رواية (حرمة) التي كتبها علي المقري، منذ أكثر من عشر سنوات، قد تبدو جريئة وصادمة في لغتها، لكن إذا انتقلنا إلى عمقها نجدها استمدت من موضوع الجنس ولغته أسلوبَها في المرور إلى العديد من القضايا، وتصبح تيمة الجنس هي مفتاح الولوج إلى العوالم الخاصة المسكوت عنها اجتماعيًّا في أثناء المعاناة التي تعيشها البطلة، فمنذ كلمة العنوان (حرمة) المنفتحة على العديد من الدلالات، منها: التحريم والمنح والتبعية والتحقير والتهميش والتشيّؤ، وغير ذلك من الدلالات السلبية التي تعاني منها البطلة الفاقدة للاسم كذلك، بما يشكّله فقدان الاسم من فقد للوجود والاستقلال والهُويّة، إذ تعيش مجرّدة من هُويتها في اغتراب نفسيّ واجتماعيّ، وتتفتّق معارفها على دوائر عديدة من المنع والتحريم: في البيت، والمدرسة، والكلية، والجماعة الجهادية التي تلتحق بها بعد زواجها، لكن هذه الدوائر نفسها تتحول في مستوى آخر باطني من الكبت إلى نافذة للمعرفة المحرمة، حيث الجنس والعلاقات الغرامية والأفلام الإباحية والدعارة والعلاقات الشاذة، عندما تعيش الشخصية في صراع داخلي بين الرغبة في المعرفة الجنسية والشروط الاجتماعية لهذه المعرفة، وتنحو البطلة نحو هتك أسرار هذه العوالم المحرمة، فالتوبيخ الذي تتعرض له في المدرسة بسبب رسم صورة قلب وسهم في كراستها، يتحول في الخفاء إلى مشاهدة للأفلام الإباحية، والتقييد الذي يبدو في الكلية الدينية يتحول في أثناء إلقاء دروس فقه العلاقات الزوجية إلى مشاهد جنسية إيحائية وثقافة جنسية تراثية موغلة في التصوير الجنسي، والتي تستثير مكامن اللذة، تقول بعد محاضرة الشيخ لهم عن الجنس والمعاشرة الزوجية في الإسلام، والتي بدت بالنسبة لها مهيجة وشبقية: "حين سألت عن كتاب الجنس في ضوء الإسلام في ثلاث مكتبات بجوار الجامعة استغرب البائعون، إذ إنّ نسخهم جميعها بيعت منذ لحظات قليلة، وكان عليّ أن أذهب إلى شارع أبعد حتى حصلت على نسخة".
وهكذا تمضي الرواية في كشف موضوع الجنس ومشاهده التي قد تبدو صادمة للقارئ المحافظ، عندما يتحول التوق إلى الجنس هاجسًا مستمرًّا عند البطلة، ما يقرب هذه الرواية من مسمى الكتابة الإيروتيكية الحافلة بالمشاهد الجنسية والنزعة الفضائحية والإباحية، و"أهم ما يميز هذه الكتابة، كونها محرمة اجتماعيًّا وأخلاقيًّا؛ أي إنّها تمتاز بخاصية الهامش أو بتعبير دقيق؛ تهتم بالحياة الحميمية للبطلة أو البطل (الشخصية المحورية) ويقترن الحميم بالسر، السر الذي ليس سرًّا في حدّ ذاته، بل سر من خلال الطبقات التي تراكمت فوقه بفعل الرقابة المتعددة والقوانين التي تحده، ويمكن القول بأن السر ليس في الحياة الحميمة، بل في سردها وتحويلها إلى خطاب". وبهذا المعنى تصبح هذه الرواية جريئة في موضوعها ولغتها السردية الموغلة في مفردات الجنس وألفاظه.
تبدأ أحداث الرواية من خلال تشغيل شريط كاسيت لأغنية أم كلثوم (سلوا قلبي) التي تسمعها بعد زمن طويل من إهداء جارها سهيل لها، لم تلتفت إليها من قبل ظنًّا منها أنّها مجرد أغنية عادية، وقت أن كانت ترى تحريم استماع الأغاني والموسيقى، لكنّها عندما تغيّر موقفها بعد سنوات وتضع الشريط المهمل في جهاز التسجيل، يتبيّن لها أنّها أغنية في المديح النبوي، فتسترسل مع لحنها وأبياتها في تداعٍ للذاكرة، تعيد فيه شريط حياتها منذ الطفولة، ويتولى البوح العاطفي والتذكر مع كل مقطع من كلمات الأغنية، التي تعد بمثابة تحفيز للتذكر والسرد الذاتي الذي يتركز على حياتها العاطفية ومناطق الحرمان والتناقضات التي عاشتها في البيت والمدرسة والجامعة، وكل ما رافق ذلك من مشاعر اغتراب وتناقض اجتماعي بين الادعاء والممارسة، فيحضر سرد الجنس في المنزل وفي المدرسة والجامعة وفي كل الأمكنة على الرغم من المحيط المتدين الذي تتحرك فيه، تظهر أشكال عديدة للشخصيات ومواقفها المتناقضة بين السر والعلن، والتقاطبات على مستوى الشخصيات والسلوك والتقلبات، مثل أخيها عبدالرقيب الذي يتبنّى الأفكار الشيوعية في مواجهة أبيه المتدين، ويساعدها على التحرّر ومواجهة التقاليد، لكنه بعد أن يتزوج ويتخرج من الجامعة يتحوّل إلى شخص آخر ينتهي به المطاف إلى التشدّد والتطرف الديني والالتحاق بإحدى الجماعات الإسلامية الجهادية، ويقوم بتزويجها من أحد أعضاء هذه الجماعة وتسافر مع زوجها إلى مناطق جهادية عديدة، باكستان وأفغانستان ثم إيران، لكنّها في أثناء ذلك تعيش قصة زواج فاشلة بسبب العجز الجنسي الذي يعاني منه زوجها المجاهد، تعود بعد ذلك إلى صنعاء وتنقطع أخبار زوجها المجاهد، ويطلّقها منه أحد الشيوخ الدينيّين الذي يفتن بها، ويتزوجها، لكنه يظهر عاجزًا جنسيًّا مثل السابق، فتتطلق منه، وتهجر الجماعة الإسلامية إلى حياتها العادية السابقة، وهنا يكتسب فعل العجز الجنسي المتكرر دلالةً خاصة على العجز الاجتماعي والفكري الذي تعيشه الجماعات الإسلامية الجهادية. تعمد الرواية في مواقف كثيرة إلى تعميق هذه الدلالة في إظهار مفارقة صورة المتدين الشبقية في العلن، فيما تعاني من العجز الجنسيّ التام. وتحاول البطلة بناء علاقة غرامية مع جارها سهيل الذي أهداها شريط الأغنية منذ سنوات، وفي لحظات التوق الجنسي بعد سنوات طويلة من الحرمان تعرض عليه نفسها، لكنه يرفض هذه العلاقة بصورتها التامة، وفي هذه الأثناء تبدو شقيقتها الكبرى (لولا) والتي كانت تشجعها منذ سنوت على الجنس والغواية، قد انغمست في عالم الجنس والدعارة وتتسبب في موت أبيها بسكتة قلبية، تبدو الشخصيات جميعها من حولها وقد انغمست في لعبة الجنس اكتشافًا وممارسة؛ شقيقتها في المنزل، زميلاتها في المدرسة الثانوية، زميلاتها والأساتذة المشايخ في الجامعة، الزملاء في العمل، رجال الأمن، أعضاء الجماعة الإسلامية، ولكل واحد من هؤلاء مفهومه الخاص ومبرراته، فيما هي وحدها تبقى في هامش الحياة الجنسية، وفي اغتراب وحرمان مستمر.
لقد عاشت البطلة الساردة لفترة طويلة تقاوم رغباتها وشهواتها وتحاول الهروب من واقعها بأكثر من وسيلة، ومنها الزواج والسفر، لكنها ظلّت تعاني حالة من الاغتراب النفسي والاجتماعي والجسدي، فشل متكرر في تلبية رغبات جسدها الأنثوي على الرغم من كل محاولاتها، بما في ذلك الزواج مرتين، وتمعن الرواية في مفارقتها عندما تكتشف البطلة الساردة في نهاية الرواية أنّها حامل بجنين، فيما هي لم تزل عذراء.
لقد كشفت رواية (حرمة) عن جملة من العلاقات المأزومة بين الفرد والأسرة والمجتمع، وصوّرت واقعًا متناقضًا في القيم والمبادئ والغايات، وكذلك شيوع بواعث الاغتراب بين الشخصيات في كل شيء؛ فشل في الحب، وفشل في الثقافة وفي الفن والاقتصاد، وفي التدين والتعليم، ممّا ولّد الإحساس بالاغتراب المضاعف على مستوى الشخصيات.
جاءت رواية (حرمة) كلها في صورة سرد استعاديّ مرتد من الحاضر إلى الماضي، من لحظة لقاء الساردة بجارها الفنّان التشكيلي سهيل في لقاء غرامي فاشل، فينهمر سيل من التذكر بالعودة إلى سنوات بعيدة من حياتها، في سرد خطي يسير إلى النهاية، والعودة إلى الحاضر، في لحظة بدء السرد، ما شكّل بنية سردية دائرية ارتدادية تنطلق من نقطة في الحاضر باتجاه الماضي، لتعود من الماضي إلى نقطة الحاضر نفسها.
وتروي في أثناء ذلك، الساردة رحلةَ حياتها بداية من الطفولة، وعند سن الثامنة تحديدًا، لحظة لبسها "البالطو"، والانتقال إلى مرحلة جديدة في حياتها والوعي بجسدها واشتراطات المجتمع، وتعدُّ هذه السن من العمر مقنعة تمامًا في سرد الذات لنفسها. وتنتقل بعد ذلك في قفزات وارتدادات زمانية في مختلف مراحل الطفولة وذكرياتها، وبداية مرحلة النضج والوعي بالجسد الأنثوي الذي تحمله في أثناء مرحلة الدراسة الثانوية، وتنتقل إلى مرحلة تشكل وعيها الفكري في مرحلة الدراسة بالمعهد والكلية الإسلامية، وفي هذه المرحلة يتحول موضوع الجسد والجنس إلى هاجس مُلحّ في وعي الساردة، ثم الانتقال إلى مرحلة الزواج وتجاربها الأكثر ألمًا وعمقًا في حياتها؛ السفر والانتقال إلى أماكن بعيدة في أثناء مرافقة زوجها إلى الجهاد في أفغانستان، العديد من المراحل والتجارب التي تجتازها الساردة، حتى العودة إلى منزل العائلة بعد الطلاق مرتين، وتصوير الحالة النفسية التي وصلت إليها بعد سلسلة من التجارب الحياتية الفاشلة، وفي أثناء ذلك يستعيد السرد أسماء وشخصيات ومواقف وأحداث؛ أفراد الأسرة، الجيران، زملاء الدراسة، الأزواج، والمجاهدين من الرجال والنساء، وهكذا تقدم الرواية تفاصيل حياة الساردة ومراحلها، والغوص في أثناء ذلك إلى انفعالاتها وحياتها الخاصة وأفكارها ونزواتها. ترسم مسار حياة طويلة وسيرة سردية بامتياز للساردة، وكل هذه العناصر والثيمات المتكررة في السرد تشكّل بنية روائية سيَرية متخيلة.
في إطار البنية السيَرية في الرواية، يحضر البوح والاعتراف الذي تقدّمه الساردة بجرأة بالغة، حتى عند الحديث في أشدّ الموضوعات حرجًا وحساسية، وهنا يؤدّي ضمير المتكلم (أنا) دلالته ووظيفته السردية في تحفيز القارئ إلى لعبة التخييل، وتلقي المزيد من الكشف عن تفاصيل هذه الحياة الأنثوية، والتوغل في أعماق الشخصية الساردة إلى أبعد الحدود، ذلك أن "الأنا معادل، من بعض الوجوه، لتعرية النفس، ولكشف النوايا أمام القارئ؛ مما يجعله بها أشد تعلقًا، وإليها أبعد تشوفًا". وغنيٌ عن البيان أنّ الجرأة في البوح والاعتراف من سمات كتابات السير الذاتية الحديثة، ما يدفع القارئ إلى المزيد من التلصص على الساردة وهي لا تتردد في البوح بانفعالاتها العاطفية ورغباتها الجنسية المكبوتة، وسرد تخيلاتها واستيهاماتها. يغدو الجنس محركًا لأحداث الرواية ومصير الساردة منذ مغامراتها الخفية الأولى في التعرف على موضوعات الجنس ومشاهدة الأفلام الإباحية، وصولًا إلى التوق في إقامة العلاقات الجنسية والنزعة الشبقية، وفي أثناء ذلك تظهر سلسلة من المفارقات والصدمات في حياتها، تؤدي في نهاية المطاف إلى تشكّل شخصية إشكالية تعاني من الاغتراب والشعور بالفشل واللاجدوى من الحياة، ما يدفعها في نهاية الرواية إلى حافة الجنون.
يتشكّل السرد في رواية (حرمة) من ضفيرتين ملتحمتين ببعضهما منذ بداية الرواية إلى آخرها، كما أسلفنا، يتقاطع النص التخييلي بالنص الآخر المرجعي، قصة الحياة والقصيدة (الأغنية) في علاقة تناصية تفاعلية بين الخطاب السردي والخطاب الشعري، اللذان يتضافران فيُنتجان الرواية، وهذه العلاقة التناصية، بحسب جيرار جينيت "علاقة حضور مشترك بين نصين أو عدد من النصوص بطريقة استحضارية Eidetquement، وهي في أغلب الأحيان الحضور الفعلي لنص في نص آخر". فحين تشرع الساردة في تشغيل شريط كاسيت الأغنية (سلوا قلبي) يتولد السرد الاستعادي، تستمع الساردة إلى كلمات الأغنية وتتوقف في كل مرة عند كل بيت، تكتشف معانيه، وفي أثناء تأملها الكلمات يأتي التذكر، يتوازى شريط الأغنية مع شريط الحياة بكل تفاصيلها، أشبه بالعلاقات الآجرومية بين المتن الذي تحتله القصيدة التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي "سلوا قلبي غداة سلا وتابا" بكل جمالياتها ودلالاتها، وبين الهامش حيث حياة الذات التي تُروى بكل توتراتها ومعاناتها، وإذ لم تكفِ الساردة عن تقليب أوجه الشريط الكاسيت وتكرار الاستماع إليه، فهي لا تكف كذلك عن الاستدعاء والتذكر وسرد تفاصيل حياتها التي لم تخلُ من الجرأة في البوح والاعتراف. واختيار هذا الشكل الحواري بين القصيدة والسرد، يُعدُّ تجريبًا روائيًّا غير مسبوق، منح السرد فرصة للتعبير عن مشاعر الساردة، بما في ذلك شعورها بالعزلة والاغتراب، وتضفير هذه المشاعر بأبيات القصيدة التي تشكّل المحفز على التذكر والاستدعاء والبوح العاطفي.