فيلم "المرهقون"؛ نظرة على المدينة والناس

إجهاض لأحلام ومستقبل جيل أنهكته الحرب
محمد الكرامي
March 10, 2024

فيلم "المرهقون"؛ نظرة على المدينة والناس

إجهاض لأحلام ومستقبل جيل أنهكته الحرب
محمد الكرامي
March 10, 2024
.

بعد سنوات من العمل مُخرِجًا، في مجال السينما والمسرح، حقّق عمرو جمال فيلمه الروائي الطويل، الأول، "عشرة أيام قبل الزفة" في بلاد بلا سينما أو مسرح، ورغم أنّ اليمن عرف منذ أواسط القرن العشرين حركةً ثقافية إبداعية مدهشة أبرزت قصّاصين وشعراء ومسرحيين، كان على الفن السابع أن ينتظر بداية سنوات الألفية الجديدة وحضور جيل جديد. ومنذ أن لفت الانتباه في فيلمه الروائي الأول بتقنيته الإخراجية، وطاقات فنية جادّة من الممثلين والممثلات، يأتي فيلمه الروائي الطويل الثاني "المرهقون" ليحقّقَ له مكانة أولى في عالم السينما في اليمن، وفي المهرجانات السينمائية الدولية.

شارك فيلم "المرهقون" في مهرجان برلين السينمائي في دورته الـ73، وفاز بجائزة "منظمة العفو الدولية"، ليكون أوّل فيلم يمني يشارك في هذا المهرجان. كما حصد الفيلم في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 2023، جائزة "ميد فيلم روما الدولي"، في الدورة الـ29 لهذا المهرجان، بالإضافة إلى جائزة هوغو الذهبية في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي. وإذا كان جمال قد بدأ بقصة عن رغبة شخصين بالزواج في (عشرة أيام قبل الزفة)، فإنه يعود بقصة جديدة عن الإجهاض في عمله هذا (المرهقون). 

ثمة قاسم مشترك يجمع بين فيلمَي عمرو جمال "عشرة أيام قبل الزفة" و"المرهقون"؛ وهو حضور مدينة عدن الجريحة. لا يزال من المبكر أن تصبح الحرب في اليمن جزءًا من الذاكرة، بمعنى أن نتحدث عنها بصيغة الماضي؛ لذا نجد نزوع عمرو جمال إلى أن يلعب المكان دورًا أساسيًّا كشاهد حي على آثار الحرب.

يبدأ الفيلم في مدينة عدن، ويدور حول عائلة مكونة من خمسة أفراد يكابدون العيش. إنّها قصة عائلة يمنية من الطبقة المتوسطة، تعاني من التبعات الاقتصادية للحرب التي اندلعت أساسًا في سبتمبر/ أيلول من العام 2014. أحمد (خالد حمدان) الذي كان يعمل في تلفزيون عدن، لم يستلم مرتبه منذ فترة، ومرت عليه أشهر دون عمل. تتفاقم الضغوط بين إيجار الشقة ورسوم المدارس ومصروفات المنزل، مما يدفعهم لمغادرة الشقة والانتقال إلى شقة متهدمة، ويضطر أحمد إلى العمل سائق أجرة، لإعالة أسرته، وإلا فإن الأسرة ستغرق تمامًا في الفقر.

علاوة على ذلك، تُفاجَأ الأم إسراء (عبير محمد) بأنها حامل وتنتظر مولودًا جديدًا قبل أن تقرر، رفقة زوجها، التخلصَ من الجنين. كلاهما يدرك أنهما ببساطة لا يستطيعان تحمل تكاليف طفل رابع في الوقت الحالي، فيشرع الزوجان في رحلة طويلة للحصول على عملية إجهاض غير قانونية. 

إجهاض مستقبل جيل

يرسم عمرو جمال، ببراعة، الضغوطَ الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية في حياة الزوجين، ويقدّم تذكيرًا مفيدًا بأن بعض القرارات الشخصية في اليمن ليست ملكك وحدك، فالإجهاض يعتبر مُحرّمًا، ويُنظر إليه على أنه خطيئة؛ ولذا هو أيضًا قرار المجتمع. ولهذا، سنرى أحمد بعد إقناع زوجته بضرورة الإجهاض، سيتعين على كليهما إقناع جيرانهم وأصدقائهم وعائلتهم.

في هذه الأثناء، يجد الزوج مقطع فيديو لرجل دين يشير إلى أنّ الجنين لا روح له إلا بعد أن يبلغ 120 يومًا. ولكن صديقة إسراء المقربة الطبيبة منى (سماح العمراني)، ترفض الفكرة رفضًا قاطعًا، وكذلك الدكتورة نيفين. ولكن تتبدل الاعتقادات الدينية، حينما تتعاطف إحدى الممرضات وتقوم بالتنسيق لإجراء عملية إجهاض في المنزل دون إشراف طبي. 

كان هناك العديد من الأفلام عن الإجهاض في السنوات الأخيرة، حيث يتخذ كلٌّ منها منهجًا فريدًا وضروريًّا لموضوع أصبح الحديث عنه أكثر أهمية من أي وقت مضى. ولكن المخرج عمرو جمال، هنا، يستكشف الحرب وتبعاتها في اليمن من مستويات عدة، باعتبار أنها حكاية شهدها المخرج شخصيًّا في مدينة عدن، وتُعبِّر رمزيًّا عن إجهاض مستقبل جيلٍ من اليمنيين واليمنيات.

المرهقون هم أشخاص متعلمون، صعدوا في المجتمع من خلال وظائفهم في تلفزيون عدن، ولكن الحرب فرضت واقعًا جديدًا، حيث أصبح الانخراط في دوامة الحرب طريقًا للصعود الوظيفي والاجتماعي. ومن هنا، فإن صهر أحمد، الذي كان فاشلًا في نظر العائلة، بلا شهادة جامعية أو مهنة، يرمز لهذه التبدلات الاجتماعية في زمن ما بعد الحرب؛ حيث اكتسب نفوذًا كبيرًا في الواقع الجديد من خلال انتمائه إلى مجموعة عسكرية. ومِن ثَمّ أصبحت العائلة الآن تنظر إلى الأب المتعلم، والمثقل بالديون، باعتباره خاسرًا، لافتقاره إلى علاقات ونفوذ صهره القوي. ونرى هذا الواقع المأزوم في مشهد الغداء العائلي بين الأسرتين، حيث يقوم صهر أحمد العسكري في الجيش بوضع سلاحه المحشو بجانب طفله البالغ من العمر سبع سنوات، على حين يكتفي أحمد بمراقبة هذا الوضع بغبن وحنق.

نهاية لا تشبه واقع الشخصيات

ثمة قاسم مشترك يجمع بين فيلمَي عمرو جمال "عشرة أيام قبل الزفة" و"المرهقون"؛ وهو حضور مدينة عدن الجريحة. لا يزال من المبكر أن تصبح الحرب في اليمن جزءًا من الذاكرة، بمعنى أن نتحدث عنها بصيغة الماضي؛ لذا نجد نزوع عمرو جمال إلى أن يلعب المكان دورًا أساسيًّا كشاهد حي على آثار الحرب. صُوِّرت معظم مشاهد الفيلم في لقطة واحدة متواصلة ترصد المكان وسكانه وتحركاتهم داخل المدينة وحتى داخل المنازل، على نحو بانورامي. تنتقل الكاميرا عبر أجزاء مختلفة من المنزل، الدرج، غرفة المعيشة، إلى الشرفة. وتتمثل الحرب بصريًّا من خلال النقاط العسكرية والبيوت المدمرة. ونتابع بصريًّا معاناتهم اليومية التي تتجلى في انقطاع التيار الكهربائي، والوقوف في طابور خزان المياه الذي يجلبه الجيش في الحي، ومن ثَمّ نقل المياه من الشارع إلى المنزل.

طوال الفيلم، يركز المخرج عمرو جمال على العملية الإبداعية بدلًا من النتيجة النهائية، وهو ما يضفي الأصالة على السرد. وعلى خلاف أفلام الإجهاض، حيث نرى المرأة الحامل تقوم بهذا الإجراء لكي تحقق أحلامها في النهاية، فإن الإجهاض هنا بلا أحلام أو رغبات أو طموح، هو إجهاض لأحلام ومستقبل المرهقين؛ ومن هنا تأتي النهاية معلقة ومشوشة ومحزنة، تمامًا مثل واقع الشخصيات.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English