من يطالع كتب اللغات السامية وكتب فقه اللغة، بل وكتب التاريخ التي تشير إلى السُّقطرية، يلاحظ تباين الآراء حول السُّقطرية؛ ألغة هي أم لهجة؟ وإذا كانت لهجة، فما هي لغتها الأم؟ ونوجز تلك الآراء في الآتي:
- هناك من يرى أنّ السقطرية لهجة من العربية الجنوبية القديمة، ونجد أغلب الباحثين يضع السُّقطرية إلى جوار اللهجات العربية الحديثة، التي هي لهجات من العربية الجنوبية القديمة، أو اليمنية القديمة، كما يسميها بعضهم، مثل بروكلمان ومحمود حجازي وغيرهما.
- هناك من يجعل السُّقطرية لهجةً من لغات أخرى غير العربية الجنوبية، بل يرى بعضهم أنَّها خليط من عدة لغات، مثل حسن ظاظا وغيره. فهي تعتبر برأيهم مزيجًا من العربية والسبئية القديمة والسريانية والشحرية والمهرية.
- هناك من يذهب إلى أنَّ السُّقطرية والمهرية والشحرية، هي لغة واحدة، ولا تنتمي إلى العربية الجنوبية القديمة، ولا إلى أيِّ لغة أخرى من اللغات السامية، ويطلقون عليها (اللغة العربية الجنوبية الحديثة)، مقابل (اللغة العربية الجنوبية القديمة).
- وفي المقابل، هناك من يعتقد استقلالية السُّقطرية، فهي لغة قائمة بنفسها، ولا يمكن جعلها لهجة من لغة أخرى، في الوقت الحاضر على الأقل، كما أنَّ أختيها (المهرية، والشحرية) لغتان مختلفتان أيضًا.
ممَّا سبق نلاحظ تباين الآراء بشأن السُّقطرية، فهناك من يجعلها لهجة من العربية الجنوبية القديمة، وهناك من يجعلها خليطًا من لغات عدة، وهناك من يجعلها لهجة من المهرية أو الشحرية، وهناك من يجعلها هي والمهرية والشحرية لغة واحدة، وهناك من يرى أنَّها لغة قائمة بذاتها.
ومن أجل تحديد الرأي بشأن السُّقطرية، والإجابة عن السؤال السابق -السُّقطرية؛ ألُغةٌ هي أم لهجة؟- فمن الأهمية بمكان معرفة ما هي اللهجة، وما الفرق بينها وبين اللغة، ومتى تكون اللهجة لغة قائمة برأسها؛ فقد تنفصل اللهجات لتكون لغات مستقلة.
وقد عرَّف إبراهيم أنيس، اللهجة حيث قال في (اللهجات العربية): "مجموعة من الصفات اللغوية، تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة. وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل تضُمّ عدة لهجات، لكلٍّ منها خصائصها، ولكنها تشترك جميعًا في مجموعة من الظواهر اللغوية التي تُيسِّرُ اتصال أفراد هذه البيئات بعضهم ببعض، وفَهْم ما قد يدور بينهم من حديث فهْمًا يتوقف على قدر الرابطة التي تربط بين هذه اللهجات، وتلك البيئة الشاملة التي تتألف من عدة لهجات، هي التي اصطُلح على تسميتها باللغة. فالعلاقة بين اللغة واللهجة هي العلاقة بين العام والخاص، فاللغة تشتمل عادة على عدة لهجات، لكلٍّ منها ما يميزها، وجميع هذه اللهجات تشترك في مجموعة من الصفات اللغوية، والعادات الكلامية، التي تؤلف لغة مستقلة عن غيرها من اللغات".
وبالنظر فيما سبق من آراء حول السُّقطرية، وبتطبيق تعريف إبراهيم أنيس على السُّقطرية، يمكن وضع الملاحظات الآتية:
- كل الآراء التي سبقت الإشارة إليها –وغيرها- ما هي إلَّا ملاحظات عابرة، وخواطر تتوارد على الذهن، وليست هناك دراسات عميقة في السُّقطرية، وخاصة من الباحثين العرب. ولهذا فمن الصعوبة بمكان إصدار الحكم على السُّقطرية؛ ألغة هي أم لهجة، والحال هذا.
صحيح أنَّ السُّقطرية محكية لا تكتب، ولا رموز لها، مثلها في ذلك المهرية والشحرية، ولكن ليس هذا داعيًا للاستنقاص منها، وإنزالها من منزلة اللغة إلى منزلة اللهجة، فالكتابة فن مصطنع، مثل الآلة.
- ممَّا ذكره إبراهيم أنيس في تعريف اللهجة، قوله: "ولكنها تشترك جميعًا –أي اللهجات- في مجموعة من الظواهر اللغوية التي تُيسِّرُ اتصال أفراد هذه البيئات بعضهم ببعض، وفَهْم ما قد يدور بينهم من حديث". ومنه نفهم أنَّه لو جعلنا السُّقطرية لهجة من أيِّ لغة أخرى، لكان صاحب تلك اللغة فاهمًا للسقطري عندما يتحدث السُّقطرية. وهذا أمر محال أنْ يحصل، فأقرب اللغات إلى السُّقطرية حاليًّا، هما (المهرية - الشحرية)، ولا يستطيع السقطري أنْ يفهم ما يقوله المهري أو الشحري إلَّا بمترجم، فكيف بغيرها؟
- وقال إبراهيم أنيس في النص السابق: "فالعلاقة بين اللغة واللهجة هي العلاقة بين العام والخاص". فلو جعلنا السُّقطرية لهجة من العربية الجنوبية القديمة مثلًا، لكانت العربية الجنوبية القديمة هي العام، والسُّقطرية هي الخاص. وكيف نجعل العربية الجنوبية القديمة هي العام وهي قد فُقد الحديث بها، وصارتْ في عداد اللغات الميتة، وذهب كثيرها. بل ربما كان العكس، فالسُّقطرية ما زال الحديث بها موجودًا على أكمل وجه وأتمّه، وما زالت على لسان الآلاف من البشر.
- وممَّا أورده إبراهيم أنيس في النص السابق قوله: "فاللغة تشتمل عادة على عدة لهجات، لكلٍّ منها ما يميزها، وجميع هذه اللهجات تشترك في مجموعة من الصفات اللغوية، والعادات الكلامية، التي تؤلِّف لغة مستقلة عن غيرها من اللغات". مضمون كلامه أنَّ من خصائص اللغة أنْ تشتمل على العديد من اللهجات، التي بينها روابط، كما أنَّ لها اختلافات. وبالنظر إلى السُّقطرية نجد أنَّها تشتمل على العديد من اللهجات المختلفة والمتباينة صوتيًّا وصرفيًّا ونحويًّا ودلاليًّا، ومنها لهجات: (المناطق الشرقية - المناطق الوسطى (دِكْسَم) – المناطق الغربية - منطقة حَجْهَر - مدينة حَدِيْبُو - جزيرة عبدالكوري - جزيرة سَمْحَة - بلدة قَلَنْسِيَة - ...). كل لهجة يوجد فيها بعض الفوارق اللهجية، التي يتبيَّن منها أنَّها لهجة مختلفة عن الأخرى.
- ممَّا يتوارد في أذهان بعض الباحثين أنَّ السُّقطرية لغة بدائية، لا ثقافة لها ولا أدب، وذلك لا يؤهلها لأن تكون لغة، قال حسن ظاظا في (الساميّون ولغاتهم): "وقد اشتهرت في هذا الإقليم لهجتان؛ إحداهما اللهجة التي يسمُّونها (مَحْري)، والثانية (شحوري)، تضاف إليهما لهجة مستعملة في جزيرة (سُقطرى)، وهي لهجات غير مكتوبة، كما أنَّه ليس لها ثقافة، ما عدا بعض الأمثال والمأثورات القليلة الشعبية". لعله لا يدري –وهو معذور في ذلك- أنَّ للسقطرية ثقافة، وعادات وتقاليد، وقوانين يلجأ إليها الجميع، في كافة مناحي الحياة، ولها أدب وحكم وأمثال، وقصص وأساطير، وأساليب رفيعة، وثقافة عالية. ولا يعلم أنَّ لأدبها مثلًا أقسامًا عدة، فالشعر يحتوي على أنواع كثيرة، منها: (تَنْتِرُه – قَصِيدَهْ – تَمُوتِل – دْصَعَلْهَيُه – قَنَانَه – قُوْلْهُل – تَنْتَانَهْ - ...).
- وممَّا أورده حسن ظاظا في النص أعلاه، أنَّ السُّقطرية لا تُكتب، ولهذا فهي لهجة. صحيح أنَّ السُّقطرية محكية لا تكتب، ولا رموز لها، مثلها في ذلك المهرية والشحرية، ولكن ليس هذا داعيًا للاستنقاص منها، وإنزالها من منزلة اللغة إلى منزلة اللهجة، فالكتابة فنّ مصطنع، مثل الآلة، قال عامر فايل في (اللغة المهرية المعاصرة): "وقد يحتج محتج بأنَّ شرط اللغة أن تتوافر لها رموز أو أحرف... فأقول: هذا كلام غير دقيق من الناحية العلمية؛ إذ الشرط في اللغة أن تكون منطوقة لا مكتوبة، وإنَّما تأتي الكتابة إذا وصل أصحاب اللغة إلى مرحلة من الحضارة، يكتشفون بها الرموز والحروف".
ولعلَّ بعد كل ما ورد، يمكن القول إنَّ السُّقطرية إحدى اللغات السامية القائمة برأسها، وليست لهجة من أيِّ لغة أخرى من تلك اللغات، فلها ما للغات الأخرى من مقومات، وهذا يُعزِّز ما ذهبتُ إليه.