ثمة كتب ونصوص عديدة ذات طابع تاريخي وأنثروبولوجي وثقافي عام أنجزت عن تعز كمدينة وحاضرة تاريخية في اليمن خلال القرن السادس الهجري وما بعده. ويبقى كتاب الراحل محمد بن محمد المجاهد عنها "مدينة تعز؛ غصن نضير في دوحة التاريخ العربي" (1997)، هو الرائد فيها، بعرضه لتاريخ المدينة بكثير من التفصيل، وإن كتاب فيصل سعيد فارع المعنون "تعز؛ فرادة المكان وعظمة التاريخ"، الذي صدر بعد عقد ونصف من صدور كتاب المجاهد، جاء ليسد نقصًا في تاريخ المكان وجغرافيته وسكانه؛ أما نصّ نهى صادق- الباحثة المصرية الكندية بفنون العمارة الإسلامية، ذي الطابع التاريخي المجمل والمسحة الأنثروبولوجية القليلة، والمنشور في عدد مجلة "الفيصل" لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، بعنوان: "مدينة تعز قبل الجمهورية" وترجمة للدكتور علي محمد زيد، فهو أحدثُ نتاج عن تاريخ المدينة وتركيبتها الثقافية والسياسية والاجتماعية.
وهذه الإسهامات العلمية الثلاثة صارت مجالًا للمعاينة في هذه المادة، التي تتوخى عرض تاريخ المدينة من ثلاث زوايا للقراءة، أنجزها الباحثون الثلاثة في أوقات ليست متباعدة (نُشرت في أزيد من عشرين عامًا بقليل). الباحثون الثلاثة بتباين تخصصاتهم العلمية (الأول في التاريخ، والثاني في الاقتصاد، والثالثة باحثة في الفنون الإسلامية)، اتّكَؤُوا كثيرًا على المنصوص التاريخي ومصادره المختلفة التي غاصت في هذا الموضع.
من الإسهامات الثلاثة، بقي كتاب محمد المجاهد، المنوّه إليه بعنوانه كاملًا، هو الوحيد الذي أوجد تعليلًا لاسمها، فهي لم تعرف كمسمى في الجغرافية اليمنية إلَّا في حدود المئة السادسة الهجرية، وعلى وجه التقريب في عهد الدولة الصليحية، "عنما بادر السلطان عبدالله بن محمد الصليحي -شقيق مؤسس الدولة- ببناء قلعة تعز في منطقة استراتيجية بين حصني صَبِر والتعكر، وقد رافق -بالتأكيد- بداية الإنشاء عملية استيطان وتجمع لذوي المصالح في سفوح الحصن من مختلف الجهات، وغدا المكان محطة وسط، يربط بين الجند وجبأ وزبيد وعدن، وصبر والتعكر" (المجاهد، ص16).
أُطلق على الحصن، الذي لم يكن للجبل الذي بني عليه اسمٌ متداول ومعروف، اسم (تَعِزّ)، في اشتقاق لغوي جميل، بصيغة الفعل المضارع، وتاء مثناة مفتوحة بعدها عين مهملة مكسورة ثم زايٌ مفردة مشددة. فقد شاع في المنطقة العربية كلها في ذلك الوقت اتخاذ أسماء لمواقع تستحدث من لغة خصبة واهبة حتى في أفعالها كما أشار المجاهد، أما التمثيل الأقرب لحالة الاشتقاق اللغوي من صيغ المضارع لتسمية المواضع في ذلك الوقت، فقد كان في قرار الخليفة العباسي المعتصم، بتسمية الموضع الذي اختاره عاصمة لحكمه بدلًا عن بغداد (سُرَّ من رأى)، والذي اختصر مع الزمن حتى صار (سامراء)، وهي مدينة معروفة حتى اليوم في العراق.
في كتابه "تعز فرادة المكان وعظمة التاريخ" (2012)، يقول فيصل سعيد فارع:
"ينطق سكان تعز اسم مدينتهم بصيغة الفعل المضارع؛ بالفتحة فوق التاء وكسر العين المهملة ثم زاي مفردة مشددة، وتسمية تعز خصّت ابتداءَ النواة الأولى للمدينة، وهي القلعة التاريخية المتربعة فوق الأكمة وتعرف الآن بقلعة القاهرة" (ص 20).
يتفق الباحثون الثلاثة، والذين اعتمدوا على مصادر تاريخية متباينة، أن "تعز" كمسمى لغوي واستنبات مكاني في الموضع القائم حتى اليوم، ارتبط بالدولة الصُّليحية، وأن الذي عُرف قبل هذا الموضع هو مدينة "الجَنَد".
لكن قبل نشوء الحصن، كان يشار إلى المنطقة برمتها إلى (الجَنَد) ومخلافها، حيث أسس في مدينتها القديمة، وفي قلب قاعها الخصيب، الصحابي معاذ بن جبل، المسجد الأشهر فيها، والذي صار واحدًا من أهم المزارات للتدين الشعبي في اليمن، وخصوصًا في أول جمعة من شهر رجب كل عام، التي يقال إنها أول جمعة خطب فيها الصحابي ابن جبل بالناس، وفيها أسلم على يديه الكثير من اليهود اليمنيين، فصارت هذه الجمعة أشبه بيوم عيد "يكون للمسجد فيه النصيب الأكبر من مظاهر الاحتفال، فيتقاطر إليه الناس من مختلف الأرجاء تبركًا واتعاظًا حتى يومنا" المجاهد (ص14). ولم يُشَر إلى "تعز" كمسمى وموضع حتى عند الهمداني في "صفة جزيرة العرب"، الذي ذكر فيه الكثير من المواضع المحيطة بها، مثل (الشعبانية، والضباب، وبرداد) كما يقول في الصفحة ذاتها.
وترجع أول إشارة إلى "تعز" عند فيصل سعيد فارع، في المصادر التاريخية التي اعتمد عليها، إلى النصف الأول من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، عندما بادر السلطان عبدالله بن محمد الصليحي، شقيق الملك ومؤسس الدولة الصليحية، ببناء "قلعة القاهرة"، وابتدأ في تمدينها أيام أخيه، وكان المكرَّم ابن الملك في "الجَنَد" وعمه السلطان في "التَّعْكَر".
في موضوعها المميز "مدينة تعز قبل الجمهورية" (مجلة الفيصل، نوفمبر 2019)، تقول الباحثة في مجال الحضارة الإسلامية والفنون، نهى صادق:
"على الرغم من أن الهمداني ذكر محلات أكثر غموضًا مجاورة لتعز في كتابه "صفة جزيرة العرب"، فإن اسم تعز يغيب تمامًا عن هذا الكتاب. فقد كانت مدينة الجَنَد الصغيرة في تلك الحقبة، والواقعة على بعد 17 كيلومترًا شمال شرق تعز، عاصمة مخلاف بالاسم نفسه وأحد ثلاثة مخاليف إدارية قُسِّمَت إليها اليمن في القرن السابع الميلادي. وبنى هناك الصحابي معاذ بن جبل أول مسجد في البلاد. ويعود أول ذكر معروف لتعز في المصادر إلى الحقبة الصليحية (من 1037م - 1139م)، ويخصّ حصنًا بناه في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، أخو السلطان الصليحي فوق مرتفع أسفل جبل صبر. ومن المحتمل أن النواة الأولى للمدينة بدأت في النمو أسفل الحصن منذ تلك الحقبة".
يتفق الباحثون الثلاثة، والذين اعتمدوا على مصادر تاريخية متباينة، أن تعز، كمسمى لغوي واستنبات مكاني في الموضع القائم حتى اليوم، ارتبط بالدولة الصليحية (الإسماعيلية)، وأن الذي عرف قبل هذا الموضع هو مدينة الجَنَد، الواقعة شمال شرق المدينة، حيث أسس فيها الصحابي معاذ بن جبل مسجدها التاريخي المعروف باسمه.
أصبحت قلعة تعز، بموقعها الاستراتيجي، إحدى أهم قلاع الأيوبيين، على إثر سيطرتهم على اليمن من سنة 1173م – 1374م، وقد أحدثوا تغييرات مهمة واشتروا غيلًا يسمى «الخشبة» لتوفير مياه الشرب.
تذهب الكثير من الروايات أن توران شاه، شقيق السلطان الأيوبي صلاح الدين، اختط مدينة تعز أسفل الحصن، فبعد مكوثه بزبيد -كرسي حكم الأيوبيين الأول في اليمن- لبضعة أشهر، تنقل هو وطاقمه الطبي في أنحاء متفرقة في المناطق الجبلية القريبة بحثًا عن منطقة أكثر نقاوة (هواء وماء)، فوقع اختيارهم على المنطقة أسفل الحصن (قلعة القاهرة)، فبادر إلى اختطاطها لتبقى كرسيًّا لملكه وأهله، رغم وجود مدينة (الجند) شرقًا ومدينة (جَبَأ) غربًا، وأظن أن كليهما في موقعيهما، كانتا أصلح بكثير لأن تكونا كرسيًّا لسلطنته لولا الغلبة الصحية. و"جبأ" هي عاصمة "بلاد المَعافِر" ومعقل حكم بني الكرندي في العصر الإسلامي المبكر، وتقع في السهل الجنوبي لجبل صبر، وبالقرب من مدينة "المِسْراخ" وتعرف بالاسم ذاته حتى اليوم.
"لم تطُل إقامة توران شاه في اليمن، وغادرها بدون رجعة بعد أقل من ثلاثة أعوام من قدومه، ليتولى أخوه سيف الإسلام طغطكين، ويصرف كل همته إلى بناء المدينة الجديدة، فاستخرج الأنهار وشيَّد القصور والدور، وزينها بالبساتين المترامية الأطراف، فيها أصناف الأشجار التي قيل إنه أرسل لغروس بعضها من مصر" (المجاهد، ص 30).
ولفارع روايته التي لا تبتعد كثيرًا عن رواية المجاهد المتصلة بتوران شاه وأخيه طغطكين، وربط حضورهما في سياق التاريخ السياسي والعسكري لليمن في تلك المرحلة، بالمصادر الأولى لنشوء المدينة، ويقول في هذا المنحى:
"هناك إشارة أخرى لمدينة تعز في المصادر ظهرت في أواخر القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، مقترنًا بوصول طوران شاه الأيوبي إلى اليمن، والذي سيطر على تعز بعد سيطرته على زبيد، وهو في طريقه للسيطرة على عدن، حيث رتب فيها أميرًا، وقام أخوه طغتكين بإعادة بناء حصنها واتخذها قاعدة لبلاد المعافر، وقبل ذلك كان اتخذ من الجنَد مقرًّا له، كما اتخذ حصن التعكر وحصن تعز سكنًا للحرائر، وأنشأ مدينة شرق مدينة القاعدة أطلق عليها اسم المنصورة" (فارع، ص 22).
وعن ارتباط تعز بالحقبة الأيوبية، تسرد نهى صادق ما يلي:
"وأصبحت قلعة تعز، بموقعها الاستراتيجي، إحدى أهم قلاع الأيوبيين، على إثر سيطرتهم على اليمن من سنة 1173م إلى سنة 1374م. وقد أحدثوا تغييرات مهمة واشتروا غيلًا يسمى «الخشبة»؛ لتوفير مياه الشرب. واحتضنت القلعة الإدارة العسكرية والسياسية وخزانة السلطة الجديدة، وهو ما أعطى لها وصف «سرير المُلك وحصن الملوك»، و«تل الذهب» كذلك؛ لأن ضرائب عدن كانت تنقل إليها أربع مرات في السنة. يؤكد مكانتها القول المشهور: "تعز كرسيّ اليمن، وخراجها من عدن" (مجلة الفيصل، نوفمبر 2019).
أما وصف حصن المدينة بـ"سرير الملك وحصن الملوك"، فقد صاغه أول مرة جمال الدين يوسف ابن المجاور، في كتابه "صفة بلاد اليمن"، حينما قال:
"إنه ليس في جميع اليمن أسعد حظًّا منه لأنه سرير المُلك وحصن الملوك"، ويقول المجاهد: "ولأن الحصن كان مقرًّا للملوك، فقد بنيت فيه عدة قصور لسكناهم وعائلاتهم، عرفت هذه القصور بأسماء مميزة؛ فهذه "دار الإمارة" وتلك "دار الأدب"، وهكذا تمشيًا مع النهضة العمرانية التي شهدتها المدينة خلال الحقبة الرسولية، وكانت قصور الحصن -أحيانًا- سجونًا للمخالفين للحكم" (ص16-17).
يتبع..