في الأدب والشعر، ارتبط الأدباء بعلاقة وثيقة مع أوطانهم، فقد مثّلت لهم المكان الذي يدور فيه الحدث الروائي، ومن هو في المنفى، لم يغب عنه الوطن، بل ظلّ متواجدًا في أعماله بأشكال عدة .
يقول المفكر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد: "الإنسان الذي لم يعُد له وطن، يتّخذ من الكتابة وطنًا يقيم فيه"، إذ تشكّلت تعريفات عدة للوطن ورمزيات ارتبطت بالنشأة الأولى للإنسان وبالكرامة والحرية، وكلما خاض الإنسان في الحياة أكثر، اتسعت معه حدود الكلمة حتى أوجدت معها مفاهيم أخرى، لكن يظل البحث دائمًا عمّا يعنيه الوطن والمكان له.
بينما يرى الروائي وجدي الأهدل: "الوطن هو الناس، وليس التراب أو الدِّين أو اللغة". بهذا المعنى يكون الإنسان بأخلاقه وصفاته ومزاياه هو الوطن الحقيقي. في رواية "بلاد بلا سماء"، ضاقت بطلة الرواية ذرعًا بالطامعين في جسدها، فاختفت في وطن مجهول، وفي رواية "أرض المؤامرات السعيدة" نلاحظ كيف يتدحرج الإنسان من مرتبة الإنسان إلى مرتبة الحيوان. الوطن هو هذه الوشائج التي تربط بين البشر من مثل الألفة والاستقامة والمودّة واللطف والاحترام المتبادل.
رمزية ومفاهيم مختلفة
في الشعر، تجلّت صورة الوطن قديمًا بالوقوف على الأطلال والبكاء على الديار، والتعبير عن الارتحال وفقد المنزل والأهل والقبيلة، وتفيض القصائد بالانتقال الذي فرضته طبيعة تلك الفترة من مكان إلى آخر، فجاءت الأطلال تعبيرًا عن الوطن، كما في الشعر الجاهلي. وفي صدر الإسلام، تواجد النفي والاغتراب في القصيدة، كما في قصائد العصر العباسي.
ما الوطن؟ هل هو أنا وأنت وكل من حولنا مِن بشر؟ هل هو ذلك العلم والنشيد والحدود السياسية المرسومة؟ شطآن وجبال وأودية وصحاري؟ أم إنّه الإنسانية بقيمها وكلّ ما يعتمل تاريخيًّا وحاضرًا ومستقبلًا".
تبدّل مفهوم الوطن مع تطور الشعر لاحقًا؛ أصبح التعبير عنه لا يقتصر على صورة مكان وأرض، فقد يأتي بمفهوم ورمزية مختلفة، كما في شعر عبدالله البردّوني الذي كان يحتج على أوضاع وطنه وشعبه في قصائده، ومحمود درويش الذي حمل دومًا قضيته في أبياته، ومحمد الماغوط الذي خلق النكتة السياسية في شعره، وربما أقسى ما قد تقرؤه هو قصائد المنفيّين، كبدر شاكر السياب، ومظفر النواب حين صاح في منفاه: "وقنعت يكون نصيبي في الدنيا، كنصيب الطير/ ولكن... حتى الطير لها أوطان تعودُ إليها، وأنا ما زلتُ أطير"، وغيرهم من أبرز شعراء العصر الحديث، من عانى في وطنه ومن قذفت بهم أشعارهم خارج وطنهم، فيعاني مرارة المنافي والاغتراب .
لكن، كيف جاءت تيمة الوطن في الأعمال الأدبية؟
مثّل الوطن بتحولاته السياسية وتنوعاته الموضوعية أرضًا خصبة للكتابة، فقد حمل قضايا مجتمعية متعدّدة بالإضافة إلى مواضيع الهجرة والاغتراب وإشكالية تعدّد الهُوية، واشتهرت أعمال كثيرة بالروح الوطنية كـ"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، التي تعدّ من أبرز الروايات وتتحدّث عن الانتقال من مجتمع شرقي إلى مجتمع غربي والصراعات السياسية والثقافية التي تعيشها الشخصيات، بالإضافة إلى "مدن الملح" لعبدالرحمن منيف، و"عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني، والتي تناولت النكبة الفلسطينية، و"الطنطورية" لرضوى عاشور، وعالجت موضوع شعب لاجئ.
في عمل الروائي السعودي عبدالرحمن منيف، المنفي عن وطنه، جاءت مدن الملح لتحكي عن التحولات التي شهدتها الجزيرة العربية مع اكتشاف النفط، في الجزء الرابع من الخماسية "المنبت"، كان ينظر للوطن على أنّ "الوطن ليس التراب أو المكان الذي يولد فيه الإنسان، وإنما المكان الذي يستطيع فيه أن يتحرك". تشابه في رؤية عبده خال في "لوعة الغاوية"، الذي رأى أنّ "الإنسان كالشجر يمكنه أن ينمو في مكان ما، لكن جذوره الأولى تجذبه دائمًا حتى ولو بالحنين". وعند حجي جابر، في "مرسى فاطمة"، كانت اللحظة المربكة التي عبر عنها "أن يكون خلاصنا حين نعطي ظهورنا للوطن، حين نهرب منه بكل ما نملك من خوف وأمل وشكّ ويقين".
كان أمين معلوف من الذين عاشوا تجربة الهوية المزدوجة، واستطاع أن يتناولها في أعمالها، فقد عاش لبنانيًّا فرنسيًّا، ومثّلته شخصيته الحسن بن محمد الوزان الفاسي في "ليون الأفريقي".
عاش أيضًا إدوارد سعيد تعدّد الهوية، وكتب خلال ثلاثين عامًا مقالات عدّة، وضمّها تحت عنوان "تأملات حول المنفى"، كانت إشكالية تعدّد الهوية روح الكتاب، فقد عاشها منذ التهجير من فلسطين إلى القاهرة ثم الولايات المتحدة. ليكون بلا وطن يعود إليه. يقول في كتابه: "في حين لا يعرف معظم الناس سوى ثقافة واحدة، وخلفية واحدة، ووطن واحد؛ فإنّ المنفيين يعرفون اثنين على الأقل، وتعددية الرؤية هذه تولّد وعيًا بالأبعاد المتزامنة، وعيًا هو وعي "طِباقيّ"، كما يقال في لغة الموسيقى".
الكتابة للذات
ما يعنيه الوطن للكاتب، أجاب عنه الروائي محمد الغربي عمران، الذي تمكّن من استحضار روح الوطن وتاريخه في أعماله:
"ما الوطن؟ هل هو أنا وأنت وكل من حولنا من بشر؟ هل هو ذلك العلَم والنشيد والحدود السياسية المرسومة؟ شطآن وجبال وأودية وصحاري؟ أم إنّه الإنسانية بقيمها وكل ما يعتمل تاريخيًّا وحاضرًا ومستقبلًا.
أكتب ولم يطرأ لي أن أكتب لبقعة محددة أو لزمن بعينه أو لبشر سلالة أو طائفة، حتى كان سؤالكم الذي جعلني أفكر ما الوطن ولمن نكتب، فوجدت بأني أكتب أولًا تعبيرًا عن ذاتي، وأكتب لنفسي ومن خلالها أكتب لمن حولي عنهم وإليهم حين أكون في صنعاء أو المكلا أو عدن أو ذمار أو القاهرة أو أنقرة. أكتب وليس في خاطري حدود بعينها ولا أفراد دون غيرهم. فالكاتب لا يهمّه إلّا الإنسان، قد يتخذ من شخصيات صنعانية أو تَعِزية أو قاهرية أو تونسية شخصيات لعالمه الكتابي، قد يجعل من تاريخ معين مسرحًا لأحداث روايته، وقد يجد أنّه كتب لإنسان في الحُديدة، لكنه لا يقصد أنّ ذلك وطنه، فأنا أكتب لذاتي ثم للإنسان في قارات العالم، فالألم هو الألم، والظلم هو الظلم، والفرح هو وجميع المشاعر الإنسانية هي واحدة. سؤالكم جعلني أفتش عمن أكتب وعن أي وطن أكتب، فوجدته الإنسان، وما عداه لا يعنيني من أعلام وحدود ونشيد، فوطن نكتب عنه هو أنا وأنت وكل البشر، لا تراب وماء وأعلام وحدود لا تعني إلا الحاكم وتسلطه".