يجمع دارسون أن الفترة الممتدة من مطلع سبعينيات وحتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، هي واحدة من أزهى عصور الأغنية في اليمن، وعدن على وجه الخصوص، وربما تشكل امتدادًا لفترة (62-66) التي يميزها عبدالله البردوني كأخصب فترات الفن الغنائي، والتي تميزت حسب رأيه، بظهور أصوات وباختفاء أصوات مثل اختفاء عبدالرحمن باجنيد عن الساحة الغنائية، ولكنّ اختفاءه لم يترك الساحة خالية.
لقد شهدت هذه المرحلة مجايلة عجيبة وجميلة بين طبقات مختلفة من الشعراء والمطربين، وتواصلت ثنائيات إبداعية غاية في الجمال والأناقة. كان وجه الشبه بارزًا بين طرب ما قبل السبعينيات وما بعدها شبهًا بلاغيًّا متناغمًا، وكأنّ كلًّا من الفترتين يكمل بعضهما بعضًا.
من عدن، برز مشايخ الغناء الأول: باشراحيل، العنتري، الماس، القعطبي، المسلمي، ولمع في سماء المكلا: محمد جمعة خان، وجل هؤلاء اشتهروا بالمزاوجة بين الإيقاعات المحلية والهندية، وعلى وجه الخصوص محمد جمعة خان. ثم بزغ بعدهم جيل آخر منحدر من نفس المدرسة ولكن بخصوصية لا تخطئها العين، كان قد تناول البردوني هذه الخصوصية في "أطوار الفن الغنائي"، فظهرت مدارس غنائية متعددة لها مناهجها ومطربوها، مثل: أحمد قاسم، خليل حمد خليل، محمد سعد عبدالله، محمد مرشد ناجي، محمد محسن عطروش، أيوب طارش، وآخرون. لكلٍّ من هؤلاء القامات ليس فقط جمهوره، بل منطقته الجغرافية التي يتسلطن عليها فنيًّا. لقد كان فعلًا "زمان الفنق"(*)، زمن تختار فيه أفضل ما يمكنك الاختيار.
وقد مثّل هؤلاء الطبقة العليا من الفنانين، وتليهم طبقة أخرى يمثلها: فيصل علوي، عوض أحمد، فضل كريدي، وآخرون. هذه القامات ليست إلا على سبيل المثال وليس الحصر، والحديث هناك لا يدور إلا حول الغناء في الداخل دون الخارج، الذي يحتاج إلى قراءة خاصة.
في أيام الفنق هذه، ووسط هذا الخضم من التنافس، والتدافع الثقافي والفني، يظهر فجأة الشاب سالم العامري ويقتحم الوسط الغنائي بنمط غير معهود من الأداء المتسم بالحركة والسرعة. وقد أثمر هذا الاقتحام رأيًا اعتبر أنّ العامري ربما يشكل ظاهرة غنائية مختلفة عما كان مألوفًا، ليس فقط في الأداء، ولكن أيضًا في شكل بروزه إلى الساحة، فإذا كان الفنّانون قد جاؤوا من خلال مصاحبة فنانين وفرق فنية معروفة ومختلفة، فقد هبط العامري بمظلة فنية من نوع فريد، تعود الناس أن يكون الفنان قبل ظهوره إما ضمن الكورال أو ضمن فريق العازفين، وعبر خطوة خطوة يتدرج تراتبيًّا حتى يصير مؤدّيًا ثم فنانًا بذاته، بينما لم يمر العامري من هنا كما يبدو، ولعل هذه ميزة تفرد بها عن غيره. بينما سالم العامري كان مختلفًا، ظهورًا واختفاء.
كان أسمر وأجعد الشعر وممتلئًا بعض الشيء، وعندما تتحدث معه تظنه ابنًا أصيلًا لإحدى "حوافي عدن"، ذلك بسبب اندماجه الكامل في المدينة، ويبدو أنّ عدن قد وجدته أسهل على الهضم أكثر من غيره من العابرين أو المغيرين عليها.
بدأ العامري قويًّا صاخبًا وحيويًّا، وصنّف على أنّه صاحب مدرسة قائمة بذاتها في الساحة الغنائية- هي مدرسة الأغنية الشبابية التي تتسم بالتحفز والإقدام والحركة والقوة، ولكن المفارقة التي تحتاج إلى تروٍّ في دراستها تكمن في أنّ العامري لم يتكئ على شعراء مختلفين عمن سبقوه، فقد غنّى لشعراء معتبرين ومعروفين غنّى لهم كثير من الفنانين المرموقين، أمثال: أبوبكر سالم، عبدالرحمن الحداد، على أنّ المتابع لهذه الحالة يبقى محتارًا؛ من اكتشف من؟
هل اكتشف الشعراء عبدالقادر الكاف، ومحفوظ باحشوان، وحسين المحضار، الشاب العامري أم أنّ العامري هو من أعاد اكتشاف روح هؤلاء الشعراء، واستطاع بطريقة ما نبش ينابيع الشعر عندهم وبعث شقاوة الشباب فيهم؟
فقد وهبه عبدالقادر الكاف: (ذا إلا أول، تكبر علينا، ضاع القمر، عاد نحنا ما انسجمنا، في ليلة العيد). وأعطاه محفوظ باحشوان أغنية (حولاه الليلة). بينما زوده المحضار بـ: (يا طير يا ضاوي، يا سهران والحب أسرار) -أغانٍ راجت أكثر بصوت أبوبكر سالم- وليس هذه الأغاني فقط، بل مجموعة كبيرة تشكّل رصيدًا محترمًا للفنان.
عندما تعرفت على سالم العامري كنت في بداية الشباب أو قل على مقاعد الدراسة الأساسية، بينما كان هو طالبًا جامعيًّا، وكنت مثل الكثير من أبناء جيلي، مشدودًا نحو أغانيه، الأمر هنا ليس له علاقة بالذائقة الفنية، بل بجاذبية النمط الجديد الذي ترافق حينها مع أداء فرقة (أشيد) وفرقة (الإنشاد)، اللتين لعبتا دورًا كبيرًا في إثراء الساحة الغنائية بعملية التجديد والدمج والاختصار.
كنت عادة أرى العامري في سيارته البيجو القديمة ذات اللون الكحلي أو الأزرق، وكانت هذه السيارة على قلة عددها في تلك الأيام تتمتع بشعبية بسبب نعومتها وانسيابيّتها لا أتذكر موديلها، ربما كانت 304.
كان أسمر وأجعد الشعر، وممتلئًا بعض الشيء، وعندما تتحدث معه تظنه ابنًا أصيلًا لإحدى "حوافي عدن"، ذلك بسبب اندماجه الكامل في المدينة، ويبدو أن عدن قد وجدته أسهل على الهضم أكثر من غيره من العابرين أو المغيرين عليها. لوقت ليس بالقصير كنت أظن أن العامري ينتمي لمحافظة شبوة، ولا أعرف لمَ رحت أقارن بينه وبين محمد صالح عزاني. فالعزاني ابن شبوة استوطن عدن واستوطنته، وحتى لو تقابلت مع أيٍّ من أبناء الفنان العزاني فلن تجده إلا ابنًا لعدن، وليس له انتماء آخر يلوذ به لهجة وسلوكًا وثقافة حياة.
اختفى العامري على غير ميعاد، ولا نعرف هل حمل معه سلّته المليئة بفاكهة الغناء، أم هجرها هي الأخرى كما هجر البلاد؟ لأنّنا لم نسمع بعد الرحيل له صوتًا، وبنفس طريقة مغادرته البلاد غادر الحياة أواخر مايو الماضي.
لقد تمكّنت عدن من هضم العزاني وإعادة صياغته بصورة خلاقة، وكان هو نفسه مادة قابلة للهضم على عكس الكثيرين الذين وردوا على المدينة، ولم تكن لِتقوى على هضمهم. ربما كان الشجن والخفة هو ما جمع في مخيلتي بين سالم العامري ومحمد صالح عزاني إلى جانب أن كلًّا منهما لم يتكرر.
لقد اختفى سالم العامري فجأة عن الساحة بنفس السبب الذي اختفى بسببه عبدالرحمن باجنيد. هاجر عبدالرحمن في الستينيات قاصدًا هولندا مذيعًا في إذاعتها العربية، ولكنه كما قال البردوني لم يترك الساحة خالية، فقد ظلت ولادة بعد هجرته ولفترة طويلة. لكن باختفاء العامري عن ساحة الغناء في أواخر 1978، خلت الساحة من الصوت الوريث والقوي وشديد التأثير، بينما استمر الفنانون الباقون يقدمون أجمل الروائع والتحف الفنية حتى حل الجدب الفني الشامل في لحظة فارقة كانت مرجوة لما هو أجمل. كما أنّ العامري اختفى على غير ميعاد لنا، لنعرف لاحقًا أنه استوطن دولة الإمارات، ولكن هل حمل معه سلّته المليئة بفاكهة الغناء، أم هجرها هي الأخرى كما هجر البلاد؟ لأنّنا لم نسمع بعد الرحيل له صوتًا، وبنفس طريقة مغادرته البلاد غادر الحياة أواخر مايو الماضي، ويظلّ سبب الهجرة المزدوجة للعامري محل سؤال عريض، ولماذا كذلك لم نرَه بين مطربي المهجر، كأمثال: أبو بكر سالم، وأحمد فتحي، و د. عبدالرب إدريس، وغيرهم؟
برأيي الشخصي، نحن الآن نستمتع بأغاني الكبار التي أزهرت بها تلك الفترة، سواء على مستوى بلادنا أو على مستوى المنطقة. من منّا لا تعود به الذاكرة لاستماع أغاني رباب العراقية–الكويتية التي قتلها حبها لبلديها (جبرني الشوق، رحت أبارك). نعود لنسمع أبوبكر (يا حامل الأثقال، عادك إلا صغير، ما علينا يا حبيبي، سر حبي، نار الشوق). وإذا كانت رباب غنت (حاسب الوقت) متذرعة بأن الوقت يفعل أفاعيله بالناس، فأبوبكر كان رأيه مختلف، فـعنده (الزمن ما تغير بس أهل الزمن متغيرين)، فالناس سبب العلة ودواؤها.
إذا أردنا أن نطوف بسهول البلاد وريفها وحضرها ولهجاتها، نبحث عن سفر أيوب طارش. أما إذا أردنا العودة للحنين والاشتياق والذكريات، فمحمد سعد عبدالله. ولكن سماء عدن تظللها ثنائيات أحمد قاسم، وكلّ مِن لطفي جعفر أمان ومصطفى خضر، وسعيد الشيباني، وأحمد الجابري، وعبدالله عبدالكريم.
باختصار، دائمًا نعود نقلب دفاتر أيامنا الخوالي، للبحث عن متعة الكلمة المترعة بالعاطفة والشجن والوله، المحمولة باللحن والأداء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الفَنَقُ والفُناقُ والتَّفَنُّق، كله: النَّعْمة في العيش. (معجم لسان العرب لابن منظور).