في بداية ظهور المسرح في مدينة عدن سنة ١٩١٠م، كان الحديث عن المسرح في عهد الإمامة أشبه ما يكون بالألغاز؛ إذ بالرغم من ظهور مسرحيات عن الأئمة العلوية، وشخصيات من التاريخ الإسلامي والعربي، فقد واجهت التجربة الناشئة تخلُّف الإمام قبل أن تترك أثرًا. ويذكر الشاعر والكاتب علي بن علي صبرة عرض مسرحية "غزوة اليرموك"، حيث تطلّبت المسرحية من الممثّلين ارتداء ملابس إفرنجية، إلّا أنّ القُضاة ورجال الدين اعتبروا ارتداء ملابس الإفرنج كفرًا وخروجًا عن الإسلام، وبعد انتهاء العرض، جيء برئيس المحكمة الاستئنافية العليا لكي يجدّد إسلامهم بالشهادة، وتوسّعت الرقابة الكهنوتية، ومُنع المسرح وأيّ شكلٍ من أشكال النشاط الاجتماعي، كاستعارة عن انسداد جميع سُبُل التعبير في الواقع وفي الأشكال الفنية.
في البدايات الارتجالية والمدرسية، اعتمد المسرح على كتب التاريخ والأدب والسيرة الشعبية، والأساطير وأحداث الفتوحات العربية والإسلامية وأبطالها، وحكايات الحبّ والغرام وقصص الملوك والأمراء، وما يمثّل النجدة والوفاء والبطولة. ويذكر المؤلف والمؤرّخ سعيد العولقي، أنّه بعد عرض الفرقة المسرحية "يوسف الصدّيق" في عدن، ثار غضب بعض أئمة المساجد الذين احتجّوا على تمثيل قصة دينية أبطالها يوسف الصدّيق وأبوه وإخوانه، ولم تمانع السلطات البريطانية، وإن كانت قد اشترطت أن تقدّم إليها النصوص قبل العرض. ومُنذ ذلك الحين فُرضت الرقابة لأول مرة على المسرح، وشملت الكُتّاب والمخرجين والفرق المسرحية، وتوسّعت الرقابة من المسرح إلى الصحف والمجلات التي أخذت في التزايد.
بعد نحو نصف قرن وأكثر، أصبح المسرح فاعلًا ومؤثِّرًا ما جعل السلطة البريطانية تشدّد الرقابة أكثر، ولم تسمح بظهور المسرح السياسي، وإن كان هناك مسرح سياسي بلا سياسة، حيث فرضت الرقابة على النصوص المسرحية، كما أوجبت عرضها قبل إخراجها وتقديمها، ولم تحاول أن تتدخل بشيء مهمّ يساعد على تطوير المسرح ببناء دار أو قاعة للمسرح، ولا بتوفير منح دراسية خاصة به، أو تقديم بعض الخبرة، أو استقدام بعض الخبراء المسرحيين.
وعلى العكس من ذلك، أوقفت السلطة البريطانية أيَّ عمل مسرحي يعالج قضايا المجتمع والمواطن، وإذا استجابوا لأحد فهم يستجيبون وبسرعة لأئمة المساجد الذين كانوا يهاجمون المسرح والمسرحيين، بحُجّة أنّ بعضهم يتقمّص أدوار النساء، أو يشجّعون المرأة على التمثيل، وفقًا للمؤلف المسرحي محمد الشرفي. وقد أثار ظهور أول ممثلة يمنية محترفة على خشبة المسرح "نبيهة عزيم"، في مسرحية "النعمان بن المنذر" في العام ١٩٥٦م، بدور بنت الملك نعمان- النقدَ الواسع، بقدر ما أثار إعجاب الجمهور والصحف والكثير من الفرق المسرحية.
بعد الأحداث المصيرية في التاريخ السياسي اليمني الحديث؛ ولادة الجمهورية في أعقاب ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م شمالًا، التي قضت على الإمامة ونظام الملكية المتخلف بعد عقود من الحكم المطلق للأسرة المتوكلية، وقيام ثورة ١٤ أكتوبر ١٩٦3م جنوبًا، التي حققت الاستقلال من الاستعمار البريطاني بعد 128 عامًا من الاحتلال- افتُتِح النشاط المسرحي في الشمال، واستُؤْنف المسرح السياسي في الجنوب.
صعدت في تلك المرحلة أنظمة سياسية مختلفة في الشطرين، حيث استلم اليسار الحكمَ في جنوب اليمن، واستلمت القوى الجمهورية، التي ضمّت أطيافًا متعددة، الحكمَ في شمال اليمن. وسرعان ما انفجرت دورة أزمات العنف في الشطرين بعد أشهر من تولي الحكم، وقبل توليه أيضًا، مثل اقتتال أنصار الجبهة القومية من أنصار جبهة التحرير من جهة، وحرب الجمهوريين والملكيين من جهة ثانية، ولئن كانت الانقلابات السياسية في عدن في إطار القوى اليسارية، المتفقة، أيديولوجيًّا، في النظرية والممارسة، والمتحاربة على شخص القائد الجديد، فقد كانت في الشمال أكثر تعقيدًا؛ لأنّ انقسامها أكثر عمقًا، أيديولوجيًّا وسياسيًّا وقبليًّا، وعلى مستوى الولاء نفسه للثورة المجيدة؛ وقد عاد الصراع لاحقًا بين الجمهوريين والملكيين على أشدّه.
كرّست دورات العنف وسلسلة الانقلابات في بنية السلطة الجديدة آلية رقابية صارمة، انعكست على أشكال التعبير الاجتماعية والفنية. وعلى الرغم من انتهاء الأنظمة الإقطاعية والاستعمارية، وقيام أنظمة سياسية مختلفة، ظلّت الرقابة على الفنون -المسرح تحديدًا- من أولويات السلطة في يمن ما بعد الاستقلال. فقد حوصر بالإيديولوجيا في عدن وحوصر بالشروط والضوابط وضغوط القوى التقليدية والمحافِظة في صنعاء.
وإذا كانت التأميمات من سمات الأنظمة الثورية، فليس من قبيل المبالغة، إن جاز التعبير، القول إنّ حُمّى التأميمات قد شملت حتى المسرح في عدن، فلم يتم منعه، وإنّما توجيهه ضمن آراء وأفكار الحزب، انتهاءً بصدور قرار إلغاء الفرق المسرحية وتشكيل فرقة واحدة فقط تحت اسم الفرقة القومية للمسرح، للحدّ من فاعليّته ومراقبته وتوجيهه. ومثل كل التأميمات، انتهى الحال بالمسرح بالعجز الفنّي والمالي، وكُسر القرار لاحقًا ضمن خطوة ٢٢ يونيو التصحيحية بالسماح للفرق المسرحية بتشكيل فرقة جديدة، بحسب سعيد العولقي. وبالرغم من خصوصية المسرح في الجنوب، وقد شهدت التجربة المسرحية ولادة المؤلّف والممثّل والفنّي المسرحي عن علم ودراسة، كمؤشر على أنّ المسرح تجاوز دوره المُعَدّ سابقًا لإضحاك وترفيه جنود الإنجليز، إلى أداة ثقافية فاعلة ضُمّت كمادة إلى التعليم المدرسي لاحقًا؛ فقد طغت النبرة السياسية والدعائية والإعلامية.
تكاد تتشابه تجربة المسرح في الشطرين، إلّا أنّ تجربة المسرح في الشمال كانت أكثر تضييقًا، حيث سيطر التيار الديني على السلطة، واحتكمت الأعمال المسرحية للنظرة الأصولية تجاه المسرح والمرأة، فتراجع المسرح والمشاركات النسائية في مختلف الفنون، ومنها فنّ المسرح، سواء في المدارس أو الجامعة أو المسرح الرسمي، وشُدِّدت الرقابة على النصوص المسرحية، وصارت الأنشطة الفكرية والثقافية من مهام المخابرات.
بعد قيام الوحدة ٩٠م، وما أن انفجرت دورة العنف من جديد في صيف ٩٤م، حتى انعكست آثارها بقوة على الأنشطة الاجتماعية، حيث ازدادت الرقابة على الثقافة والفنون، وكثرت الإملاءات على المسرح، وتكررت الصدامات بين الرقابة والمسرحيين، كما غاب الدعم الحكومي، وسُحبت مادة المسرح من المدرسة والجامعة، وتدريجيًّا تحوّل المسرح إلى نشاط احتفالي ينشط لإحياء المناسبات والأعياد الوطنية، وسرعان ما تراجعت الحركة المسرحية، بحيث لم يعد هنالك مسرح في الشمال أو الجنوب، وإنّما مسرحيّون وذكرى عن المسرح.