اتخذت الأناشيد الثورية المصاحبة لاستقلال جنوب اليمن سمة احتفالية، دون أن تتخلى عن خطابها النضالي الملتصق بالثورة. وفي الذاكرة عشرات الأغاني التي تزامنت مع حدوث الاستقلال، أو التي تغنت بذكرى 30 نوفمبر. ولعل أغنية عطروش "برع يا استعمار" أحد أكثر تلك الأغاني التصاقًا بعيد الاستقلال.
كلمات الأغنية ولحنها البسيط، جعلاها سهلة التداول بين الناس، لكن المميز فيها هو طابعها الاحتفالي المُبهج. توظيف الكلام اليومي والعادي، مثل "برّع" تتخذ لهجة آمرة تفيد الطرد، مما أسماه "أرض الأحرار". ثم صيغة التهديد التوكيدية الخروج أو الاكتواء بالتيار الثوري والقومي.
اتبعت الأغنية صيغة خطابية مباشرة، بحيث لا يوجد أي اتساع في المعاني مثل معظم الأغاني الثورية العربية، فهي لا تحتمل أي شرح لشدة وضوحها. لحّن عطروش الأغنية على مقام الراست، وهو مثل طابع ألحانه لا يتغير فيه لحن المذهب عن الكوبليهات. لكنه يتسم بروح تعبيرية، وتحديدًا في التحول اللحني من الخطابية المُلقاة أو الآمرة، إلى صيغة أكثر لحنية في "برع والا الليل يكويه التيار"، هنا الجملة فيها بعض الزينة مقارنة بالإلقاء الخطابي، فهي تنتقل إلى تصعيد في الخطاب العام، ثم التوكيد على "تيار الثورية، وتيار القومية".
اللحن بطابعه شديد البساطة، يمكن أن يغنيها الكبير والصغير دون أية صعوبة. على أن للأغنية أهمية في التعبير عن روح ذلك العصر بخطابه الثوري والتحرري، وبصورة ما، ارتباطها بالروح القومية. فأغنية عطروش وإن كانت تعبيرًا عن استقلال الجنوب اليمني، إلا أنها تشمل الاستعمار في المنطقة بصورة عامة.
شكل الاستعمار الإنجليزي تواجدًا واسعًا في المنطقة، وفي خروجه من عدن كان يخسر آخر مستعمراته. صحيح أنه ظل متواجدًا في بعض مشيخات الخليج العربي، لكن عدن كانت إيذانًا بخروجه من هناك أيضًا. فالأغنية تجسيدٌ للمد القومي، وهناك إشارة لمصر الحرة وناصر الحرية، وكان وقتها الرئيس المصري جمال عبدالناصر رمزًا لثورات التحرر في المنطقة.
كانت "برع يا استعمار" صورة اختزالية لذلك، فلهجتها الاحتفالية تعني خروجًا نهائيًّا، ليس عن عدن، وإنما عن العالم العربي، وأيضًا عن العالم الثالث. وهنا استعادة فلاشباكية، لا يمكن استحضارها في خطاب الأغنية، لكن دلالاتها واضحة عبر الصيغة الآمرة للمستعمر بالخروج. أي فلاش باك لخطاب عبدالناصر، وهو يقول إن على بريطانيا أن ترفع عصاها عن عدن وترحل.
وهذا أيضًا سببٌ دفع عطروش لاستعارة عناصر لحنية عربية، لكنه حافظ على الأسلوب المتبع في الغناء اليمني، وتحديدًا في التعديلات على بعض الدرجات النغمية. يعالج اللحن من زاوية عربية ومحلية؛ لذا يمكن اختبار جمله اللحنية وفق محاكاة النمط الشائع للأغنية الثورية العربية لكن دون حذلقات، إنما بصيغ مباشرة.
أغنية "برّع يا استعمار" سيرة مختصرة لروح الثورة التي تكللت بالاستقلال، صورة نهائية لصراع عالمين. وكانت عدن بالنسبة للإنجليز محاولة للحفاظ على موطئ قدم في المنطقة
ولا شك، أن ما وظفته الأغنية في دلالات تُعلن انتصار الحرية على الاستعمار في المنطقة وليس في عدن فقط، تعني كذلك انتصارًا للزمان والمكان. فأرض الأحرار هي اليمن وكل بلاد العرب، وعلى ما في ذلك من مبالغة استعارية، فإن نجاح الأغنية يعود لتعبيرها الصادق عن روح العصر، فلم تتزين بأكثر من روح مبهجة للحن ثوري.
على صعيد مختلف، يعود اللحن بمضمونه العام لتجسيد محاولة تواصل الموسيقى اليمنية مع العربية، عبر بوابة الغناء في عدن. لكن عطروش مثّل تلك الحالة بروح شعبية أكثر، أي عبر نسيج الألحان غير المتحذلقة والمتسمة بالبساطة، فكان اندماجًا بين العنصر المحلي والعربي ذا طابع شعبي. وفي عدد من ألحانه الوطنية نجد هذا الطابع يغلب عليها، لكنه ظل محببًا وقريبًا من الجمهور اليمني. ورغم جمله البسيطة وغير المُبهرة، يتخذ إيماءات تعبيرية تفي بغرضها.
يمتاز اللحن في مطلعه بطابع إنشادي متهكم "برع يا استعمار" لها دلالة مخزية، وكما لو كانت استعادة للذات الوطنية وما يتبعها من روح قومية. وهو ما يشير له مضمون اللحن في الانتقال من تلك الصيغة، ليتخذ عنصرًا لحنيًّا عربيًّا شديد الوضوح؛ وهنا يتم تصعيد التهكم في لحن يلتقي مع ألحان شعبية عربية. لكنه أيضًا يتخلى عن روحه التهكمية، متغنيًّا بتيار الثورية وتيار القومية. ومع أن الجمل اللحنية لا تشهد تحولات عميقة، إلا أن هناك محاولة للتغني والتطريب، وهي صورة فيها من التوكيد والتعزيز لما يعنيه هذا التيار من ترابط توثقه الثورة والقومية.
إذن كانت الأغنية، سيرة مختصرة لروح الثورة التي تكللت بالاستقلال، صورة نهائية لصراع عالمين. وكانت عدن بالنسبة للإنجليز محاولة للحفاظ على موطئ قدم في المنطقة، إطالة عمر الأمل بالبقاء في اغتصاب عالم أو محاولة استعادته. كانت عدن فرصة للتموضع من أجل إعادة المستعمرات الضائعة. وفي جلاء بريطانيا من عدن كان المشهد الأخير من أفول إمبراطورية. وبصورة ما عبرت عنها أغنية عطروش في لهجة آمرة؛ كعلامة لطرد المستعمر خازيًا ومهزومًا، وإعادة اعتبار لعالم تم انتهاكه واغتصابه.
وكانت الأغنية تخليدًا للحظة غير منسية؛ خروج آخر جندي بريطاني من عدن، بما يعني دحر بريطانيا عن قناة السويس وعن الخليج العربي وعن أماكن كثيرة. "برع يا استعمار" كانت تعني صرخة أخيرة لتحرر العالم، إعلان لنهاية حقبة استعمارية في المنطقة. ذلك أكثر ما ميز أغنية عطروش، تفاعلها الأكثر تبسيطًا لعصر مجيد يتوق للحرية.