يتدفق الآلاف من المهاجرين الأفارقة سنويًّا مرورًا بساحل العارة محافظة لحج، وأغلبهم -إن لم يكن جميعهم- من الجنسية الإثيوبية بعرقياتها الثلاث (آرومو، تغيراي، أمارا).
وتتعدد الأسباب التي تدفع الأشخاص لاتخاذ قرار الهجرة وترك بلدهم؛ أبرزها تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية.
وشهدت الأشهر الأخيرة من أبريل/ نيسان، حتى يونيو/ حزيران 2021، ارتفاع وتيرة تهريب المهاجرين الإثيوبيين، وخاصة من عرقية التيغراي عبر ساحل العارة، نتيجة الصراع القائم بين الحكومة الإثيوبية وجماعات مسلحة من إقليم تيغراي (الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي).
نائل الصبيحي (اسم مستعار) (37 سنة)، ناشط ومن السكان المحليين، متحدثًا لـ"خيوط"، عن تدفق المهاجرين خلال أبريل/ نيسان، ومارس/ آذار ويونيو/ حزيران 2021، بالقول، إنه في الأشهر الثلاثة الأخيرة زادت وتيرة تدفق المهاجرين إلى ساحل العارة، ويصل كل يوم جلبة (قارب محمل بالمهاجرين) وبعض الأيام جلبتين من المهاجرين الإثيوبيين إلى ساحل العارة من 150 إلى 200 مهاجر في الجلبة الواحدة.
من جانبه يؤكد سعيد (اسم مستعار) (35 سنة)، وهو أحد المهاجرين الإثيوبيين لـ"خيوط"، أن الفقر والظروف المعيشية الصعبة والبطالة في بلده، هي السبب الذي أجبره على الهجرة إلى السعودية عبر اليمن، وذلك للحصول على فرص عمل لتحسين وضعه المعيشي ومساعدة عائلته بتوفير الاحتياجات الأساسية للعيش، وهو حال معظم المهاجرين مثل سعيد.
وتابع: "نشاهد عددًا من أصدقاء سبقونا بالهجرة إلى السعودية، ويرسلون الأموال إلى ذويهم بشكل دوري، وكان لهذا أثر في تحسن وضعهم المادي".
وأفاد آخر: "بالإضافة إلى أسباب اقتصادية، يهاجر البعض من إثيوبيا هروبًا من النزاعات والاضطرابات الأمنية والحروب التي تشهدها بلدنا".
تمثل منطقة رأس العارة، موطئ قدم لعصابات التهريب، حيث إنهم من السكان المحليين، ويتعاون معهم غالبية سكان المنطقة وبعض الشيوخ، وجميع هؤلاء من السكان المحليين، والجميع متعاونون على التهريب وتأمين هذه العمليات والتستر على التهريب، بما في ذلك القوات المسيطرة عسكريًّا على المنطقة
ويواصل حديثه: "نظرًا لعدم الأموال لدينا، ولتحقيق حلمنا بالهجرة إلى السعودية، ليس لدينا خيار سوى المرور بساحل ومناطق اليمن، وساعدنا بذلك عدم وجود قوانين وضوابط للدخول والخروج عن طريق اليمن".
تصنيف حسب طريقة الهجرة
بعد بدء هجرتهم من بلدهم إثيوبيا برًّا حتى سواحل جيبوتي، ووفقًا لشهادات مهاجرين إثيوبيين تحدثوا لـ"خيوط"، فإنه يمكن تقسيم المهاجرين إلى مجموعتين حسب طريقة الهجرة التي يختارونها من سواحل جيبوتي إلى اليمن ثم السعودية.
المجموعة الأولى: وهم النسبة الأكبر من المهاجرين، هؤلاء الذين وضعهم المادي أفضل قليلًا، يختارون الهجرة عبر شبكة دلّالين (سماسرة إثيوبيين ويمنيين) يعملون كمندوبين لعصابات التهريب، فيقوم المهاجر من هذه المجموعة بالاتفاق مع الدلّال في سواحل جيبوتي بأن يتم نقله عبر البحر من منطقة حيو الساحلية بدولة جيبوتي، ثم تسليمه لدلّال آخر في الجانب الآخر بساحل العارة اليمنية.
بعد ذلك يتم نقل أفراد تلك المجموعة من ساحل العارة بشاحنات وسيارات تابعة لعصابات التهريب إلى ساحات (مراكز احتجاز المهاجرين)، تم إنشاؤها من قبل المهربين والمتجرين بالبشر بمناطق نائية برأس العارة.
وفي تلك الساحات يتم احتجاز هؤلاء المهاجرين حتى يقوم أهاليهم أو أصدقاؤهم بتحويل مبلغ مالي للمتجرين بالبشر يصل إلى 6 آلاف ريال سعودي، ومن يدفع يتم متابعة تهريبه على شاحنات تديرها عصابات التهريب نحو المحافظات الشمالية ثم إلى السعودية.
الغالبية من هذه المجموعة يتم إيهامهم بأن الدفع سيكون عند وصولهم إلى السعودية، ولكن يتم احتجازهم وتعذيبهم بتلك الساحات بمنطقة راس العارة، محافظة لحج، حتى يدفع أهاليهم الفدية.
المجموعة الثانية: وهم النسبة الأقل، ولا يمتلكون الأموال لدفعها للمهربين، فيختارون التنقل عبر البحر بطريقة شخصية دون الحاجة إلى دلّالي التهريب، وذلك بأن يقوم المهاجر بالاتفاق مع المهربين سائقي قوارب التهريب بنقلهم من حيو الساحلية بدولة جيبوتي إلى ساحل رأس العارة اليمنية مقابل دفع مبلغ يصل إلى 100 دولار.
يتم نقل المجموعتين مع بعض بالقارب نفسه إلى ساحل العارة، وعند إنزال هذه المجموعة، يشرعون برحلتهم البرية برأس العارة مشيًا على الأقدام نحو المحافظات الشمالية ثم السعودية.
ولكن هذه الفئة أكثر عرضة للمخاطر، حيث يقوم المتعاونون، بعصابات التهريب، باختطاف البعض منهم أثناء وصولهم رأس العارة، وبيعهم لعصابات التهريب والمتاجرين بالبشر، ويتم احتجازهم بأحواش، ويتعرضون للابتزاز المالي والتعذيب وضروب سوء المعاملة؛ لمساومة ذويهم بدفع الفدية.
مخاطر الرحلة البحرية ومآسيها
للعبور من سواحل جيبوتي إلى ساحل العارة اليمنية، يتحتم على المهاجرين عبور البحر مقابل باب المندب، وذلك من منطقة حيو الساحلية بدولة جيبوتي إلى منطقة رأس العارة في محافظة لحج.
في منطقة حيو الساحلية يتم تكديس العشرات من المهاجرين من المجموعتين على مراكب صغيرة متهالكة، غالبًا مصنوعة من مادة الفيبر، وليست معدة ومجهزة لتلك الأعداد، ويديرها مهربون يمنيون.
أفاد أحد المهاجرين، خالد عبدالعليم (اسم مستعار)، (16 سنة) لـ"خيوط": "تم حشرنا على قارب صغير بعدد كبير من المهاجرين؛ حيث الاستيعاب المعقول لذلك القارب 50 راكبًا، ولكن طمع المهربين جعلهم يضاعفون العدد على القارب، وكان عددنا خلال رحلتنا البحرية يفوق 170 شخصًا".
وفقًا لسكان محليين، أنه في مايو/ أيار 2019، توفِّي حوالي 57 مهاجرًا غرقًا قبالة شاطئ رأس العارة.
وفي حادثة أخرى في أبريل/ نيسان 2021، غرق مركب يقل مهاجرين يديره مهربون يمنيون قبالة شواطئ جيبوتي، وتوفِّي ما لا يقل عن 50 مهاجرًا غرقًا.
وفي 10 يونيو/ حزيران 2021، تحطم قارب يقل 208 مهاجر إثيوبي؛ بينهم 49 امرأة، 9 منهن قاصرات، أيضًا 14 طفلًا قاصرًا، يديره أربعة مهربين يمنيين، وذلك على بعد حوالي 17 ميلًا بحريًّا قبال ساحل رأس العارة محافظة لحج، لقوا حتفهم غرقًا ولم ينجُ منهم إلا أربعة شباب من المهاجرين.
جميل سالم (اسم مستعار) (35 سنة)، طبيب يعمل ضمن فريق ميداني لمنظمة الهجرة الدولية في بلدة رأس العارة، قال: "حسب ما تم إبلاغنا من فريقنا بموقع انطلاق المركب، وبالإضافة إلى العدد الكبير على المركب الذي بلغ 208 مهاجر، أيضًا تم تحميل كمية من الأسمدة المهربة على ذلك القارب ضمن المهاجرين؛ مما ضاعف الوزن عليه وتحطم أثناء حركته على أمواج البحر قبال شاطئ رأس العارة".
وبعد وقوع تلك الحادثة، هرعت قوارب تابعة للمهربين للبحث عن زملائهم الغرقى، وأيضًا لانتشال الجثث من البحر لدفنها على ساحل العارة بسرية، وذلك للتستر وإخفاء الحادثة.
قامت عصابات التهريب بنقل الناجين الأربعة، بطريقة سرية إلى مستشفى خاص بمنطقة الحجاف (غرب رأس العارة، نحو 25 كيلو مترًا)، ويتبع ذلك المستشفى لأحد عصابات التهريب.
كان أحد الناجين الأربعة بوعيه، بينما البقية فاقدون للوعي، تم إجراء الإسعافات الأولية للناجين، وتم نقلهم بعد ذلك مباشرة من قبل عصابات التهريب إلى جهة مجهولة لإخفائهم والتستر على الحادثة.
لم تستطع عصابة التهريب والمتاجرين بالبشر، السيطرةَ بالتستر على الحادثة وطمس آثارها، فبعد ثلاثة أيام، لفظت أمواج البحر العديد من جثث المهاجرين، وذلك من باب المندب وحتى ذو باب، التابعة لمحافظة تعز، بينهم قُصّر (صغار في السن)، على طول الساحل الذي يبلغ ما يقارب 70 كيلو مترًا.
استمر خروج الجثث تسعة أيام، وكان صيادون ومتطوعون في المنطقة يقومون بدفن تلك الجثث على الساحل؛ حتى لا تتسبب بكارثة بيئية؛ بينما عددٌ من الجثث تحللت في البحر.
لم تقم أيُّ جهات، سواء أكانت حكومية أم غيرها، بانتشال الجثث ونقلها إلى ثلاجات الموتى، أو حتى بأخذ عينات الحمض النووي لتلك الجثث لعمل بيانات بهُوياتها، مع أنه شوهد بعد الحادثة بخمسة أيام زوارق تابعة لخفر السواحل اليمنية تجول في المكان لساعات قليلة ثم اختفت دون القيام بانتشال الجثث.
بعد تلك الحادثة توقف الصيادون قبال سواحل العارة وباب المندب عن الاصطياد. حسب قول أحدهم؛ علي (اسم مستعار) (34 سنة): "أغلب الجثث ستلتهما الأسماك، فلا نستطيع صيد الأسماك بتلك الأماكن بعد أن تغذت على تلك الجثث، فربما ستتسبّب بأوبئة وأمراض".
وحسب السكان المحليين، حاليًّا هناك موقعين لإنزال المهاجرين عند ساحل العارة؛ أحدها في منطقة بئر عيسى، والآخر بمنطقة عزافة غرب منطقة راس العارة نحو 55 كيلو مترًا، ويتم استقبال المهاجرين وإنزالهم من قبل عصابات التهريب وتعاون وتأمين من بعض الشيوخ وبعض القوات العسكرية التابعة للقوات المشتركة المنتشرة بمواقع عسكرية في ساحل العارة، ومن ثَمّ نقلهم إلى الأحواش (مراكز احتجاز المهاجرين).
رأس العارة ترانزيت الجحيم
تحضر بلدة رأس العارة الساحلية بمحافظة لحج والمناطق المتاخمة لها عند الحديث عن تهريب البشر والاتجار بهم، وتعد تلك البلدة ممرًّا لتهريب الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين الذين يتوافدون بشكل شبه يومي إلى المنطقة للعبور نحو نعيم الغربة في السعودية.
غير أن رحلة المهاجرين للبحث عن ذلك النعيم، غالبًا ما تتحول إلى جحيم يكابده الآلاف من المهاجرين في بلدة رأس العارة.
وما أن يجتاز المهاجرون المخاطر في الرحلة البحرية، حتى يبدأ فصل آخر من المآسي والمعاناة بمجرد أن تطأ أقدامهم السمراء بلدة رأس العارة الساحلية.
ووفقًا لسكان محليين، انخفض معدل تدفق المهاجرين إلى رأس العارة الساحلية في العام الماضي (2020) ومطلع العام الحالي (2021)، ويرجحون ذلك بسبب انتشار وباء كورونا والتشديدات الأمنية عند الحدود السعودية مع اليمن من قبل السلطات السعودية وإحكام إغلاقها، فلا يستطيع المهربون تهريب المهاجرين غير الشرعيين خلال تلك الحدود.
ولكن في الفترة بين أبريل/ نيسان، حتى يونيو/ حزيران 2021، تضاعفت أعداد الوافدين من المهاجرين الإثيوبيين إلى بلدة راس العارة اليمنية.
وأفاد سكان محليون أنه خلال هذه الأشهر الثلاثة؛ من أبريل/ نيسان، إلى يونيو/ حزيران 2021، في كل يوم تصل جلبة (مركب محمل بالمهاجرين) إلى ساحل العارة تقِلّ من 150 إلى 200 مهاجر، وبنسبة حوالي من 10 إلى 20 بالمئة، منهم أطفال.
وتمثل منطقة رأس العارة، موطئ قدم لعصابات التهريب، حيث إنهم من السكان المحليين، ويتعاون معهم غالبية سكان المنطقة وبعض الشيوخ، وجميع هؤلاء من السكان المحليين، والجميع متعاونون على التهريب وتأمين هذه العمليات والتستر على التهريب، بما في ذلك القوات المسيطرة عسكريًّا على المنطقة، وهي قوات تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي مدعومة من التحالف بقيادة السعودية والإمارات.
وذكر سكان محليون أن من عصابات التهريب والاتجار بالبشر مسؤولين في الدولة وتربطهم علاقات بالسلطات، حيث قام بعضٌ من هؤلاء بإنشاء عدة محطات وقود على امتداد خط السير الساحلي، من منطقة رأس العارة غربًا حتى باب المندب حوالي 70 كيلو مترًا، وتلك المحطات للتغطية أمام الرأي العام بأنها محطات لتعبئة وقود، ولكن بالأصل هي مواقع وصول مهربات، وأماكن لإدارة كل أنواع التهريب والاتجار بالبشر.
هناك انتهاكات كثيرة على المهاجرين بتلك الأحواش (مراكز احتجاز المهاجرين)، ولكن تحرص عصابات المتاجرين بالبشر التستر وعدم الاقتراب من مراكز الاحتجاز والتعذيب، والتهديد لمن يدلي بمعلومات حول تلك الانتهاكات
أحد كبار عصابات التهريب في المنطقة، وهو نائب وزير يمني سابق، ومن السكان المحليين، قام بإنشاء محطة وقود ومجمع تجاري ومستشفى خاص بمنطقة الحجاف (غرب رأس العارة، نحو 16 كيلو مترًا)، وذلك المجمع يستخدم لإدارة كل أنواع التهريب، حيث إن ذلك المستشفى تم إنشاؤه مؤخرًا للحفاظ على السرية ومعالجة المهاجرين فيه، الذين يتم تعذيبهم في أحواش الاحتجاز، حتى لا تضطر عصابات التهريب إسعافهم إلى مستشفيات عامة ويتم فضحهم.
مراكز احتجاز وتعذيب وفدية
باستغلال ظروف فقرهم، تستخدم عصابات التهريب والمتجرين بالبشر السكانَ المحليين لإنشاء العديد من الأحواش لاحتجاز المهاجرين من فتيات وقاصرات وشباب وأطفال قُصّر، بمناطق نائية وجبلية، ولكنها معروفة، إلى الشمال من ساحل رأس العارة على بعد من 12 إلى 18 كيلو مترًا، بمنطقة الحجاف وبئر عيسى والنابية والعزافة وجبال المغبرة.
وبلغت تلك الأحواش منتصف العام الحالي 2021، حسب سكان محليين، أكثر من 100 حوش احتجاز (مركز احتجاز)، تفتقر لأدنى مقومات الحياة ولا يتوفر فيها حمامات أو مساكن خاصة، حيث يتم احتجاز الأطفال والبالغين الذكور والإناث فيها مع بعضهم بعضًا.
وتستخدم عصابات التهريب أساليب مختلفة لتعذيب المهاجرين بتلك الأحواش، كالضرب والتهديد بالسلاح وإطلاق النار والحرق بالنار، وأحيانًا اغتصاب النساء والفتيات، وحرمانهم من الطعام، لإجبارهم على دفع مبالغ مالية، ومساومة ذويهم وابتزازهم على تحويل الأموال مقابل مواصلة تهريبهم أو الإفراج عنهم.
يروي بعض الناجين قصص ومشاهد مرعبة، حول ما يتعرض له المهاجرون بتلك الأحواش، تميم صالح (اسم مستعار) (16 سنة)، مهاجر إثيوبي، بعد أن تم اختطافه من قبل إحدى عصابات التهريب والاتجار بالبشر عند وصوله منطقة رأس العارة الساحلية في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، ثم نقله واحتجازه بأحد مراكز احتجاز المهاجرين مع مهاجرين آخرين.
يقول لـ"خيوط": "استمرت فترة احتجازي حوالي خمسة أشهر، تعرضت خلالها، مرات عدة، للضرب بالعصي، وكان يتناوب أربعة من أفراد عصابة التهريب لتعذيبي بالضرب المبرح بالعصي، حيث كان يأتي لتعذيبي، أغلب المرات، شخص من عرقية التيغراي، علمًا بأنني من عرقية الأورومو، يتعمدون ذلك لأجل لا تغلبه الشفقة؛ كونه من عرقية مخاصمة منتقمة".
وفق حديثة، "مرات عديدة يأتي أحد أفراد عصابة المتجرين بالبشر ويجعلني أقف قائمًا وخلف ظهري عمود خشبي، ويقوم بربط ذراعيّ للخلف على ذلك العمود، ثم تقييد ساقيَّ مع بعضها ويضربني بعصا، وهو على اتصال هاتفي مع والدي، لكي يسمع والدي صراخي وأنا أبكي وأتألم، لابتزازه ويطلب إرسال حوالة 6 آلاف ريال سعودي للعصابة، ولكن والدي لا يملك هذا المبلغ".
وتابع أيضا: "كان تعذيبنا في تلك الأحواش خلال فترة المساء وحتى الصباح، كنت دائمًا خلال فترة المساء إما يقومون بتعذيبي بالضرب وإما أسمع تعذيبًا وصراخًا من الحوش الذي أنا فيه أو من الأحواش المجاورة. وطوال الليل في ذلك المكان، لا تسمع إلا أصوات عواء وصراخ المحتجزين بشكل موحش ومخيف".
وتستخدم عصابات التهريب والمتاجرين بالبشر أصنافًا أخرى لتعذيب المهاجرين المحتجزين، كالتجويع والحرمان من الحصول على ماء الشرب، والحرمان من الاغتسال، وأحيانًا الاعتداءات الجنسية على الفتيات واستغلالهن للقيام ببعض الأعمال.
وأفاد: "شاهدت اعتداءات عديدة على عدة فتيات محتجزات، إحداهن تدعى عائشة، (حوالي 24 سنة)، وهي مهاجرة إثيوبية عرفتها في حوش الاحتجاز. كان بعضٌ من أفراد العصابة يأخذونها بالقوة إلى مكان مجاور للحوش، وكنت أسمع صراخها عندما تقاومهم، عدة مرات عادوا بها في الصباح إلى الحوش وكانت ملابسها ممزقة وعلى وجهها آثار تعذيب. أيضًا استخدمت عصابة التهريب عائشة للقيام بالطبخ لأفراد العصابة".
وهناك انتهاكات كثيرة على المهاجرين بتلك الأحواش (مراكز احتجاز المهاجرين)، ولكن تحرص عصابات المتاجرين بالبشر التستر وعدم الاقتراب من مراكز الاحتجاز والتعذيب، والتهديد لمن يدلي بمعلومات حول تلك الانتهاكات، وفي حال استطاع أحدٌ من الضحايا التخلص من تلك الأحواش، يحرصون على مغادرة المنطقة خوفًا من تعرضهم لانتهاكات أخرى.
مآسي الجحيم في مستشفيات الإنقاذ
هناك ثلاثة مراكز صحية حكومية تتوزع على مناطق رأس العارة؛ أهمها مستشفى رأس العارة الريفي، أيضًا مركز صحي بمنطقة السقيا، ومركز صحي آخر بمنطقة النابية.
تعمل تلك المراكز الصحية بتقديم الخدمات الصحية بإمكانياتها المتواضعة، تدعمها منظمات إنسانية مانحة؛ أهمها منظمة الهجرة الدولية، وبعض الجهات الأخرى كجمعية الوصول الإنساني، ومنظمة الصحة العالمية.
فمنذ عدة سنوات سابقة دعمت منظمة الهجرة الدولية تلك المرافق الصحية بالكادر الطبي والعلاجات لاستقبال الحالات المرضية والإصابات من المهاجرين ومعالجتهم وفق آليات معينة.
في ديسمبر/ كانون أول 2020، أفاد سكان محليون بوقوع حادثة سقوط ثلاثة من المهاجرين من شاحنة تابعة لعصابات المتجرين بالبشر في منطقة رأس العارة؛ وذلك نتيجة حشرهم بعدد كبير على تلك الشاحنة والمشي بسرعة كبيرة
زاهر علي (اسم مستعار) (35 سنة)، طبيب يعمل ضمن الفريق الطبي للهجرة الدولية بمنطقة رأس العارة: "يستقبل الفريقُ الطبيّ التابع للهجرة الدولية، الحالاتِ المرضيةَ والإصابات للمهاجرين الذين يتم إسعافهم بواسطة السكان المحليين أو بواسطة أنفسهم، وتتم معالجتهم ومتابعة حالتهم الصحية حتى الشفاء، وتوفير السكن والغذاء لهم خلال فترة معالجتهم".
ومن تلك الحالات من هي بحاجة لخدمات صحية ليست متوفرة بمستشفيات المنطقة، يتم تحويلها لاستكمال معالجتها بجناح خاص تابع للهجرة الدولية بمستشفى الجمهوري العام بمحافظة عدن.
بعضٌ من تلك الحالات، تقطعت بهم السبل أو نتيجة لإصاباتهم أصبحوا غير قادرين على مواصلة الهجرة، ويريدون العودة الطوعية إلى بلدهم. تقوم منظمة الهجرة الدولية بالتنسيق مع سفارة بلدهم وإعادتهم طوعيًّا، بطلب منهم وموافقة من الجهات المعنية في بلدهم.
وأضاف: "حسب بروتوكول منظمة الهجرة، فإن الحالات التي يتم إسعافها من قبل المتعاونين بعصابات التهريب والمتجرين بالبشر لا نستقبلها، كالحالات التي يتم تعذيبها في الأحواش (مراكز احتجاز المهاجرين) أو إطلاق النار عليها أو دهسها بالسيارات التابعة للمتاجرين بالبشر؛ لأن تلك الحالات بعد أن يتم معالجتها يأخذها المتعاون ويعود بها إلى الأحواش، وبهذه الحالة أصبح المعالج متعاونًا مع عصابة التهريب وتشجيعهم".
ولكن عند رفض استقبال الحالات التي يتم إسعافها من قبل المتجرين بالبشر، يتعرض الأطباء للتهديد من قبل تلك العصابات، وذكر بعضٌ من الطاقم الطبي بمستشفى رأس العارة الريفي، وهو أهم المستشفيات في منطقة رأس العارة، بعضًا من القصص والتهديدات التي يتلقونها من قبل عصابات المتجرين بالبشر.
في شهر أبريل/ نيسان 2020، قام أحد المتعاونين بعصابة المتجرين بالبشر بإسعاف قاصر من المهاجرين المحتجزين لديهم، إلى مستشفى رأس العارة الريفي.
كان هذا الطفل يعاني من التهاب الأصبع الزائدة، استقبل الطاقم الطبي تلك الحالة دون علمهم بأنه من المحتجزين لدى عصابة المتجرين بالبشر، وبعد فحص الطفل سريريًّا، تأكد أنه يعاني من التهاب الزائدة.
حينئذٍ قرر الأطباء نقله إلى محافظة عدن لإجراء عملية جراحية له لاستئصال الزائدة، ولكن عندما علم المتعاون بأن الطفل سيتم نقله إلى محافظة عدن، قام بإشهار سلاحه عند بوابة المستشفى لمنع إخراجه ونقله إلى محافظة عدن.
كان ذلك المتعاون يقول إنه سيخسر مبلغ الفدية؛ أي 6 آلاف ريال سعودي، في حال تم نقل الطفل وإخراجه من المستشفى، وانتظر ذلك المتعاون حتى خرج الأطباء لتناول وجبة الغداء، ثم دخل المستشفى وأخرج الطفل، وقال إنه سيقوم بإسعافه إلى مستشفى خاص لعمل العملية الجراحية له، بمبلغ لا يتجاوز 500 ريال سعودي، وغادر به من المستشفى.
أيضا في ديسمبر/ كانون الأول 2020، أفاد سكان محليون تحدثوا لـ"خيوط"، بوقوع حادثة سقوط ثلاثة من المهاجرين من شاحنة تابعة لعصابات المتجرين بالبشر في منطقة رأس العارة؛ وذلك نتيجة حشرهم بعدد كبير على تلك الشاحنة والمشي بسرعة كبيرة.
بعد سقوطهم، واصل سائق الشاحنة السير دون إسعافهم، بعد ذلك قام عددٌ من السكان المحليين بإسعافهم إلى مستشفى العارة الريفي، ورفض الطاقم الطبي التابع لمنظمة الهجرة في مستشفى العارة، قَبولهم إلا بتأكيد من الجهات الأمنية بالمنطقة، يفيد بأن الضحايا ليسوا من المحتجزين لدى عصابات المتاجرين بالبشر.
كانت حالة الضحايا الثلاثة خطيرة، وذلك لتعرضهم لكسور بالأطراف وكسور في الرأس، وأحدهم توفِّي عند إسعافه؛ ولأن حالتهم كانت خطيرة وبحاجة إلى مبالغ مالية كبيرة لمعالجتهم، وهناك التزام مسبق من عصابات المتجرين بالبشر لدى الجهات الأمنية بالمنطقة، بمعالجة أي مهاجرين محتجزين تعرضوا للأذى لدى عصابات المتاجرين بالبشر.
في ذلك الوقت، أصرت عصابة المتاجرين بالبشر على الطاقم الطبي التابع للهجرة الدولية بمستشفى العارة، لاستقبالهم على أساس أن الضحايا تعرضوا لحادثة مرورية، وبعد أن رفض الطاقم الطبي استقبال تلك الحالات، قام بعضٌ من عصابة المتجرين بالبشر برشوة الجهات الأمنية بالمنطقة لاستخراج تأكيد منهم بأن الحادثة كانت مرورية، وبعد ذلك اضطر الطاقم الطبي استقبال تلك الحالات وتحويلها لمعالجتها بمحافظة عدن.
وأفاد عاملون صحيّون بمستشفى العارة، بأن حوادث كثيرة واعتداءات مماثلة تقوم بها عصابات المتجرين بالبشر على المهاجرين دون معاقبتهم وردعهم من أي جهة، بل إن هناك تواطؤًا من قبل الجهات الأمنية في المنطقة.
ونتيجة امتناع الطاقم الطبي التابع لمنظمة الهجرة باستقبال الحالات (المرضية أو الإصابات) من المهاجرين المحتجزين لدى عصابات المتجرين بالبشر في المنطقة، وأيضًا للتستر على الحالات التي يتم تعذيبها من قبل المتجرين بالبشر- أنشأ أحد المهربين مستشفى خاصًّا في المنطقة لاستقبال تلك الحالات ومعالجتها بعيدًا عن الرأي العام.
أيضًا، نتيجة الأموال التي تمتلكها عصابات التهريب والمتاجرين بالبشر، استخدمَت بعضًا من الممرضين والأطباء، وأُحضِروا لمعالجة المهاجرين المحتجزين في الأحواش (مراكز احتجاز المهاجرين).
وذكر أحد الممرضين العاملين في الوحدة الصحية بمنطقة السقيا، نقيب أحمد (اسم مستعار) (39 سنة) لـ"خيوط"، بأنه تم الاستعانة به مرات عديدة خلال الفترة الماضية لمعالجة بعض الحالات المرضية للمهاجرين المحتجزين في الأحواش، وكذلك معالجة بعض المصابين منهم بجروح ربما نتيجة التعذيب.
تواطؤ السلطات الأمنية والعسكرية
نتيجة ظروف الحرب التي تمر بالبلد بشكل عام، وغياب دور الدولة لبسط نفوذها وسلطتها في المنطقة، أصبحت عصابات التهريب والمتجرين بالبشر أكثر نفوذًا وسيطرة على بلدة رأس العارة الساحلية.
فمنذ مطلع العام الماضي (2020)، تم تكليف أحد فصائل القوات المشتركة الخاضعة لقوات التحالف العربي في مناطق الساحل الغربي، لبسط سيطرتها على ساحل المنطقة ومكافحة أنشطة التهريب بكل أنواعها.
قامت تلك القوات بالانتشار على ساحل المنطقة بمواقع عسكرية على ساحل العارة وبنقاط أمنية على خط السير العام المجاور لشاطئ المنطقة، وفي بداية سيطرتها قامت بمنع تهريب المهاجرين غير الشرعيين عبر سواحل المنطقة، وذلك للحد من تفشي وانتشار فيروس كورونا، غير أن جهود تلك القوة العسكرية لم تستمر كثيرًا بالاتجاه ذاته، فقد تحولت العلاقة بينها وبين عصابات التهريب إلى علاقة ودية عززت من رأس العارة كملاذ آمن لعصابات الاتجار بالبشر.
فمنذ منتصف العام الماضي (2020)، وحتى الفترة الحالية يونيو/ حزيران 2021، وبشكل رسمي لجأت القوات المشتركة المسيطرة عسكريًّا على المنطقة، بالسماح، وأيضًا التعاون، بأنشطة التهريب، وذلك من خلال قيام تلك القوات بتحويل مواقع إنزال المهربات (المواد المهربة أو المهاجرين غير الشرعيين) في ساحل المنطقة إلى الميناء والقيام بتحصيل مبالغ مالية بذلك على شكل جمارك.