أخبرتني أمي ذات يوم عن مسلسلات درامية قديمة كانت تعرض فيما مضى، وبدوري قمتُ بالبحث عن بعض تلك الأعمال نتيجة اهتمامي بالفنون والثقافة. وجدتُ مجموعة نادرة لم أتوقعها مثل مسلسل اسمه "الثأر"، و"الحنين"، و"الفجر"، إلى جانب أعمال عربية مشتركة مثل مسلسل "وريقة الحناء"، و"وضاح اليمن". أدركت حينها أن الدراما اليمنية عاشت –نسبياً-عصراً لا بأس به للنهضة الفنية في بداية الثمانينات (وهي الفترة التي ولدت فيها)، وتم إنتاج عدة أعمال درامية مهمة رغم قلة الإمكانيات وغياب المعاهد الفنية والنقابات التمثيلية والإعلامية، بل كانت تنطوي على ذائقة أدبية رفيعة رغم بساطتها وهذا ما لم يعلمه جيلنا ولم يدرك حلقاته.
تحولت الأعمال الدرامية الجادة وذات المحتوى الفني والفكري إلى مسلسلات كوميدية أقرب للهزلية، مليئة بالصراخ والعويل، في بداية التسعينات. وتصاعد التنافس على إنتاج هذا النوع من الأعمال، وقد يرجح السبب لقلة إمكانياته، وسهولة تأديته وغياب الرقابة الثقافية من الدولة وإهمال هذا الجانب، فابتعد فيها المشاهد اليمني وعزل نفسه عن متابعة الساحة الفنية اليمنية التي لم تعد تتوافق مع عقله وفكره وارتقاء ذائقته.
اليوم وفي رمضان هذا العام، يتابع اليمنيون مسلسل "سد الغريب" بشغف شديد، ولعلها المرة الأولى منذ زمن. فنحن أمام منعطف جديد في تاريخ الدراما اليمنية، ونقلة نوعية في تقديم الإمكانيات التقنية والبشرية بصورة متساوية. فقد قدم الملحن محمد القحوم تتر للمسلسل باحترافية ساحرة لينافس فيها العمل بقية الأعمال التلفزيونية على الساحة العربية.
يحيط الغموض بسياق المسلسل، في لفتة محببة لتضع المشاهد أمام تساؤلات متعددة منها: هل غموض الأحداث مفتعل ومن ضمن سياق العمل، أم أنه خطأ من قبل كاتبي العمل هاشم حمود هاشم (المخرج) وعبدالله يحيى ابراهيم (البطل أيضاً).
يعاني المسلسل من بطئ في التنقل بين المشاهد والأحداث، وغياب عامل الحماس وشد الانتباه في الحوارات وبين الأبطال، وكذلك ضعف السيناريو في بعض -أو في الكثير- من مشاهده. وهذه العوامل مجتمعة أدت إلى ملل المشاهد وتشتيت انتباهه، الى جانب مشاكل واضحة في عملية القص والمونتاج والفلاش باك.
ولكن، للإنصاف، وعلى مبدأ إعطاء كل ذي حق حقه، وبعد أن تحدثنا قليلا عن السلبيات في المسلسل، يتوجب أن أحيّي بشدة فكرة تقديم قصة يمنية بهذا المستوى التقني الرفيع، والطريقة التي كسر فيها القائمون على العمل الصورة النمطية المعتادة والموروثة للمسلسلات، والتي عاف عليها الزمن.
إضافة لذلك، يتميز المسلسل عن غيره بجديته وجداره الممثلين فيه؛ ففيه يعود الممثل الكبير نبيل حزام عودة متميزة ولائقة بصوته الفخم وقوة شخصيته وأدائه. كما أطلت علينا الممثلة القديرة "راعية الجبل" نجيبة عبدالله، إلى جانب مشاركتها في مسلسل كوميدي يعرض أيضا في رمضان، وتتألق فيه بسلاسة كوميدية محببة بدور زعفران في مسلسل "دار ما دار". أما بطل المسلسل الممثل الشاب عبدالله يحيى إبراهيم، فقد فاجأ جمهوره تماماً بتطور أدائه بشكل ملحوظ، ما يعني سعيه للنجاح بعيداً عن التكرار والهزلية. فهو يتقدم خطوة خطوة، كمن يقود سيارته في ضباب كثيف، ويكتفي بالسير ببطء لبلوغ هدفه.
النقد الجماهيري الذي تتعرض له المسلسلات اليمنية اليوم، هو ظاهرة صحية تنبئ عن أجيال لن تقبل بما دون المستوى
مما لاشك فيه أن نقاط الضعف في الأعمال اليمنية أكثر من نقاط قوتها. ونعلم أن المؤثرات السلبية التي تسبب الإحباط والخيبة في أي شكل كان، من جمهور أو من نقاد، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. وقد يمنع الكثير منا من انتقاد الأعمال خوفاً على أصحابها من الخيبة، وكنوع من التشجيع لعلمنا بغياب دعم الدولة لشركات الإنتاج. لكن الجمهور اليمني اليوم أصبح يملك منصات على كافة وسائل التواصل الاجتماعي ويحق له، بشكل لا جدال فيه، التعبير عن رأيه فيما يقدم له، حتى وإن كان نقداً قاسياً في كثير الأحيان؛ الجمهور اليمني الذي ضاق ذرعاً بما يقدم له وعنه منذ زمن. فالفنون كما نعلم، مرآة تعكس ثقافة المجتمعات ووعيها. فعلى سبيل المثال، حين تطور فن الإنشاد في فترة التسعينات وحاز على مكانة عالية داخل اليمن وخارجها، فذلك لأنه عكس خصال المجتمع اليمني الملتزم دينياً في تلك الفترة. جمهور اليوم مختلف عن جمهور الأمس، وشباب اليوم لن تنطلي عليهم أعمال الكوميديا الرديئة الذي لا يشاهده سوى المسنين والأطفال، ويهمل العاملون فيها أنهم بذلك يمثلون شعب بأكمله؛ بتنوعه واختلافاته، وليس فئة محددة ذات توجه واحد. بل إن النقد الجماهيري الذي تتعرض له المسلسلات اليمنية اليوم، هو ظاهرة صحية تنبئ عن أجيال لن تقبل بما دون المستوى. وأقول هنا النقد البناء الذي يضيف ولا يهدم، الذي يرفع لا يُسقط، النقد الذي يمثلنا كشعب متذوق للفنون لا جاهلاً بها.
ليقتحم المخرجون والكتاب والفنانين اليمنيين معاقل الخوف فيهم، فليس من المنطق أن تأتيهم الشجاعة من السماء. ونحن ندرك أن طريقهم ليس سهلاً ولا مُمهداً، وأن قلة الإمكانيات تشكل عائقاً مخيفاً في همة الشباب المنطلق والطموح الذي يكافح للخروج من قوقعته.
أخيراً، نأمل أن تتكرر الأعمال اليمنية الدرامية الجادة في السنوات القادمة، وأن يكون "سد الغريب" فاتحة الخير لنهضة الدراما اليمنية؛ فالمسلسل، حقيقةً، يستحق منا الدعم، ناهيك عن عرضه أزياء وديكورات يمنية تعكس تراثنا بطريقة لائقة، بجانب الموسيقى المتميزة المصاحبة للعمل، خصوصاً إذا ما انتهى بطريقة فنية جيدة تزيد من شأنه وترفع من قيمته.