صلةُ القرابةِ بين "أخ الأب" وأبناء أخيه، التي تتضمَّنُها تسميةُ "العم"، لم تتخلَّ عن وظيفتها الإحالية -هذه- في التداول الشفاهي عند اليمنيين، مع ما تتكئ عليه من تراتبيةٍ في الحميمية، يقتربُ فيها "العم" من مستوى الحميميةِ والوجدانية الناسجة لصلة القرابة بين الولد وأبيه.
ولم يقف التداول الشفاهي بهذه الكلمة عند ماهيتها الفصحى؛ فقد اتسع في الإحالة بها إلى فروعٍ أخرى من صلات القرابة، فكان على لفظ "الحمو" الفصيح أن يترك موضعه لتحل محله، في التداول الشفاهي، تسميةُ "العم"، والإحالة بها على والد الزوجة وصلةِ قرابتِهِ بزوج ابنته.
وفي مقاربةٍ تفسيريةٍ لهذا الإبدال في المحكية، يمكن ربطه بصيرورةٍ تاريخيةٍ في أنسقةِ القرابةِ الأسرية؛ بحيث هيمن اطّرادُ نَسْجِ هذه القرابة نسجًا عائليًّا في دائرة الأسرة الواحدة، نسجًا يقتضي أن تكون ابنةُ العم (أخو الأب) هي عروس ابن عمها، فتماهت في "العم" دلالتان: الدلالة على "أخ الأب"، والدلالة على والد الزوجة ووالد الزوج. ثم احتفظت المحكية بهذا التماهي، في إحالتها على والد الزوجة/ الزوج؛ فاضطلع لفظ "العم" بالدلالتين معًا، حتى وإن كان والدُ أحدِ الزوجين ليس أخًا لوالد الآخر منهما.
يتسع استخدامُ لفظ "العم" في التداول الشفاهي، فيتضمن الإحالة به على شخصٍ لا تربطه قرابةٌ بِمَنْ يحيلُ بهذا اللفظ عليه؛ فمثلًا يكون صاحبُ العمل الذي يعملُ لديه المتكلم هو المُحال عليه بهذه التسمية، كما يمكن أن يكون أيُّ شخصٍ محالًا عليه بهذه التسمية، لا سيما حينما لا يكون للمتحدث معرفةٌ مسبقةٌ بمن يريد لفت انتباهه للحديث معه، أو تداعيًا مع أمرٍ يستدعي مخاطبته. وفي هذه الحال يمكن التماسُ مستوى من الاحترام الذي يتضَمّنُهُ الموقف، وهو احترامٌ نسبيٌّ يستلزمه أدب الحديث مع الغريب. كما أن ذلك ليس مطردًا، فقد يخلو الموقف من ضمنيةِ التقدير، سواءٌ أكان المَعْنِيُّ بالصفةِ من المعارف أو من الغرباء.
وقد يردُ لفظ "العم"، في سياقٍ قائمٍ في محوريته على الاحترام والتقدير الذي يكنه المتكلم للآخر، فيحيل على ذلك بتسمية "العم"، مع قصديةٍ مسبقةٍ يستوفي اشتراطَها مقامُ الكلام، كما تستوفيها المكانةُ التي يحظى بها الآخرُ عند المتكلم، ويحظى بها في الذهنية المجتمعية.
المحورية القيمية التي تنضوي في معاني الاحترام والتقدير، تترتب على غيابها فاعليةٌ في توجيه مسار الإحالة بـ"العم" نحو معانٍ مغايرةٍ لهذه المحورية القيمية. فحينما يصفُ المتكلمُ شخصًا ما، وهو يتحدث معه أو يناديه بـ"العم" -مع عِلْمِ هذا الشخص بغياب المحورية القيمية (التقدير/ الاحترام) من واقعية معايشته للمتكلم، أو واقعية الموقف الذي يجمعهما- فإن رد الفعل سيكون قاسيًا على المتكلم من الشخص الذي يخاطبه بهذه التسمية، والذي سرعانَ ما سيربط الإحالةَ بقصديةٍ استفزازيةٍ أو تشاتمية، ربطًا ينْسجُهُ المعنى السابق لـ"العم" والدًا للزوجة؛ فينفعل في وجه المتكلم، ويأتي رد الفعل منه متضمنًا دلالةً تَشْفي غليلَه من ضمنية هذا النسيج الإحالي، إن لم تزد عليه في الاستئناس بدائرةٍ دلاليةٍ موغلةٍ في الاستفزاز، هي الدائرة التي تحيل بها هذه التسمية على (زوج الأم).
يحيل التداولُ الشفاهي على (زوج الأم) بـ"العم"، مستأنسًا بهذه التسمية الخاصة بأخ الأب، لتحمل معنى هذا التفرع من أواصر القرابة. ويمكن أن تتبلورَ مقاربةٌ ذاتُ مهادٍ في تاريخِ العلاقاتِ الاجتماعية، أتاحت لهذا الاستئناس أن يحيل على (زوج الأم) بـ"العم"؛ تقوم هذه المقاربة على النسيج الدلالي المتَخَلِّقَ من العلاقات الاجتماعية وصلات القرابة، وبوجهٍ خاص ما يتعلق منها بالزواج، والتي منها هوية الشخص الذي يُعَدُّ الشخص الأكثر احتمالًا أن يكون زوجًا لأرملةٍ تُوفي بعلُها.
لقد جرت العادة -في الغالب- أن يكون أخ الزوج هو هذا الشخص الأكثر احتمالًا، فيتزوج زوجة أخيه، كما يغلب أن يكون هذا الأخ، هو الأخ الأكبر، وفي سياق ذلك تأتي الحاجةُ ماسةً إلى راعٍ جديرٍ برعاية أيتام الأرملة، فيترتب عليها تجييرٌ لواقعيتها، وتعبيدٌ لطريق هذا النوع من التزاوج، فيحل العم محل الأب، محاولًا ملء ثغرة غيابه.
في مقابل ذلك، يقلّ أن يكون الأخ الأصغر للمتوفى هو الزوج القادم لأرملته، بل يظل في حكم النادر في الغالب من مظاهر النسبية فيه. وهنا يبدو تغاضٍ لا واعٍ من الذهنية الاجتماعية، عن دافعيةٍ منفصلةٍ عما استلزمتْهُ الحاجةُ إلى الرعاية، دافعية مرتبطة بوجدانيات النفس البشرية، واحتياجاتها الانتقائية، بما يتسق مع احتياجات الرغبة والغريزة.
ولموت الزوج فاعليةٌ جوهرية، كمتغيرٍ اشتراطي لزواج الأخ بزوجة أخيه، فكثيرًا ما يرتبط الأخ بزوجة أخيه المتوفى، ويندر أن تتزوج المرأة المُطلّقة من أخ زوجها الذي انفصلت عنه. ويقف وراء هذه الجوهرية الاشتراطية بعدٌ من أبعادِ الذائقة والاستساغة واللائق وغير اللائق، فوفاة الأخ توفر على أخيه كلفة الشعور بمشاعر سلبيةٍ، يصعب التحرر منها فيما لو كانت زوجته مطلقةَ أخيه الذي ما زال على قيد الحياة.
السعة الدلالية خاصيةٌ جوهريةٌ في التداول الشفاهي، فتتعدد دوائر استخداماته للألفاظ ومسارات الإحالة بها، لذلك نجد السعة في استخدامه لـ"العم"، كإحالته بهذا اللفظ على علاقاتٍ إدارية وسلطاتٍ متراتبةٍ في الحياة؛ وهو ما لَخَّصهُ المثل الشعبي المتداول: "مَنْ أزَّوَّجْ أمَّنا هو عمَّنا"[1]، ولَخَّصَتْهُ -أيضًا- صِيْغَتُهُ الأخرى: "من تزوجْ بأمَّنَا كانْ أبونا"[2].
ويضرب هذا المثل حينما يأتي حاكمٌ بدلَ حاكمٍ آخر ويؤدي دورًا سلبيًّا، حيث يدفع الإنسان إلى الاستسلام والتخاذل ويقيد قواه العقلية ويشل حركته في البناء والتغيير وإعادة الحياة إلى وجهها الصحيح[3]، ذلك أن المجموع المتكلم في المثل ينطلق من موقعٍ مستلب، من كائنٍ مفروض عليه بالضرورة، ويقوم بمصادرة حقه في التفكير والاعتراض، فهو متكلم بما لا يحقق حضوره الحقيقي، لكن بما يحقق ذاته المستلبة المذعنة لما يُفْرَضُ عليها قبلًا، ويراد لها لا ما تريده هي[4].
يقوم هذا المثل، في صياغته وإحالاته، على نسقٍ عاطفي من أنسقة العلاقة الوجدانية بين الولد وزوج أمه، نسق الكره والاشمئزاز الذي تمتلئ به ذات الولد ومشاعره تجاه من حل محل أبيه. وهي مشاعر تتوالد فيه منذ اللحظة الأولى التي يستحوذ فيها على والدته شخصٌ آخر بعد وفاة والده، أو انفصاله عنها. مشاعر متخمةٌ بالكراهيةِ الموغلة في وجدان صاحبها، حتى صار (زوج الأم) ذروةً إحاليةً على مشاعر الكراهيةِ تجاه شخصٍ ما، فيقول أحدهم لآخر: "أراك عمي متزوج أمي"، أو "أكرهك كأنك عمي متزوج أمي".
تنمو هذه المشاعر متماهيةً مع الولد، ويصعب عليه التخلصُ منها، إلا بعد سنواتٍ متقدمة من عمره، وهو ما لاحظتُه على علاقةِ صديقٍ مع زوج والدته، حينما سألْتُهُ عن السر في هذا الاحترام المتبادل بينهما، فكانت إجابته: "أن مشاعر البغض والكره تضمحل مع مرور السنوات، ومع التقدم في العمر". وتأسيسًا على ذلك يمكن القول: إن من غير الممكن تعميم هذا النوع من عاطفةِ الكراهية على كل ولدٍ تجاه زوج أمه. كما أن هناك مَن يكنُّ لعمه احترامًا وتقديرًا يليق به وبمكانته قائمًا مقام أبيه، وليس كلُّ زوجِ أمٍّ يحظى بهذا المقام عند ابن زوجته، فهو مقامٌ مرتبطٌ باشتراطاتٍ تدور جميعُها حول الإيجابية في الرعاية والمعاملة، وبما يحقق مستوى عاليًا من الأبوة التعويضية.
وفي سياق الحيوية الإحالية المتجددة في التداول الشفاهي، تأتي الإحالةُ بـ"العم" على مستوى من مستويات تعاطي الولد مع (زوج أمه)، هو المستوى الذي يكرسه هذا المثل الشعبي، وهو تكريسٌ يتغاضى عن مستوى آخر غير متداعٍ مع ضمنياته، مستوى أصحابُه مشاكسون لهذه الضمنيات، وقد كان البردّوني في مقدمتهم، حينما استلهم هذا المثل، في قوله من إحدى قصائده[5]:
فلمْ أَعْهَدْ إلى عمِّي بأُمِّي *** ولا بأبي إلى صِهْري وخِدْنِي
لقد استوحى الشاعر مضمون هذا المثل الشعبي، وبث فيه سحر الشعرية التي تمظهرت في تحوير مساره التداولي المذعن نحو وجهةٍ مناقضة، فالشاعر في هذا الاستيحاء "يعبر عن ثورة رفضه التي يرى بأنها أحد أهم دلائل الحياة والتدفق"[6]، فتجلى بذلك التوظيف العكسي، لمضمون هذا المثل القائم على بنيةٍ موحيةٍ بالتواؤمِ مع الواقعِ على علاته، وهي بنيةٌ متبلورةٌ في نسقٍ ثقافي، جاءت رمزيةُ هذا البيت نسفًا له، ومن ثم هدمًا لمضمون المثل؛ من خلال الاستلهام الرمزي المغاير لهذا النسق، مغايرةً إيحائيةً بحتمية التجاوز لحيثيات الاستسلام والتخاذل؛ بغية الانعتاق من تداعياته السلبية.
لقد برهن التداول الشفاهي، على حيويته في تعاطيه مع "العم" تعاطيًا دلاليًّا متجددًا، بإحالاته المتعددة والمسكونة بإمكانات التجدد والثراء. وهي خاصيةٌ أسبغها على التداول الشفاهي ارتباطُه بالحياة ومعايشته تفاصيلها ومستجداتها، ومظاهر العلاقات الاجتماعية، وأنساق التفكير فيها. فتماهى مع ذلك كله، وأثرى به سياقات التعبير، في محكيات التداول، ومصطلحاتها، وأنسقتها اللغوية والدلالية؛ مجسدًا بذلك، حيويةً موازيةً، في صورةٍ لغويةٍ زاخرةٍ بإمكانات إحاليةٍ متجددة.
الهوامش:
[1] إسماعيل بن علي الأكوع، "الأمثال اليمانية"، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ/ 2004م، ص: (1162). ازّوج، تعني في المحكية: تزوج.
[2] نفسه.
[3] ينظر: أحمد علي الهمداني، "الفلكلور اليمني بعض الحقائق والملاحظات"، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، ط1، صنعاء، 1425هـ/ 2004م، ص: (130).
[4] ينظر: عبدالحميد الحسامي، "النقد السياسي في المثل الشعبي دراسة في ضوء النقد الثقافي"، إصدارات مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة، تعز، 2012م، ص: (73).
[5] عبدالله البردوني، "الأعمال الشعرية"، إصدارات الهيئة العامة للكتاب، ط1، صنعاء، 1423هـ ـ 2002م، جـ2/ ص: (1355).
[6] حفيظة قاسم سلام، "شعر عبدالله البردوني قضاياه الموضوعية وصوره الإبداعية"، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة الإسكندرية، كلية الآداب، 1421هـ/ 2001م، ص: (368).