صدرت الرواية في طبعتها الأولى عام 2008، عن دار الآداب، وتبدأ بنبوءة قيام دولة الإدريسي في صبيا بقول مشاري: "إن حاكمًا يخرج من إحدى المدن (ص): صبيا، صعدة، صنعاء".
يقوم حمود الخير الفتى بختان نفسه حسب تقاليد سائدة في المخلاف وعبس؛ وهي أن يختن الشاب نفسه في احتفال شعبي تحضره القرية، ويتم قطع القلفة أمام الحضور، وهي عادة يهودية موروثة من الفرعونية، وقد أشار إليها ابن المجاور في تاريخه «المستبصر»، وكان قد شهدها مطلع القرن السابع الهجري ودونها، وظلت قائمة في المخلاف وعبس إلى ما قبل الثورة اليمنية، وحوربت في المخلاف السليماني بعد استيلاء السعوديين عليه.
في اجتماع يعلن عيسى الخير الاستعداد للحرب دفاعًا عن المنطقة؛ فيرسل النساء والعجزة والأطفال والمواشي إلى أطراف الجبال لحمايتهم من الحرب.
الصادقية (أم عيسى الخير) صرخت بابنها وقومها رافضةً مغادرة منطقتهم، وعدم القتال، ولأول مرة يُعصى أمرها.
ترحل قرية «عصيرة» بقضها وقضيضها؛ بناسها ودوابها إلى «حباطة» - منابت المناطق الجبلية، خوفًا من اجتياح قوم «الذلول» (نجد) - "امسعاودة"؛ عائبًا على الإدريسي تسليم المنطقة.
تزخر الرواية بالحكم والأمثال الشعبية: "ولدك إذا وَجَّه مشايم خَلّهْ، وإذا وجَّهْ ميمن امسكه". ففي الشام سيعيده الجوع، أما اليمن فخيرها كثير كقراءته.
كما تطرز الرواية بالأشعار الشعبية، لتكون جزءًا من نسيج السرد الرائع:
"براق من تو الحسيني يضي ما
ومن جبال امعارضة مرتكبها".
ويسمي النزوح إلى القائم في «وحاطة» بالهربة.
يسرد معاناة أهل «عصيرة» في "امهربة"، ومشاكل الحصاد والنصيد (جذ القصب)؛ وهو الصرب في تهامة، والحصد، وكلها مصطلحات مستعملة في المخلاف وتهامة، ودرس حبوب الحنطة (الخبيط في تهامة).
تكتسب المنطقة خبرة بمواسم الزراعة والفلك الزراعي شأن الفلاحين اليمنيين. شيخ الشمل عيسى الخير، وأمه الصادقية الشخصية الرئيسية التي تدور من خلالها كل الأشخاص والأحداث، وتماسك المجتمع، وحتى الظواهر الكونية: القحط، والخصب.
مدة عام وقفوا في منابت الجبال (الحِز). تتعمق الرواية في استقراء المجتمع الفطري في المخلاف: القيم، والتقاليد، والعادات، والمثل الفطرية في الجنس الطبيعي، بدون فرض أو كبت، الرقصات المختلطة، توصيف هذه الرقصات، علاقة المرأة بالرجل، العمل معًا، والتخالط بدون قيود أو منع.
يتفنن السارد في كشف التركيبة المجتمعية للمخلاف: عادات الختان، الزواج، التعاشق، الزراعة، التكافل المجتمعي، روح المقاومة للغزاة، التسامح حد الإدهاش.
قصة ختن حمود الفتي لنفسه، وقطع جزء من حشفته، والخشية من معرفة الإمارة، بداية العلاقة المتوترة مع الإمارة السعودية. فتجريم الختان المتوارث فرضته الإمارة السعودية.
مجيء محمد المقري، أو محمد المصلح، أو المقروع رسول الإمارة يأتي ليؤكد - كما قال بشيبش - إن "الإمارة ماضية في مسعى آخر طويل الأمد".
رؤى جديدة لنمط الحياة تتوافق ونمط هؤلاء القادمين. يهبون المال لمن يصلي صلاتهم، ويصلي لربهم كرؤية الأم صادقية.
يعتبر محمد المصلح عودة أهل «عصيرة» عودة إلى الإيمان - إيمان نجد، كما كان يقال حينها.
تمزج الرواية العامية بالفصحى، ويمتلك السارد مقدرة فائقة على تحويل الواقع إلى خيال خصب، وتحويل الخيال إلى حقائق تسعى.
تعيش «عصيرة» حالة مد وجزر في علاقتها بالولاية، وقبلها كانت تعيش و«وادي الحسيني» عصرها الذهبي؛ حياة طبيعية، أراضٍ زراعية خصبة، رجالها ونساؤها وأطفالها منغمسون في الرعي والزرع، وتعاضد قل نظيره. يبدأ المقري بفرض الحجاب، وتحريم الاختلاط، ومنع النساء من مشاركة الرجال في العمل، وهن اللائي كُنَّ الأساس فيه. يبدأ الرجال بمغادرة «عصيرة»، كما فعل بشيبش، أو الاستئذان من الشيخ للموت، كما فعل الهباش وآخرون.
يتلازم الهرب بالقحط؛ بالموت؛ ومجيء المقري، وانتشار جريمة إحراق العشش، والفساد الأخلاقي؛ وزواج المقري سرًّا من ابنة بو هاجر معشوقة سبيع ابن الشيخ الذي قتله أولاد بو هاجر السبعة، وعفى عنهم الشيخ. بو هاجر أول من التحق بالمقري مع ابنته هاجر.
الرواية زاخرة بالقراءة الإبداعية العميقة لتفاصيل حياة «عصيرة»، «ووادي الحسيني»، والمخلاف، والرقصات الشعبية، والغناء لشعبي، والحياة الجنسية التي يجري الحديث عنها بين الرجال والنساء، وكأنها تحايا الصباح والمساء
الختان نبع أساس في السرد، وأساس في اللين مع الإمارة وترتبط به الرجولة، والتعلي، واكتساب المكانة والحقوق، والاعتراف بالمختون مرهون بالختان وبطقوسه، وبإبراز الشجاعة والمفاخرة، وحمل البندق والسيف.
بعد العودة من "الهربة" التي استمرت عامًا؛ و"الهربة" عنوان فرعي للرواية، والسرد كله أو جله بعد "الهربة"، الصبي حمود يرمي ببندقية بشيبش متحديًا، يقرر بشبيش هجر «عصيرة» بعد تحدي الصبي حمود له، ورمي بندقيته، يزجره بشبيش ويعيره بأنه لم يعتلي بعدُ بالختان.
يتولى بشبيش نقل المؤن من المخزن السري الذي خزنوا فيه المحصول زمن "الهربة"، ولا يعرفه أحد غيره. يتندر الرجال بذكر ابن شامي الذي لا ينبت الشعر في عانته؛ لسوء ختانه؛ فيسلخ جلد عانته، ويمشي عاريًا.
يظل الخوف من الإمارة هاجسًا يدفع الشيخ عيسى الخير إلى الاتصال بالأمير، وعزومته على ختان ابنه؛ ليسبق الواشين. يردد الواشون: "إبريري سبقنا". وهي سبّة سائدة في العامية اليمنية؛ ففي تعز ومناطق الحجرية: "ابن أيري" بالفصحى، وأحيانًا: "وابن ايري".
كان عيسى الخير يكرر لرجاله عدم رضاه عن حالهم، ولم يفلح في تأجيج نارهم القديمة؛ ليبقيهم على الدوام في حالة الرفض، ولكيلا يركنوا لصمت بيوتهم ومزارعهم، أو يخنعوا لزمن ليس لهم، ولم يسبق لأحد أن رضي بهذا حتى في عهد الأدارسة الذي ولّى إلى الأبد.
ورث حمود (أبو حشفة) من جده الشريف مشاري قوته الجنسية؛ فهو كالتيس ينزو على الوافدات والعاملات؛ فجرى تحذير الوافدات منه. يجري الحديث عن الممارسة الجنسية، وأحجام "الأيور"؛ يتحدثون عنها بشكل فطري وطبيعي؛ فالحرث في المرأة كحرث الأرض، عمل إيجابي لا يستوجب الخجل أو الإخفاء.
يمتلك الشيخ جواري وعبيد: زهرة، وبخيت بخيه، وظلت العبودية منتشرة في تهامة حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، ولكنها عبودية مختلفة تمامًا عن العبودية في أوروبا، وحسب ترتيب المراحل الخمس في التحليل الماركسي؛ فطابعها المعنوي أكبر من طابعها المادي.
ومع ذلك، فالقهر والاضطهاد قائم، وقصة كي دُبُر بخيت بخيه من قبل الصادقية معبرة وقاسية.
توصِّف الرواية توصيفًا دقيقًا بناء العشش، ومواد البناء من الأثل والمرخ ونباتات العلاقي، حيث تلبد النساء جوف العشة بخليط من الروث والطين؛ وهي العادة المتبعة في كل مناطق تهامة الريفية.
يستغرب الأهالي أشد الاستغراب عن هيئة المطاوعة الأغراب، وملابسهم وأحذيتهم التي لم تشاهد إلا في صنعاء، ويستنكرون تعيين إمام منهم للصلاة.
الرواية زاخرة بالقراءة الإبداعية العميقة لتفاصيل حياة «عصيرة»، «ووادي الحسيني»، والمخلاف، والرقصات الشعبية، والغناء لشعبي، والحياة الجنسية التي يجري الحديث عنها بين الرجال والنساء، وكأنها تحايا الصباح والمساء، وعن حجم الذكر، وما يرضي المرأة، وترد المرأة لتحدد المفيد منه؛ فلا الصغير مفيد، ولا الكبير هو المطلوب، وفي قراءة الآتي يقول بشيبش: "أعرف أن الزمن تبدل، ورجال القرآن تبدلوا".
يقرأ عميقًا تفاصيل الأرض، القرى، والوديان، ومنابت الجبال، والمحاصيل الزراعية، والمواسم، وخبرة الحرث: حرث الأرض والنساء.
عرفتُ هذه القرى وقرأتُ عنها الكثير، وزرتها عدة مرات، ولكن لم أعرفها ولم أعرف تفاصيل حياتها وناسها وقيمهم وعاداتهم كما عرفتها من خلال هذه الرواية.