّا من واقع هذه الطائفة. ويعكس المسلسل عملًا فنيًّا يصف بشفافية وصدق، تزمت الجماعات وتشددها وتشبثها بمرارات الماضي والخوف من الاندماج. وقد نرى فيه أنفسنا بشكل أو بآخر، في كثير من مشاهده وإن اختلفت العقائد.
كان العرب الأولون أحرارًا في حياتهم، يختلطون بكل المجتمعات الآتية من شتى بقاع الأرض، لا يتقيدون بقاعدة ولا شرط. لم يكونوا يومًا متقوقعين بداخل خيامهم بين معاطن الإبل ومرابض الشياه، أو مختبئين خلف أسوار مدائنهم الفاخرة والزاخرة بصنوف المصنوعات. على العكس، كانوا منفتحين على العالم، بل كان لعرب الجاهلية الأولى مؤتمر دولي كبير يعقدونه كل عام، بدءًا من سوق "عكاظ" وحتى سوق "مجن"، وكان مطمح أنظارهم التواصل مع الآخرين فتشعبت لغتهم، وبلغ الأدباء مبلغهم، وزانت تجارتهم، وكان للنساء حظ كالرجال في التجارة والأدب. ومع ذلك لم تعصف بهم عواصف الثقافات القادمة، بل زادتهم تمسّكًا بهويتهم وفخرًا بها وتصفيتها من الدخيل المبتذل. لم يكن الانعزال سوى صفة التصقت بالمجتمعات الدينية المتشددة لاحقًا، فعزلت أفرادها، وهمشت نساءها، وقصت أجنحة فتيانها بحجة الخوف والهلع. ولم يزدهر العصر العباسي أو غيره من العصور إلا حين فتحت الجماعات أبوابها للعالم، ورحبت بالثقافات الأخرى، فازدهرت وترامت أطرافها، وبلغت نهضتها ما بلغت.
وعودة للمسلسل، فهو عمل يستحق المشاهدة، والتأمل.