كان سائق الحافلة الصغيرة في أحد شوارع مدينة تعز، يحرك مؤشر الراديو عندما توقّف على أنغام تهامية شدّت انتباه الركاب الذين طلبوا منه عدم تغييرها، وكانت الأغنية للفنّان هاني الحاج، (خاطرك وا سمون).
ما أن انتهت المقطوعة الغنائية حتى دار نقاشٌ بين الركاب عن الغناء التهامي، وأنّ الموسيقى الحديثة والتطور التكنولوجي، جعلته أكثر حضورًا وتقبُّلًا لدى المستمع العادي، حيث برز مؤخرًا عبدالله آل سهل كفنّان مجدّد للون الغناء التهامي، ومن بعده الفنّان هاني الحاج في الظهور، حيث ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي في إيصاله إلى قطاع عريض من الشباب الذي يستوطن المنطقة الساحلية الغربية من اليمن، من محافظة تعز والحُديدة وحَجّة، وله امتداداته على المنطقة التهاميّة كلّها حتى العمق السعودي.
فنّ لم يتوارَ
لكن الموسيقار والباحث جابر علي أحمد، يقيم رؤية مختلفة، ويؤكّد لـ"خيوط" أنّ الفنّ الشعبيّ في تهامة لم يتوارَ في يومٍ من الأيام؛ لأنّه يشكّل حالة ثقافية عضوية متداخلة مع طقوس الناس المتنوعة والمرتبطة بالمناسبات والمهن، ويقول إنّ الفنّ الشعبيّ كان ولا يزال، مصدرًا هامًّا من مصادر الإبداع.
ويبيّن الموسيقار جابر أنّ هناك فرقًا بين التنسيخ والاستلهام؛ فالتنسيخ هو النقل الحرفي للمادة الغنائية الشعبية وتقديمها للناس وكأنّها من بنات أفكار الناقل، وباستخدام وسائل التأثير التكنولوجي للصوتيات. ويرى أنّ هذا النوع من التنسيخ يلقى رواجًا يحسب للناسخ.
ويوضح أنّ هذه العملية تختلف عن الاستلهام الذي يقوم على أساس استحضار المزاج الشعبي العام ودمجه بمكونات موسيقية تشكّلت في وجدان المبدع، وتقديمها على هيئة منتج جديد يختلف جذريًّا عن المادة الشعبية الخام.
ويقول جابر إنه من الصعب الحديث عن لون تهامي محدد، إذ يوجد في تهامة ما يسمى بالغناء التقليدي، ويندرج تحت هذا العنوان قالبان، هما: الموشح، والقصيدة. ولعبت الحركة الصوفية في تهامة دورًا بارزًا في إنعاش هذين القالبين على نحوٍ بات فيه جزءٌ من المكون الثقافي لأبناء تهامة. ولهذين القالبين -حسب أحمد- خصائصهما المقامية والإيقاعية وطريقة نسج نغمي يجعلها تتميز كثيرًا عن المواد الغنائية الشعبية.
ويضيف: "أمّا ما يتعلق بالغناء الشعبي في تهامة فهو متنوّع جدًّا، ففي جنوب تهامة تتوفر أغانٍ لها من الصفات ما يميزها عن صفات أغاني شمال تهامة. كما أنّ هناك غناء ساحليًّا مدّ تأثيره إلى المناطق الداخلية في تهامة". وذكر أنّ للنوعين الغنائيين المذكورين امتدادات جغرافية في المناطق الآسيوية والإفريقية المجاورة. فمن الواضح أنّ رقصات كالوزبة والحقفة والعطاء والرزفة، والتي تُنفَّذ متلازمةً مع أغانٍ شعبية تصاحبها آلات إيقاعية كالمرفع والطبل والمكب والقصبة وغيرها، لها وشائج ما مع أغانٍ شعبية ذات مسحة إفريقية، وذاك يتواجد في جنوب تهامة.
أمّا في شمال تهامة -والكلام للموسيقار أحمد- فتظهر أغانٍ شعبية مثل الفرساني والدمكة لها صلات مع أغاني الشام، وما يؤكّد ذلك شكلُ الرقصات التي تؤدَّى بمصاحبة الآلات كالمزمار والطاسة والطبل. ويتمنّى جابر علي أحمد أنّ يكون عرض كهذا محفزًا على التعمق أكثر في تفاصيل مكونات تراثنا الشفهي ليس في تهامة فحسب، وإنّما في كامل الأرض اليمنية التي تموج بما لا يحصى من عناوين ذلك التراث.
ستثمر يومًا
لكن الموسيقيّ والعازف محمد عبدالملك أنعم، يرى أنّ الفنّ اليمنيّ عمومًا، ومن ضمنه الموروث التهامي، هو في الأساس جزءٌ أصيل من الهُوية الوطنية التي يسعى الإنسان لاستعادتها، خاصة في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ البلاد، وبالتالي كان لزامًا أن تنبعث تلك الهُوية من وسط ركام الحرب. لكنه يشدّد على ضرورة وجود أسس علمية ومنهجية سليمة للتعامل مع الموروث. ومع ذاك، يعود ليقول إنّ ما يحدث الآن من محاولات فردية من هنا وهناك وإن كانت عشوائية، لا شكّ أنّها ستُثمر يومًا ما.
ويشير إلى أنّ هذه التجارب ليست الأولى، فقد سبقت تجارب ومحاولات عديدة لإبراز التراث التهامي العريق من قبل الجيل الثاني من الأساتذة الروّاد، والذي كان أولهم الفنّان محمد مرشد ناجي في رائعته (وا صَيّاد) وغيرها، تلاه بعد ذلك الفنّان محمد سعد عبدالله، وبعدهما أيضًا الفنّان أيوب طارش الذي قدّم عدة أعمال من اللون التهامي، مثل (وا طائر امغرب) وموسيقار اليمن الكبير أحمد فتحي الذي قدّم عدة أعمال في اللون التهامي، أبرزها أغنية (وَا ازْيَب قر).
فرز على قاعدة التشظي
وبخلاف ذلك، يرى مؤسس ورئيس نادي القراءة بمحافظة الحُديدة، الدكتور محمد الشميري، أنّ مناطق كثيرة في البلاد ظُلمت، وخصوصًا منطقة تهامة التي تزخر بموروث وافر وعميق ومتفرد، فقد غابت الجملة الغنائية التهامية واللحن والأهازيج والرقصات، عن شاشة التلفزيون والصحافة والإذاعة، إلّا من حضورٍ هامشيّ، ويقول إنّ مصطلح لون غنائي تهامي أو صنعاني أو تعزي وغيرها ليس مصطلحًا فنيًّا دقيقًا، بل هو فرز صنعه التشظي، ولم يقم على معايير وأسس فنية، ويستشهد بلون الغناء الصنعاني والشعر الحميني، ويقول إنّ هناك خلطًا في نسبته إلى صنعاء، بينما الحميني هو نسبة إلى منطقة حمنة في مديرية حيس بتهامة...!
وتمنّى الشميري استثمارَ الحسّ الوطني والاتجاه نحو تعزيز الهُوية الوطنية في ظلّ الحرب، ليكون باعثًا لتقديم أعمال متكاملة العناصر، ابتداءً من الكلمة والقصيدة الغنائية ذات الملمح التهامي، ثم اللحن الخالص المميز لمختلف مناطق تهامة، وتوثيقها علميًّا، وتدريب الشباب على طرق حفظ وصون التراث، وقبل كل هذا، التفريقُ بين التراث وبين الأغنية الفردية؛ لأنّ هناك خلطًا كبيرًا بينهما.
لكن الفنّان التهامي عبده آل شراعي، يرى أنّ سبب عودة الموروث التهامي مردّه إقبال الجمهور عليه بشكل كبير عندما بدأ الفنّان عبدالله آل سهل تقديم هذا الموروث بموسيقى عصرية، واستخدم مواقع التواصل الاجتماعي في نشره، وأنّه انضمّ إلى هذه الجهود الهادفة إلى إحياء اللون الغنائي التهامي.
غير أنّ مدير مؤسسة فنّ للإنتاج الفني، أبوبكر نجيب، يعارض آراء بعض النقّاد الذين يتمسكون بتقديم الأغاني كما قُدّمت في الأصل، ويقول إنّ التجديد الذي لا يهدم الأغنية الأصلية وتفاصيل لحنها، وإنّما يعمل على تحديدها وتحسينها، فذلك يتطلّب التشجيع؛ لأنّ ذاك يواكب الحداثة والتطور الكبير الذي يعيشه العالم.
لجنة توثيق
أمّا مدير عام المصنفات والمِلكية الفكرية بديوان عام وزارة الإعلام والثقافة والسياحة، محمد عبدالرحمن، فيؤكّد أنّه لم يتم توثيق ألوان الغناء اليمني كاملة. وخصوصًا من قبل الجهات الرسمية. مشيرًا إلى جهود فردية ومجتمعية أنجزت أعمالًا مهمة في توثيق الفنّ الغنائيّ والموسيقيّ اليمنيّ، وألوانه. ومن ذلك مؤسسة بيت الفنّ اليمني، وعددٌ من الفنّانين، أمثال الفنّان محمد مرشد ناجي، والفنان جابر علي أحمد، وغيرهما.
ويكشف عن صدور قرار في منتصف عام 2021 -وبمناسبة يوم الأغنية اليمنية، الأول من يوليو- بتشكيل لجنة لتوثيق الأغنية اليمنية برئاسة نائب الوزير لقطاع الثقافة الراحل عبدالله باكدادة. وعلى ضوء ذلك، تم إعداد دراسة لتوثيق الأغنية اليمنية وكل ما يتصل بها، وتكوين متحف افتراضيّ للأغنية، لكن لم يتم البدء بالتنفيذ، دون إعطاء تفاصيل إضافية. ويذكر أنّ لدينا القانون رقم (15)، لسنة 2012م، بشأن حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة. وهناك الإدارة العامة للمصنفات والمِلكية الفكرية، ومن مهامها منحُ شهادات تسجيل لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة. وكذا حماية الموروث الثقافي، والغنائي والفلكلور. ولكنه اكتفى بالحديث عن صعوبات وإشكاليات كثيرة تواجه العمل في هذا المجال.