الطائفية والمذهبية لا تُكوِّنان وطن

قيام مجتمع إنساني في ظلهما أمرًا مستحيلًا
هيثم الأحمدي
September 8, 2024

الطائفية والمذهبية لا تُكوِّنان وطن

قيام مجتمع إنساني في ظلهما أمرًا مستحيلًا
هيثم الأحمدي
September 8, 2024
.

ترتكز الطائفية أو المذهبية (الهويات الدينية الجزئية) على عوامل عدة: أولاها تعيين الهوية الدينية أو الهُوية المذهبية في دين منقسم على أساس الجماعة أو الطائف، وليس على أساس هوية الأمة - الدولة، وثانيتها تسييس هذه الهوية كوحدة للفعل الجمعي بديلًا عن الهويات الاجتماعية أو الأيديولوجية، سواء بإزاء الجماعات الأخرى المغايرة أو بإزاء الدولة، وثالثتها أنّ الهويات الدينية الجزئية تنشطر بتأثر التّنظيمات الجماعية أو هي التي تشطر هذه التّنظيمات، ورابعتها أنّ الجماعات الجزئية (الطائفية - المذهبية) ليست كيانًا صوانيًّا، ولا بنية ثابتة. 

الطائفية ليست هي الدين، بل هي من الدين، أو هي تبرر نفسها بالدين، فالدِّين أوسع وأرحبُ في المبادئ والقيم، وأكثر تسامحًا من الطائفية، ولا يجوز الخلط بينهما كما هو جارٍ لدى الكثير ممن يتناول الظاهرة عند "الطائفيين" أو المدافعين عن شرعية "المذهبية" باعتبارها بُنى ذهنية عَقَدية، أو اجتماعية، أو سياسية. 

إنّ الطائفية بنية شعورية اعتقادية لدى جماعة من المنتمين إلى ملةٍ ما والمعتنقين لتعاليمها العامة؛ ممّا يتكون لديهم اعتقادٌ بكيانيةٍ اعتقادية خاصة، ومتميزة من الجماعات الأخرى التي تشاركها الانتماء الديني. وهي بهذا المعنى تمثل انشقاقًا ثقافيًّا عَقَديًّا داخل إطار الجماعة الدينية الكبرى؛ غالبًا ما تبرره بزعم أنّها الجماعة الأشدُّ تمثلًا للدين الذي تعتنقه. وهي بمعنى ثانٍ بنية ذهنية عصبوية؛ لأنّ مبناها على فكرة أنّ الطائفية هي ابتداءً رابطة روحية تولد تضامنات أو علاقات تضامنية بين من ينتسبون إليها. الطائفة لا تكون كذلك، أو هي لا تعرف نفسها أو يعرفها غيرها بأنها طائفة إلا متى كانت مسكونة بوعي طائفي، وعلى مقتضاه تحدّدت سلوكيات وتصرفات أفرادها. 

المجتمع الطائفي هو مجتمع مغلق، تنكفئ جماعاته على داخلها الفئوي، لتتمايز من بعض ولتقيم لنفسها -بذاك الانغلاق- حزامَ أمانٍ يحميها من غائلة غيرها، فهذه العصبيات الطائفية والمذهبية لا تميل إلى معاداة بعضها وإلى الخوف من بعضها إلا لأنها متشبعة بثقافة إنكار حق الآخر في منازعتها تمثيلَ الحقيقة التي تدعيها.

كما أنّ ادعاء أية طائفة التمثيلَ الصحيح والقويم للدِّين يؤسس في وعيها وفي لا وعيها، أنّها وحدها تحتاز الحقيقة، وأن غيرها على باطل (ضال أو منحرف أو مبتدع أو ربما كافر). وهكذا نجد فكرة "الفرقة الناجية" في التاريخ الثقافي الإسلامي، التي تصارعَت الفرق على ادّعاء أنّها تلك الفرقة من دون سواها، وما برحت حتى اليوم تزعم لنفسها الشيءَ نفسَه! 

ومن هنا، ونتيجة للأسباب التي ذكرنا، من اعتصاب ووهم بتمثل الدين الصحيح، تتحول حكمًا إلى كيان مغلق وتعيد إنتاج ثقافتها وعقائدها وأساطيرها، داخل ذلك الكيان المغلق؛ الأمر الذي يترتب عليه انغلاق وانسدادٌ وتحجُّر في عقلها الجمعي، من خلال رؤيتها إلى ذاتها وإلى العالم من حولها، وهذا في جملة أسباب نزوعها الانكماشي في المحيط المجتمعي والسياسي، وميلها إلى التصرف كَـ"أقلية" مهدّدة من الآخرين. 

الصورة، والبنية المصغرة

الطائفية مؤسسة أيضًا، وليست بنية ذهنية فحسب، إذ تميل الطائفة في الأغلب إلى مأسسة أنشطتها وعلاقاتها كافة من الأحوال الشخصية إلى التمثيل السياسي، مرورًا بالنشاطات التربوية والاقتصادية وبالحياة الروحية، وهذه المأسسة التي تجعل منها ما يشبه مجتمعًا خاصًّا داخل المجتمع الوطني، ودولة صغيرة داخل الدولة، إنما هي مصروفة إلى تحصيل منظومة كاملة من الأهداف، تبدأ من هدف إعادة إنتاج الطائفية ككيان ومؤسسة بالدين والتعليم والمصالح الاقتصادية؛ إلى هدف تحقيق مصالحها في السلطة والدولة من خلال الحصول على حصة فيها، أو السيطرة عليها في بعص الحالات. 

الطائفية بهذا المعنى المؤسسي (الاجتماعي-السياسي)، تشكّل انشقاقًا جديدًا عن المجتمع والدولة، وتفلتًا -أو محاولة تفلت- من ضوابط الوطنية الجامعة وأحكامها، وتطهيرًا لـ"الهوية" الفرعية في مواجهة الانتماء الوطني العام.

إضافة إلى كونها بنية اعتقادية مغلقة على نفسها، كذلك تكون بنية مؤسسة مغلقة. وكما يقودها انغلاقُها الفكري والنفسي إلى رفض الآخر ومفاصلته، كذلك يقودها انغلاقها السياسي إلى عدم الاعتراف لغيرها بمصالحه، وإلى تقديم مصلحتها العصبوية على المصلحة العامة. 

أما المذهبية فليست إلا الصورة والبنية المصغرة للطائفية، والوليد غير الشرعي لها. إنها انشقاق داخل الانشقاق، و"تذرر" داخل بنية متذررة أصلًا؛ فهي تتولد من الذهاب بعيدًا في البحث عن عوامل التمايز، وعن الفواصل الدقيقة التي تفصل وتعزل، سعيًا وراء ماهيات أكثر صفاءً ونقاءً، إنّها لا تختلف في النوع عن الطائفية فللاثنتين الديناميات الانقسامية والتفككية عينها، تختلف في الكم فقط، وإن كان الاختلاف فيه من آثار الدينامية الانقسامية ومفاعليها.

التشبع بثقافة الإنكار

المجتمع الطائفي هو مجتمع مغلق، تنكفئ جماعاته على داخلها الفئوي، لتتمايز من بعض ولتُقيم لنفسها -بذاك الانغلاق- حزامَ أمانٍ يحميها من غائلة غيرها. وهذا معناه أنّ الجماعات المغلقة التي من هذا النوع دائمًا تشعر بالمخاوف؛ لأنها تتبادل التهديد المضمر أو المعلن بينها، فتدفع الواحدة منها الأخرى إلى التهيب والتحسب، وتمرين الاجتماع الأهلي الفئوي أو العصبوي الداخلي، على طقس الدفاع الذاتي من طريق التربية والتكوين ووسائط المخاطبة المختلفة (الإعلامية، الثقافية، المسجدية، الدعوية، ... إلخ).

فهذه العصبيات الطائفية والمذهبية لا تميل إلى معاداة بعضها وإلى الخوف من بعضها إلا لأنها متشبعة بثقافة إنكار حق الآخر في منازعتها تمثيل الحقيقة التي تدّعيها، حين يكون لكل جماعة مسجدها ومدارسها وتقويمها الخاص لمواقيت الأعياد الدينية ومناسباتها المختلفة. وهي جميعها نتاج مؤسسي لرأي فاهَ به أحدٌ من ألف عام أو أكثر، فليس من مغزى لذلك سوى أن كل واحدةٍ منها تَحسب نفسها "الفرقة الناجية" المخلدة في الجنة، وأن ما عداها في ضلالٍ مبين!

المجتمع الطائفي والمذهبي نقيض المجتمع المدني الحديث (الدولة الوطنية الحديثة)؛ المجتمع القائم على الروابط الوطنية، التي تذوب فيها الأصول الدينية والمذهبية والعِرقية والقبَلية والمناطقية، وتتكون منها شخصية وطنية عامة تتجسد في أفراد يتمتعون بالحقوق عينها.

لذا؛ فإنّ الطائفية والمذهبية لا يمكن أن تكوِّن وطنًا، فهي سجونٌ مقفلة، ولأنّ الوطن ليس علاقة كمية تجمع بين أشتات من الناس تقوم بينهم العوازل والأقفاص، وينظر الواحد منهم إلى غيره بوصفه عدوًّا له، الوطن مواطنةٌ ومساواةٌ في الحقوق والواجبات وولاء عام للدولة، وليس ولاءً فرعيًّا لبنى عصبية صغيرة قوامها قرابة الدم أو "أزعومة" النسب، أو التَّقرفُصَ على فكرة ليس لها واقع يسندها. هذه الجماعات لا تقف حجر عثرة أمام تكوُّن وطنٍ ودولة فحسب، بل تجعل من قيام اجتماع إنساني أمرًا مستحيلًا، وتعود بالعلاقات بين الجماعات إلى القانون الذي أطلق عليه توماس هوبس "حرب الجميع على الجميع"، أليس الفتن والحروب الأهلية المتناسلة من بعضها مثل الفطر، مصداقًا لذلك القانون؟! 

المجتمع الطائفي والمذهبي مجتمع خالٍ من ثقافة الاعتراف؛ ليس الاعتراف بحق المخالف في الرأي والاعتقاد، بل حتى بالحق في الوجود! إنه مجتمع يعاني فقرًا فادحًا حتى في قيم الصَّفح والعفو والمساكنة، لذلك تراه مستنفرًا ضد بعضه، مستأسدًا في حروب الداخل ببسالة، لا تضارعها مناضلة العدو الخارجي، ولذلك هو مجتمع منقسم (أو انقسامي)؛ عاموديُّ العلاقات لا أفقيّها، يفتقر إلى علاقات الاندماج الاجتماعي، وإلى شعور بالانتماء المشترك. هل يستغرب والحال هذه أن يكون هشًّا ورخوًا، وسهل الاختراق الخارجي، وأن تبحث عصبياته لنفسها عن الحماية من الخارج، فتكون كل واحدة منها تابعة لفاعل إقليمي أو أجنبي. 

باختصار شديد، المجتمع الطائفي والمذهبي نقيض المجتمع المدني الحديث، (الدولة الوطنية الحديثة)؛ المجتمع القائم على الروابط الوطنية، التي تذوب فيها الأصول الدينية والمذهبية والعِرقية والقبَلية والمناطقية، وتتكون منها شخصية وطنية عامة تتجسّد في أفراد يتمتعون بالحقوق عينها، وتترتب على حقوقهم الواجبات عينها، على مقتضى مبدأ المساواة الناظم للاجتماع السياسي الحديث.

إنّ مجتمع الدولة الوطنية الحديثة هو مجتمع دولة الحق والقانون الذي تحكمه القوانين، بما هي التجسيد المادي لما يسميه جان جاك روسو الإرادة العامة، وليس الأعراف وقيم الجماعات المغلقة، وهو المجتمع الذي يقر الحق في التعبير والرأي والاعتقاد والاختلاف بما لا يصادر حقوق الآخرين وينتهكها.

•••
هيثم الأحمدي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English