استُقبل سليمان طنم بحرارة غير معهودة، وسط تفاعل منقطع النظير من قبل الحاضرين. حدث هذا وهو يعتلي مسرح معرض الكتاب بتعز، صادحًا بأبيات شعرية ذات طابع شعبي، باللهجة التهامية السلسة والبسيطة.
تأخر المعرض أسبوعًا كاملًا حتى يُتاح لـ"غُنج طنم" أن يكون حاضرًا في معرض هذا العام، وهو ديوان شعر شعبي باللهجة التهامية ظل في أدراج النسيان لنحو 28 سنة، قبل أن يرى النور طباعةً وحضورًا في معرض الكتاب، الذي بدأت فعالياته المتنوعة أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2020.
ينتمي الخمسيني سليمان طنم، إلى مديرية جبل رأس بمحافظة الحديدة، غرب اليمن، إذ قذفت به الحرب نازحًا إلى تعز، بعد سلسلة نزوح تنقّل خلالها بين ثلاث مناطق، قبل أن يستقر به الحال في هذه المدينة.
بابتسامة زاهية، يحكي طنم لـ"خيوط" تفاصيل يومه، الذي اعتبره خالدًا؛ فديوانه الذي لم يفكر بأنه سيخرج من بين قصاصاته المنسية، بات بين يديه مطبوعًا وفي متناول مرتادي معرض الكتاب في المحافظة التي تُعرف بـ"عاصمة الثقافة اليمنية".
"بالتأكيد ليس غريبًا على تعز ما قدمته لأجلي، فهي سبّاقة وولّادة، وكلي سعادة بأنني حظيت بكل هذه الحفاوة، لقد أنسوني متاعب ومآسي نزوحي التي عايشتها مع أسرتي منذ سنوات، وأعادوا لي اعتباري بطباعة ديواني وتقديمي للناس عبر مسرح المعرض"، يضيف طنم.
إنعاش الحياة الثقافية
ثلاثة دور نشر ومكتبات عدة شاركت في المعرض، خلافًا لمعرضي العامين الماضيين، وبأكثر من أربعة آلاف عنوان، يميزها التنوّع وسط حضور ملفت للوجوه الشبابية التي تشارك بعناوين بارزة في المعرض.
"يشكّل المعرض خلاصة جهود، بدأ التحضير لها منذ بداية العام، ونستمر حتى نصل للموعد المحدد وفق ما خططنا له؛ حتى نتمكن من تحقيق الأهداف التي رسمناها، وفي مقدمتها توفير كتب أدبية وتعليمية للجمهور في المحافظة"، يقول عبدالخالق سيف مدير مكتب الثقافة بمحافظة تعز.
ويضيف سيف لـ"خيوط": "نسعى جاهدين لإنعاش الحياة الثقافية ككل، والعمل من خلال هذه المحافل على تطبيع الحياة، وتقديم تعز بالصورة التي تليق بها، بعيدًا عن رائحة الموت المنتشرة في كل أحيائها".
ويرى سيف أن ضمان استمرار مثل هذه الأنشطة سيساهم في استعادة تعز لدورها الثقافي على المستوى الوطني، وسيخلق بيئة خصبة لدورة حياة ثقافية مكتملة، ولحراك أدبي فاعل على كافة المستويات.
نِزال القوافي
بالتزامن مع معرض الكتاب، أقيمت صباحيات وأمسيات شعرية تبارى فيها عدد من شعراء تعز المخضرمين والشباب. نزالات عنوانها الحب والإقبال على الحياة، وهجاء الحرب وما ارتكبته في حق المدينة واليمن عمومًا؛ كلٌّ له قافيته، وحروفه التي يجيد إعادة نسجها وتقديمها للحاضرين على طبق من ذهب.
"إنها تظاهرة حياة بامتياز، نعيد بها لملمة شتات المدينة المثخنة بجراحها، ونحاول أن نحيي في نفوس الشباب ما فقدوه. هناك جيلٌ عايش تفاصيل الحرب كلها، ولا يعرف سبيلًا إلى عناوين الحياة التي تحملها تعز"، هذا ما يقوله نبيل الحكيمي، رئيس فرع اتحاد الكُتّاب والأدباء في المحافظة.
خلال حضور العرض المسرحي، تشعر كم أن الجمهور العريض العاشق للمسرح في تعز يتوق لهكذا حراك، يخفف عنه وطأة الحرب ومخلّفاتها
"نأمل أن نتمكن من استعادة النشاط الثقافي بكل أنواعه؛ من معارض الكتاب إلى الأمسيات والفعاليات الشعرية والأدبية الأسبوعية، وحتى المسرح. أتطلع لعناوين ذات حضور أوسع من الجيل الحالي الذي يعيش مرحلة مفصلية من تاريخ تعز واليمن أجمع"، يضيف الحكيمي في حديثه لـ"خيوط".
مسرحية "الخلاص"
ليس ببعيد عن قاعة معرض الكتاب، احتضنت القاعة الكبرى بمنتزه التعاون، وسط المدينة، عرضًا لمسرحية "الخلاص" خلال يومين متتاليين، وهو العرض الثاني للمسرحية التي نافست على المراكز الأولى للعروض المسرحية في محافظة حضرموت العام الماضي، 2020.
خلال حضور العرض، تشعر كم أن الجمهور العريض العاشق للمسرح في تعز يتوق لهكذا حراك، يخفف عنه وطأة الحرب ومخلّفاتها. فالمئات ملَؤُوا القاعة، وسط تفاعل كبير مع فصول المسرحية وأحداثها المتنوعة بين التراجيديا والكوميديا والسرد المحاكي للواقع اليمني اليوم.
يجد الشاعر والأديب محمد شرف في هذا العرض ما أسماه بعودة الروح للفعل الثقافي لتعز، ولا ينسَى سرد تفاصيل ذكرياته الماضية والمتمثلة في الفعاليات الشعرية التي وصفها بأزهى ما عاشته تعز قبيل الحرب، حين كانت مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة قبلة لكل أديب وشاعر؛ تحتضن الجميع، وتفتح أبوابها للشعر والشعراء دون شرط مسبق. "كنّا نعيش على وقع القوافي، وكم أن مثل هكذا فعاليات تعيد الذكريات، وتشعل جذوة الشعر، وتمدنا بشيء من الأمل الذي يجعلنا نتفاءل بأن غدًا لن يطمس هوية تعز وأعيانها الثقافية"، والكلام هنا لشرف.
وعن مسرحية "الخلاص" يتحدث شرف عن "تكامل المحتوى مع العرض والأداء، حتى المعالجات والأدوات والملابس المستوحاة من طبيعة المسرحية ذاتها، تؤكد أن هناك ما يستحق المشاهدة والإشادة. في الواقع هناك عمل، وهناك رغبة للحفاظ على النسق الثقافي بأنواعه"، يقول شرف.
أما سليمان طنم، روح معرض الكتاب الثالث، فلم يجد ما يقوله لقرّاء ديوانه التهامي سوى هذه الكلمات: "إلى كل من آمن بالوجه الأسود، وصفّق لمخيّط الجزمات الشاعر، شكرًا لكم كثيرًا، فأنا ولدت مرة أخرى من خلالكم، وصار حلم "غُنُج طنم" حقيقة مطبوعة وشهادة ميلاد جديدة أصدرها لي مكتب الثقافة بتعز بعد 28 عامًا من الانتظار المُحبط، ولن أموت مرتين".
كما أنها رسالة تعز لأهلها وللمتحاربين، وهي تعيش تفاصيل الكرنفال الثقافي المتنوّع، بصوت الشعر والأدب، ورائحة الكتب، وفاعلية الشباب وحماسهم، ولسان حالها: "لن أموت مرتين!".