تتوه الأعين أحيانًا بين العناوين الكثيرة المصفوفة بجانب بعضها في معظم المكتبات في مدينة عدن. فبرغم وجود الكُتب الفكرية والفلسفية، وكتب العلوم الطبيعية والإنسانية، يفضل الكثير من القراء، بالذات من شريحة الشباب في عدن، الاتجاه نحو كتب التنمية البشرية، للاستفادة السريعة، أو للتثقيف السريع، فيما تُترك الكتب الأُخرى بشكل عام، خوفاً من تغيير المفاهيم العامة، حول الدين والحياة والإنسان.
يقول الشاعر عبدالله البردوني :
"لن تكوني باريس من دون "روسو" *** ولن تكوني بلا "أرسطو" أثينا"
وقد عبّر البردوني ببيته الشعري الشهير هذا، عن أن التعاطي مع الفلسفة هو من أهم الأعمدة التي تُبنى عليها المدن والحضارات، بالإضافة إلى بناء قدرات العقل بالتفكير، لأن الحضارات والمُدن الكبرى معرفيًا كأثينا وباريس، لم تُبنَ إلا عن طريق العقول النيّرة، الباحثة والمنفتحة على الآخَر.
وعلى نفس الصعيد، يشير خالد عمر، وهو صاحب مكتبة في خورمَكْسر قائلاً في حديثه لـ"خيوط"، إن موقع القارئ في عدن، هو" موقع ضبابي"، من ناحية نوعية القارئ واختياراته، لافتًا إلى أن هذه الاختيارات هي التي تُحدد مستوى فهم القارئ ووعيه.
ويتابع: "من خلال ملاحظتي لاختيارات الشباب، وهم الفئة التي يؤمّل عليها أن تقرأ قراءات ناضجة ومعرفية، أرى أن نزراً يسيرًا جدًا منهم يبحثون عن هذا النوع من الكُتب (الكتب الفكرية)، فيما معظم الشباب يتجه اتجاهًا مباشرًا نحو كتب التنمية البشرية والروايات، وهذه الكتب لا يعيب عليها شيء، لكنها لا تصنع فكرًا حقيقيًا، فيما كُتب الفلسفة والعلوم التجريبية والتطبيقية، هي التي تشكل وعيًا حاضرًا على كافة المستويات"-بحسب تعبيره.
نشوان العثماني: كتب التنمية البشرية تقدم تلخيصات غير جيدة ومشوّهة أحيانًا، من منابع معرفية ثرية، والقليل القليل منها يُقدم محتوى سيكولوجي ومعرفي حقيقي
ويبدي خالد أسفه لكون توجّه القراء في مدينة عدن نحو الكتب التي تشكل الوعي، ضئيلًا، ويضيف: "أنا بدوري كصاحب مكتبة، أشعر بحسرة حقيقية جدًا عندما أرى أن نوعية هذه القراءات في عدن متراجعة إلى حد كبير". كما يلاحظ مالك مكتبة "الكلمة"، أن أغلب الشباب القارئ لا يملك خطة قراءة، فيكون اختياره للكتاب عن طريق أحد أصدقائه أو بعض الاستعراضات التي يقوم بها في الإنترنت. "نادراً ما تلقى شاب موجهًا ثقافيًا، أو عنده بناء معرفي وخريطة قراءة. لذلك أرى أن أغلب الشباب القارئ هم هواة قراءة، وليسو قراءً حقيقيين بمفهوم القراءة الحقيقية." يقول خالد.
في ذات السياق، تحدث لـ"خيوط" الصحفي نشوان العثماني، مراسل "مونتكارلو الدولية" في عدن. يقول العثماني إن اهتمام شريحة واسعة من الشباب بكتب التنمية البشرية تختصر (على حسب رؤيتهم) نقطتين اثنتين: "التثقيف السريع، والحصول على طريقة سهلة للنجاح"!
وأردف العثماني، وهو من المثقفين اليمنيين البارزين، أن التنمية البشرية استُخدمت ضمن توجّهات "بعض الجماعات الدينية والمجتمع المدني لتحقق اقترابًا من الشباب"، وأن هذا الاقتراب "يسعى إلى تحديد الوعي نحو نقطة محددة". وفي سياق تشخيصه لآثار هذا التحديد للوعي الفكري والثقافي، يرى العثماني أنه "بسبب هذا التحديد، يُفصل الوعي عن التثقيف الحقيقي الذي يفترض أن يكون"، وبالإضافة لذلك، يسبب هذا التحديد للوعي ما يعرف بـ"وَهْم المعرفة" التي يظن صاحبها أنه قد وصل إليها، في حين يكون فعليًا عند نقطة منخفضة في الوعي. ولا تفوت العثماني الإشارة إلى اختلاف مستويات كتب التنمية البشرية، غير أن هذا النوع من الكتب برأيه، "يُقدم تلخيصات غير جيدة ومشوّهة أحيانًا، من منابع ثرية للمعرفة، والقليل القليل منها يُقدم محتوى سيكولوجي ومعرفي حقيقي".
في المسار الطبيعي للإنسان في عدن، تُغفل أهمية القراءة بدءًا من الأسرة، وتصاعديًا في المدرسة والجامعة وفي مختلف المجالات، وإن وجدت، تكون ضمن إطار أيديولوجي معيّن، يمنع الدخول في فكر الآخر.
وتدعو عبير أحمد، وهي مدرسة لغة عربية، إلى تفعيل الدور الثقافي والفكري والمعرفي في المجتمع، عبر مسابقات للقراءة الثرية المتنوعة، وعبر تفعيل دور المدارس في غرس الوعي لدى الأطفال بأن القراءة المنفتحة على مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية، ستنعكس إيجابيًا على المستقبل المنظور.
وتقول عبير في حديثها لـ"خيوط"، إن إشكالية "ماذا تقرأ؟"، تعبّر عن عدم وجود أرضية ثقافية صلبة يستطيع القرّاء الوقوف عليها، وتُرجع سبب هذه الإشكالية إلى "إهمال دور القراءة في تشكيل الإنسان". وترى مدرّة اللغة العربية أنه لكي تُبنى هذه الأرضية الصلبة من التثقيف المفيد للفرد والمجتمع، فإن "على الأسرة والمدرسة قبل الجامعة، تحفيز الأولاد والبنات لوضع حجر ارتكاز فكري حقيقي مبني على القراءة والسؤال والتأمل".
وعمومًا، فإن إشكالية القراءة المفيدة في تشكيل وعي الفرد، هي إشكالية يعاني منها المجتمع اليمني في كل المحافظات والقرى، وهي إشكالية مرتبطة بمستوى جودة التعليم الرسمي والسياسات الثقافية للبلاد.