حين يرحل العلماء الكبار في مختلف علوم المعرفة تظل إنجازاتهم العلمية، ومؤلفاتهم القيمة لساناً خالداً يلهج بذكراهم على مدى الأجيال. ويعد الراحل البرفسور يوسف محمد عبد الله العلامة اليمني البارز، أستاذ الآثار بجامعة صنعاء، وقارئ زُبُر حمير، ومساندها الدهرية، المتخصص في تاريخ اليمن القديم، واحدًا من هؤلاء العلماء.
قبل ستين يوما ودعنا هذا العالم إلى حياة أخرى وترك لليمن وللتاريخ والحضارة اليمنية بصمات علمية كبيرة، إذ ارتبط اسم يوسف محمد عبد الله بأنه "مكتشف اليمن مهد الحضارة"، بل وأول من اكتشف نقش القصيدة الحِميَريّة أو كما تعرف بـ"ترنيمة الشمس"، إحدى الشواهد القليلة الباقية من أدب اليمن القديم. لقد اكتشفه ودرسه الدكتور يوسف محمد عبد الله في رحلة أثرية عام 1977 في وادي "قانية" بناحية السوادية بالبيضاء وسط اليمن.
رغم التشوّه الذي أصاب الجانب الأيمن من النقش، غير أن الدكتور لاحظ على الفور القافية الموحدة التي ينتهي بها النقش بوضوح على الجانب الأيسر منه، فعكف على دراسته مدة عشرة سنوات، يتعهده بالرعاية من حين إلى آخر. كما أنتج يوسف محمد عبد الله عشرات المؤلفات والأبحاث، وعمل على تعريف العالم بهوية وحضارة اليمن في المحافل الدولية.
أول من فك رموز خط الزبور
في هذا الاستطلاع تحدث رفاق درب يوسف محمد عبد الله في الحقل الأكاديمي وفي هيئة الآثار عن أحد أهم الشخصيات التي خسرتها البلاد مؤخراً نظراً لدوره الكبير في إعادة اكتشاف جزء كبير من حضارة اليمن وأحد المؤثرين في تاريخها الحديث، بالإضافة إلى كونه عالمًا ضليعًا بالفكر والتراث صنع المجد بشجاعة قلبه وصدق عطائه ونذر نفسه لخدمة اليمن وطلبة العلم.
تحدث مسؤولون ومختصون وعلماء آثار وأكاديميون في جامعة صنعاء عن مناقب العالم يوسف محمد عبد الله الذي فك رموز ألغاز الآثار اليمنية، ونفض الغبار عن تاريخ اليمن القديم، مع زملائه وأبرزهم المرحوم البرفسور عبده عثمان، والمرحوم مطهر الإرياني، وترك ثروة ومراجع لغوية في التاريخ حاضرة على مر الزمان
يقول الدكتور عبد الحكيم شايف، رئيس قسم الآثار بكلية الآداب بجامعة صنعاء لـ"خيوط": إن شهر أبريل/ نيسان من العام الجاري 2021 كان قاسيًا على رحيل عدد من رواد الآثار اليمنية، أبرزهم الدكتور يوسف محمد عبد الله والدكتور عبده عثمان، حيث خلّف رحيلهما فراغًا في الحياة الأكاديمية والعلمية.
ويضيف شايف أن يوسف محمد عبد الله كان أول يمني يعين أستاذًا مساعدًا في قسم الآثار، وتولى عملية إنشاء قسم الآثار مع المرحوم الدكتور المصري عبد الحليم نور الدين. وأسهم الراحل بتطوير جامعة صنعاء، حيث تخرجت على يديه الأفواج الأولى في تخصصات النقوش والآثار، وقام بتمثيل اليمن في المحافل الأثرية العالمية.
ويشير إلى أن البرفسور يوسف محمد عبد الله يعد أحد الرموز العلمية المشرقة الذين تركوا بصمات جليلة في تاريخ اليمن. كما أنه شكل مع الدكتور العمري ثنائيًا مهمًّا في العمل التاريخي، من نقوش الزبور إلى ترنيمة الشمس، إلى اكتشاف الخط الرسمي للدولة اليمنية القديمة.
بدوره يوضح الدكتور علي العبيدي، أستاذ الآثار بجامعة صنعاء، لـ"خيوط"، أن البرفسور يوسف محمد عبد الله عالمًا في مختلف العلوم كالفقه والحديث، وليس في تخصصه فقط.
ويرى أن البرفسور يوسف كان بحرًا من العلوم ورائدًا من رواد اللغة العربية، فهو أول من فك رموز خط الزبور، وكان فيلسوفًا وأستاذًا للغة العربية أيضًا. في حين يقول حسين أبو الغيث أن البرفسور يوسف محمد عبد الله عَلَم من أعلام اليمن، وله إسهام كبير في الحفاظ على هوية اليمن التاريخية.
كما وصف الدكتور الأكاديمي في جامعة صنعاء محمد ناصر حميد، المرحوم البرفسور يوسف محمد عبد الله بأنه أستاذ الأجيال، ومؤلفاته ستبقى حية متجددة لا تنضب.
ثروة حاضرة على مر الزمان
تقول الدكتورة عميدة شعلان، أستاذة الآثار بجامعة صنعاء، لـ"خيوط"، إن اليمن فقدت عمودين أساسييّن في مجال الآثار والتاريخ والنقوش: الأستاذ الدكتور يوسف محمد عبد الله، والأستاذ الدكتور عبده عثمان.
كما أن تأبين البرفسور يوسف محمد عبد الله بعد ستين يومًا من رحيله، والذي نظمته جامعة صنعاء أمس الخميس 10 يونيو/ حزيران، يعتبر عرفانًا ووفاءً لهذا العالم وإسهاماته العلمية الكبيرة في التاريخ والنقوش، إذ إن جهوده أثمرت تأسيس مدرسة يمنية واسعة في مجال الدراسات القديمة التي تخرج منها المئات.
وتحدث مسؤولون ومختصون وعلماء آثار وأكاديميون في جامعة صنعاء عن مناقب العالم يوسف محمد عبد الله الذي فك رموز ألغاز الآثار اليمنية، ونفض الغبار عن تاريخ اليمن القديم، مع زملائه وأبرزهم المرحوم البرفسور عبده عثمان، والمرحوم مطهر الإرياني، وترك ثروة ومراجع لغوية في التاريخ حاضرة على مر الزمان.
كما قررت وزارة الثقافة اليمنية في حكومة صنعاء تقديم الدعم الكامل لطباعة أبحاث وتحقيقات وكتب البرفسور الراحل يوسف محمد عبد الله. وهذه خطوة متميزة لهذا الرجل الذي خدم اليمن وخدم الآثار والتاريخ.
وفي كلمة أسرته، ثمّن فيها قيس يوسف محمد عبد الله كل من قدم التعازي والرثاء والكتابة عن والده، وأثنى على جهود جامعة صنعاء ولجنة التأبين برئاسة الدكتورة عميدة شعلان أستاذة الآثار بجامعة صنعاء. فيما أكدت ابنته فاطمة يوسف محمد عبد الله أنه سيتم إطلاق موقع الكتروني باسم الفقيد ونشر وتوثيق كل أبحاثه وكتبه.
للدكتور يوسف محمد عبدالله سيرة حافلة، كتب عنه الدكتور علي محمد زيد، فقال: "رحم الله الدكتور يوسف محمد عبدالله. من القلائل جدًّا الذين يحملون تسمية دكتور بجدارة. حين وصلت للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت كان قد أصبح في ألمانيا، لكنني سمعت أساتذته يشيدون به وبذكائه. وكنت بعده ثاني طالب يمني يحصل من الجامعة على منحة لدراسة الماجستير. وحاولت أن أقتفي أثره، فسجلت في معهد جوته في بيروت، للبَدء بدراسة اللغة الألمانية، ونجحت عن طريق المعهد بالحصول على منحة لتحضير الدكتوراه في جامعة فرايبوج في ألمانيا. لكن قراءاتي في الأدب والثقافة الفرنسيين باللغة العربية واللغة الإنجليزية وشغفي باللغة الفرنسية قبل أن أتعلمها، دفعاني لتفضيل الدراسة في السوربون.