المضمون الاجتماعي لبناء الدولة

الانتقال إلى طور الأمة مرهون بانتصار القيم المدنية
د. إحسان شاهر
June 30, 2024

المضمون الاجتماعي لبناء الدولة

الانتقال إلى طور الأمة مرهون بانتصار القيم المدنية
د. إحسان شاهر
June 30, 2024

المجتمع المدني هو المجتمع المتمتع، نسبيًّا، باكتفاء ذاتيّ في الاقتصاد، القائم على الأساليب الحديثة في العِلم والتكنيك، وتلعب فيه المدن دورًا رياديًّا وأساسيًّا في التطور الحضاري.

________________________________________________ 

الحقيقة التي لا مراء فيها، أنّ كل ثورات الربيع العربي كانت بالأحرى ثورات سياسية، وليست ثورات اجتماعية، وهذا هو الذي يفسّر التنوع الكبير للطبقات والفئات الاجتماعية المشارِكة فيها، واقتصار مطالبها على المطالب السياسية الليبرالية العامة.

ولذا لم يكن غريبًا، آنذاك، أن تنحصر نقاشات وخطابات الأحزاب والشخصيات السياسية في اليمن، حول بناء الدولة المدنية في إطار الأيديولوجية السياسية - القانونية، حيث تمحورت، على وجه التحديد، حول شكل النظام السياسي، وشكل الدولة، ونوع النظام الانتخابي.

وقد تكوّنت إبان ثورة 11 فبراير 2011 في اليمن، قناعةٌ مفادها أنّ الدولة المدنية هي المخرج من أزمة البلاد الشاملة، وأنّ هذه الدولة يجب أن تكون، من حيث الشكل، دولة اتحادية - مركبة، ومن حيث نظام الحكم، يجب أن تكون جمهورية برلمانية، وأنّ التمثيل النسبي للأحزاب هو النظام الانتخابي الملائم لليمن.

معايير السياسة الاجتماعية

في ذلك الوقت، أكّدت مرارًا وتكرارًا في مناقشاتي مع الزملاء والأصدقاء، أنّ ترجمة تلك المطالب السياسية إلى واقع عملي يحتاج إلى تغيرات اقتصادية واجتماعية معينة؛ لأنّ الأيديولوجية الليبرالية لا تحلّق في الفضاء الخارجي، ولها جذور اقتصادية واجتماعية، ومن ثمّ لا يمكن عزل المطالب السياسية عن المطالب الاقتصادية والاجتماعية.

أدخلت في دراستي المقدمة للمؤتمر السادس لاتحاد الكتّاب اليمنيين تحت عنوان «ثقافة التحديث والديمقراطية في المجتمع اليمني» (مجلة الحكمة، 1994، العدد 200)، معاييرَ السياسية الاجتماعية العادلة في تعريف المجتمع المدني، وهي مقاربة غير تقليدية.

وإجمالًا، صنّفت في تلك الدراسة المجتمعات النامية إلى ثلاث مجموعات متباينة في تطورها التاريخي:

1. المجموعة الأولى، وهي المجتمعات التقليدية التي تسودها الأشكال الاقتصادية والاجتماعية ما قبل الرأسمالية.

2. المجموعة الثانية، وهي المجتمعات التي تقع في مرحلة انتقالية بين المجتمع التقليدي والمجتمع الرأسمالي.

3. المجموعة الثالثة، وهي المجتمعات التي وصلت إلى طور المجتمع المدني.

واستنادًا على ذلك، أعلنتُ في تلك الدراسة بوضوحٍ تامّ أنّ "المجتمع اليمني، بوصفه مجتمعًا انتقاليًّا في بنيانه الاقتصادي والاجتماعي، يتوجب عليه، كخطوة لاحقة ومباشرة في تطوره التاريخي، أن ينتقل إلى طور المجتمع المدني" (مجلة الحكمة، ص59).

كما قدّمتُ تعريفًا مفصلًا للمجتمع المدني من أجل تضمين معايير السياسة الاجتماعية العادلة في صميمه، وينص ذلك التعريف على أنّ المجتمع المدني هو "المجتمع الذي تديره دولة مركزية، دولة المؤسسات والقانون، القائم في شكل حكمه على الليبرالية السياسية.

المجتمع المدني هو المجتمع المتمتع، نسبيًّا، باكتفاء ذاتي في الاقتصاد، القائم على الأساليب الحديثة في العلم والتكنيك، وتلعب فيه المدن دورًا رياديًّا وأساسيًّا في التطور الحضاري.

المجتمع المدني هو المجتمع القائم على العدالة الاجتماعية، التي من شأنها أن تحد من الظواهر السلبية الرأسمالية (الفقر، والبطال، وغيرها)؛ ولذا لا بد من الجمع بين النشاط الاقتصادي الحر كعامل ديناميكي للفعالية الاقتصادية وبين الحماية الاجتماعية" (المصدر نفسه، ص60).

من طور القوم إلى طور الأمة

وخلاصة القول أنّ الدولة المدنية لا تقوم إلا في المجتمع المدني، والمجتمع المدني الذي ننشده ليس صورة اجتماعية من رأسمالية ما قبل الحرب العالمية الثانية، وإنّما صورة من الرأسمالية المؤنسنة؛ أي الرأسمالية التي تتمتع فيها الطبقة الدنيا والطبقة الوسطى بحماية اجتماعية، تكفل العيش الكريم. 

وخليق بالذكر، هنا، أنّ انتقال الشعب اليمني من طور القوم إلى طور الأمّة مرهون بانتصار المجتمع اليمني وسيادته، والقوم هو ذلك الشكل من التجمع البشري، الذي سبق ظهور الأمة، والذي يتكون من جملة قبائل تعيش في بلد واحد، ولكن لا تزال التجزئة القروسطية تباعد بينها؛ ولذا لا يزال وعيها القومي في طور التكوين.

ازدياد رقعة الفقر والبطالة في اليمن، على نطاق واسع، من العوامل المعيقة لبناء المجتمع المدني، وهذه الحقيقة تجعل السياسات والبرامج الاجتماعية أكثر إلحاحًا أمام الفكر السياسي والاجتماعي في بلادنا، ذلك أنّه دون حدٍّ معين من المساواة الاجتماعية وحد معين من الثروة والرفاهية، لا يمكن إطلاقًا بناء المجتمع المدني.

أما الأمة فهي ذلك الشكل من أشكال التجمع التاريخي للناس، الذي يقوم على وحدة اللغة، والأرض المشتركة، والحياة الاقتصادية المشتركة، وبعض السمات الثقافية، ووعي ذاتي قومي، يتشكل خلال فترة طويلة من الزمان. وتتشكل الأمة مع تشكل المجتمع المدني، خلال فترة التغلب على التجزئة الإقطاعية، وسيادة العلاقات الرأسمالية، وتتكون من قبائل وأقوام مختلفة، تنصهر في كيان واحد، استنادًا على تفاعل تلك الأسس.

بعبارة أخرى؛ الأمة نتاج انصهار القبائل في تجمع بشري واحد كبير، توحده سوق مشتركة واحدة، ويحل فيه الوعي المدني الفردي محل الوعي القبَلي الجمعي، وتتحقق الممارسة السياسية والاجتماعية للناس من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وليس من خلال بناهم القبَلية، أو انتماءاتهم الجهوية، ويفترض كل ذلك وجود وعي ذاتي قومي متطور، يعكس الهُوية الذاتية للشعب المعني.

ويتطلب الانتقال إلى طور الأمة في اليمن تحقيق أكبر قدر من الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين المناطق المختلفة والأفراد، وتطوير مؤسسات المجتمع المدني، بحيث يؤدي ذلك كله إلى زيادة التجانس الثقافي والنفسي للناس، وتوسع دائرة المصالح الاقتصادية المشتركة.

وهذه الاعتبارات يجب ألا تغيب عن بال قادة العمل السياسي في اليمن، حيث إنّ وجود فوارق كبيرة بين الأقاليم في المستوى الاقتصادي والثقافي لن يخدم انتقال اليمنيين إلى طور الأمة، بل على العكس، قد يؤدّي إلى تشكّل وحدات سياسية مستقلة كليًّا، أو على الأقل إلى تزايد عدم الاستقرار السياسي في البلاد.

من غير المنطقي بناء الدولة اليمنية الحديثة دون مراعاة العدالة الاجتماعية، التي ينبغي تجسيدها في سياسية ضرائبية تصاعدية، وسياسة اجتماعية تضمن مساعدة العاطلين عن العمل، وإعادة تأهيلهم بما يتوافق مع متطلبات سوق العمل، وتخصيص صناديق اجتماعية لمساعدة المعاقين، والعجزة، والأطفال المحرومين، كاليتامى والمشردين.

كما يتطلب العدل الاجتماعي أن تسنّ السلطة التشريعية في البلاد قانونًا للعمل يرقى إلى مستوى قوانين العمل المعمول بها في البلدان المتحضرة. والنقطة الجوهرية هنا، هي أن تحدّد السلطة التشريعية الحدّ الأدنى للأجور في اليمن بما يتناسب مع مستوى التضخم، ومتطلبات الحياة الإنسانية الكريمة، وتثبت حقوق العاملين في القطاع الخاص والقطاع العام في التأمين الصحي والتأمين الاجتماعي، وأن تمنع تشغيل الأطفال في المجال المدني والعسكري على حدّ سواء.

من هذا كله، يتبيّن لنا أنّ الأسس الاجتماعية لبناء الدولة المدنية، والمجتمع المدني، هي من حيث المبدأ، واحدة، وتجاهلها من شأنه أن يحبط مشاريع تشييدها، والأساس النظري الذي نستند عليه هو أنّ المصالح هي التي تحدّد سلوك الطبقات والجماعات، والأحزاب السياسية، وأن تماسك أي أمة من الأمم يتوقف على تقارب طبقاتها الاجتماعية، وتقارب المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين وحداتها الفيدرالية، أو مناطقها المختلفة.

ازدياد رقعة الفقر والبطالة

وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أنّ ازدياد رقعة الفقر والبطالة في اليمن، على نطاق واسع، من العوامل المعيقة لبناء المجتمع المدني، وهذه الحقيقة تجعل السياسات والبرامج الاجتماعية أكثر إلحاحًا أمام الفكر السياسي والاجتماعي في بلادنا، ذلك أنّه من دون حد معين من المساواة الاجتماعية وحد معين من الثروة والرفاهية، لا يمكن إطلاقًا بناء المجتمع المدني.

ومن أجل الوصول إلى مجتمع الرخاء والرفاه، لا بدّ من وضع قائمة بالأوليات الاقتصادية في المرحلة الراهنة، والجمع بين الاقتصاد المخطط واقتصاد السوق، وإنشاء الشركات المساهمة للاستثمار في المجالات الاقتصادية الكبيرة، وتشجيع البنوك على تقديم القروض الاستثمارية الطويلة الأجل.

إنّ تحديث ودمقرطة الدولة اليمنية هو من أهم الشروط التي تتيح بناء رأسمالية الدولة، التي نعول عليها أيضًا في تشييد المشاريع الصناعية الكبيرة؛ لأنّ رأسمالية الدولة هي إحدى الطرق المثلى لمركزة الرأسمال الوطني، بما في ذلك الرأس المال الخاص، وهي عبارة عن نوع مختلف من الرأسمالية، تندمج فيه الدولة ورأس المال في نظام خاص من العلاقات المتبادلة، بغية الإسراع بعجلة التنمية الاقتصادية.

ولا يجب أن يستغرب القارئ من هذا التعويل على القطاع العام؛ لأنّ الرأسمالية الوطنية الصناعية في البلدان النامية ضعيفة للغاية، ونعرف حق المعرفة الدور الذي لعبه هذا القطاع في التنمية الاقتصادية في العديد من البلدان، حيث شكّل في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي 33.9% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي في اليابان، و37.0% في الولايات المتحدة الأمريكية، و45.2% في المملكة المتحدة، و47.3% في ألمانيا، و53.6% في فرنسا. 

وكل هذه الحقائق الدامغة تثبت إثباتًا قاطعًا أنّ الدولة الحديثة هي الشرط الأساسي لأية تنمية اقتصادية حقيقية، وهي أيضًا الأداة السياسية الرئيسية لبناء المجتمع المدني، بمؤسساته وعلاقاته الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، وبوعيه الاجتماعي الجديد.

•••
د. إحسان شاهر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English