ليف نيكولايفيتش تولستوي (1828-1910)، الكاتب الروسي الكبير، كان في الوقت نفسه، مفكرًا عظيمًا، خلق تعليمًا دينيًّا - أخلاقيًّا عن العالم، وعن الإنسان، وعن معنى الحياة وإعادة التنظيم الاجتماعي. وقد سمي هذا التعليم الديني - الأخلاقي بالحركة التولستوية، التي نشأت في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وحدّد تولستوي أسسها في أعماله التالية: «الاعتراف»، «ما هو إيماني؟»، «في الحياة»، «العقيدة المسيحية»، وما إلى ذلك.

انعكست في فلسفة تولستوي أهم الأحداث التاريخية التي جرت في منتصف القرن التاسع وبداية القرن العشرين، ليس في روسيا القيصرية فحسب، بل وأيضًا في أوروبا الغربية، وسائر بلدان الشرق.

بدأ نشاط تولستوي تقريبًا قبل عشر سنوت من إصلاحات 1861، واكتمل في عام 1910، بعد مرور عدة أعوام من الثورة الروسية الأولى، التي جرت أحداثها التاريخية بين يناير 1905 ويونيو 1907 في الإمبراطورية الروسية.

أخذت آراء تولستوي الفلسفية تتشكّل في مرحلة الصراع الحاد بين الليبراليين والديموقراطيين الثوريين، الذين عبروا عن مصالح الفلاحين، واعتقدوا أنّ الفلاحين هم القوة الثورية الرئيسة في البلاد، وأنه بعد إلغاء القنانة يمكن لروسيا، من خلال الثورة الفلاحية، الوصول إلى الاشتراكية، متخطية الرأسمالية. 

وإحدى المسائل التي كانت تقلق تولستوي في هذ المرحلة هي مسألة تحويل روسيا. أدرك الكاتب أنّ مشاريع الليبراليين لتحويل البلاد لن تقود إلى حل التناقضات الاجتماعية. (إشراف ف. إ. إفجرافوف وآخرون، تاريخ الفلسفة في الاتحاد السوفيتي في 5 مجلدات، موسكو، دار العلم، 1968 الجزء 3، ص 363 - باللغة الروسية).

قرّب التفكيرُ الطويل حول التناقضات الاجتماعية، بعلاقاتها الوثيقة بمشكلة الخير والشر، تولستوي من الشعب البسيط، ومما ساعد على ذلك هو تأثره بجان جاك روسو، ولا سيما مؤلفات روسو التي انتقد فيها الرأسمالية. 

وفي هذا الاتجاه سار تولستوي، ولكن "ينحصر نقد الكاتب الشاب للرأسمالية فقط في الناحية الأخلاقية. وبهذا الشكل بالذات يجري التعبير عن أفكاره الديمقراطية والإنسانية". (المصدر السابق، الصفحة نفسها).

تأثرت تعاليم تولستوي الحياتية بالعديد من الديانات، مثل: البراهمانية، والبوذية، والطاوية، والكونفوشيوسية، والإسلام، وبممثلي الفلسفة الأخلاقية، مثل: سقراط، الرواقيين المتأخرين، كانط، شوبنهاور.

في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، كان تولستوي منكبًّا بالكامل على كتابة رائعتين من أعماله الأدبية: «الحرب والسلام» و«آنا كارنينا». "لقد كان الإبداع بالنسبة له وسيلة لعكس أحداث التاريخ والعلاقات الإنسانية، ومختبرًا لدراسة القضايا الفلسفية والأخلاقية التي كانت تقلقه، وأخيرًا وسيلة لنشر التعاليم التي تبلورت في هذه المرحلة أو في مرحلة أخرى من مراحل التطور الروحي للكاتب. 

يضع تولستوي آراءه وأفكاره وأبحاثه وشكوكه في صور الأبطال الذين يتصرفون في رواياته وقصصه ومسرحياته، ويكشف عن الصراع بين الخير والشر والمشاعر والأفكار والمبادئ المادية والروحية" (أ. أ. جالاكتينوف ب. إف. نيكاندروف، الفلسفة الروسية من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر، جامعة لينينجراد، 1989، ص 562- باللغة الروسية).

كرس تولستوي العقود الثلاثة الأخيرة من حياته لإثبات مذهبه الديني - الأخلاقي، الذي عرضه في الأعمال التالية: «دراسة في اللاهوت الدوجماطيقي»، و«ما هو إيماني»، و«ماذا يجب علينا أن نفعل»، «في الحياة»، «ملكوت الله في داخلكم»، و«طريق الحياة».

في هذه الأعمال يعارض تولستوي «قوة الظلام» والشر والعنف ونفاق الكنيسة والدولة دفاعًا، عن الذين يعانون والمحرومين". (المصدر السابق، ص 563). 

لكن تولستوي رفض الثورة كوسيلة لحل القضايا الاجتماعية، والتي يمكن حلها، حسب رأيه، من خلال تشييد مجتمع من الفلاحين الأحرار والمتساوين، وفي الوقت نفسه الحفاظ على نظام الحياة الأبوي.

يعتقد تولستوي أنّ التخلص من العنف، الذي يقوم عليه العالم الحديث، ممكن من خلال طريق عدم مقاومة الشر بالعنف، على أساس التخلي الكامل عن أي صراع، وكذلك على أساس التحسين الذاتي الأخلاقي لكل فرد على حدة. يقول تولستوي: "إن عدم مقاومة الشر بالعنف وحده هو الذي يقود البشرية إلى استبدال قانون العنف بقانون الحب". (تولستوي، طريق الحياة).

في الحقيقة، إن مبدأ تولستوي القائل بعدم مقاومة الشر بالشر، قائم على وصية السيد المسيح القائلة: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (مت5: 43، 44).

ونظرًا لأن السلطة تمارس الإكراه، فهي شر، ومن هذا المنطلق توصل تولستوي إلى إنكار الدولة. لكن إلغاء الدولة، في رأيه، لا ينبغي أن يتم من خلال العنف، بل من خلال التهرب السلمي والسلبي لأفراد المجتمع من أي واجبات ومناصب حكومية، ومن المشاركة في الأنشطة السياسية. 

إن تخلي تولستوي عن بعض عقائد الكنيسة لا يعني أنه غير مسيحي، ولكن كان نتيجة موضوعية لروح صوفية في شخصيته، تداخلت تداخلًا وثيقًا مع روح عقلانية، تكونت بفعل اطلاعه على مؤلفات كبار العبقريات الفلسفية.

وبالطبع، هناك بعض التشابه بين تصور تولستوي وتصور الفوضويين للسلطة، حيث يوافق الفوضويون في أنه لا شيء أسوأ من عنف السلطة، ولكن الفوضى، حسب تولستوي، لا تنشأ من الثورة -كما يعتقد الفوضويون- "وإنما من خلال تزايد الأشخاص الذين لا يحتاجون إلى حماية السلطة الحكومية، والمزيد من الناس الذين سيخجلون من ممارسة هذه السلطة" (تولستوي، طريق الحياة).

فكرة عدم مقاومة الشر بالشر، التي طرحها تولستوي في عمله «ملكوت الله في داخلكم»، أثرت على المهاتما غاندي، لا سيما على سياسته التي تسمى «المقاومة السلمية» أو فلسفة اللاعنف (الساتياغراها). 

آمنَ تولستوي بوجود الله، ولكنه أنكر عقيدة الثالوث، واعتبرها شكلًا لتعدد الآلهة الوثني في المسيحية، وأنكر ألوهية المسيح، والأسرار الكنسية، والكفارة، وأكد على أن ألله مبدأ غير شخصي، وأن المسيح معلم لامع للأخلاق إلى جانب شخصيات أخرى: كريشنا، وبوذا، والنبي موسى، ولاو تزو، وكونفوشيوس، والرسول محمد (ص)، وسقراط، إلخ.

ينتقد تولستوي الكنيسة، ويقول بأنها تخالف المسيح؛ لأنّها تبارك الحروب والإعدامات والاضطهاد والانقسامات بين الناس، واعتبر أن تعاليم المسيح تتخلص في الوصايا الخمس: لا تقتل، لا تزن، لا تحلف، إلخ.

إن تخلي تولستوي عن بعض عقائد الكنيسة لا يعني أنه غير مسيحي، ولكن كان نتيجة موضوعية لروح صوفية في شخصيته، تداخلت تداخًلا وثيقًا مع روح عقلانية، تكونت بفعل اطلاعه على مؤلفات كبار العبقريات الفلسفية.

اتسمت الآراء الجمالية لتولستوي في المرحلة المبكرة من تطوره بالطابع الديموقراطي، ولكن بعد سبعينيات القرن التاسع عشر أصبحت تلك الآراء أكثر ديموقراطية وأكثر انسجامًا.

في الواقع، كانت نظريته الجمالية استمرارًا لتقاليد المفكرين الديمقراطيين الثوريين، مثل فيساريون بلنسكي، وألكسندر جيرتسن، ونيكولاي تشيرنيشيفسكي، ونيكولاي دوبروليوبوف، مع أنه لم يعترف بهذه الحقيقة بصورة كافية.

الموضوعة المركزية في علم جمال تولستوي هي مسألة شعبية الفن، وعلى أساسها يفسر جوهر الفن. ينفي تولستوي "التعريفات الميتافيزيقية- المثالية والوضعية للفن، معلنًا بأن الفن "هو وسيلة للتواصل بين الناس، ضروري للحياة وللحركة نحو خير الفرد والإنسانية، يوحدهم في نفس المشاعر". (ليف تولستوي، المؤلفات الكاملة، المجلد 15، موسكو، 1964، ص 87- باللغة الروسية). 

ويقوم الفن بهذه المهمة "عن طريق إعادة خلق الشعور الذي يعانيه الفنان في نفسه، ونقله بالحركات، والخطوط، والألوان، والأصوات، والصور، بالكلمات المعرب عنها، بحيث يشعر به الآخرون أيضًا، وهذا هو عمل الفن. (إشراف ف. إ. إفجرافوف وآخرون، مصدر سابق، ص 363).

وعليه، يمكن القول بأن تولستوي عارض نظرية الفن من أجل الفن، والتي كانت معروفة في زمانه، حيث أشار بوضوح إلى الوظيفة الاجتماعية للفن، وفي إطار هذه الوظيفة لا يدخل تواصل مشاعر الناس في الحاضر فحسب، بل أيضًا الصلة الروحية لأناس اليوم بالأجيال السالفة.

لا مراء في تأثير فلسفة تولستوي داخل روسيا وخارجها، وقد أشرنا سابقًا إلى الحركة التولستوية في روسيا، التي امتد تأثيرها إلى العديد من أطراف الإمبراطورية الروسية، وتركت فلسفة تولستوي بصماتها أيضًا على العديد من القادة السياسيين والمفكرين والأدباء العالميين.

‍