يحيى امقاسم ورائعته « ساق الغراب » 2-2

قراءة المستقبل من التاريخ غير المدون والقرى المغمورة
عبدالباري طاهر
November 4, 2020

يحيى امقاسم ورائعته « ساق الغراب » 2-2

قراءة المستقبل من التاريخ غير المدون والقرى المغمورة
عبدالباري طاهر
November 4, 2020

بدأ تبشير الإمارة بالمقري محمد المصلح الذي يرفض ظهور النساء، ويعزلهم عن أعمال الحرث والرعي والأفراح، ويجزم بصلة الشيطان بالنساء.

رد عليه بشيبش: "يانجَّاب السوء، معك "هرج" غير هذا؟ أو شل روحك من هذي القرية قبل ما تتساوى بالقاع".

كانت الإمارة ترى في عودة الأهالي إلى «عصيرة» عودة إلى الإيمان؛ فـ"الهربة" ردة، والعودة إيمان.

حكاية موت ابن حسينة والذيب أنهما تقاتلا، وماتا معاً، وتبين أن الذيب جني مرسل من الجن أخوال الصادقية. مقتل ابن حسينة-عشيق الصادقية-، وزوج الصادقية مشاري، والذيب في وقت واحد يعني الكثير.

ظلت الصادقية- زوجة مشاري- لخمسة عشر عاماً لم ينم معها إلا مرتين، وفي كل مرة يصل فاحمهما إلى السماء، ولا يخلص إلا في الليلة الثانية بعد أن تكون القرية كلها قد علمت بالمضاجعة العنيفة.

الممارسة الجنسية تعبير عن أحداث جسام. يعتقد أهالي «عصيرة» أن لعق أقدام الأطفال يلهيهم عن تذكر والدهم، ولا يشعرون بفقده، وهم من يختارون لحظة موتهم بعد الاستئذان من الشيخ، والإيصاء بتركتهم للشيخ؛ حيث جمعت تركة رجال القرية، ودفنت في جلد أكبر جمل، وخبئت في مكان سري في الجبل، ويموتون هرباً من عار الإمارة، وقد مات بهذه الطريقة هباش، وابن شامي، والساحلي، وكلهم دفن في «تل شارق»، كترميز لأفول نجم «عصيرة»، «ووادي الحسيني». 

 همست الابنة في أذن أبيها المحتضر: "كل شيء في مكانه"، كتعبير عن عجز الشيخ عن فض بكارتها، وللدفن في «تل شارق» ، وعجز الشيخ عن فض بكارة هدية مغزاه فقدان القدرة بالمعنى العام.

أحرق مسجد الإمارة؛ فأقامت الإمارة مسجداً جديداً، وأقامت دعوة للصلاة فيه، وبدأ الأمير يتعامل مع الشيخ بقدر من الغلظة. يتزامن ذلك مع اجتياح سيل مدمر للوادي وكل شجر وحجر في القرية، ويقتل ليلتها سبيع- ابن الشيخ- غدراً على يد إخوان عشيقته السبعة.

يوحّد السارد بين غضب الطبيعة الذي جرف كل شيء، وبين قتل إخوان عشيقة سبيع السبعة، وتزايد نفوذ الإمارة.

تبكي الصادقية سبيع ابنها:

"يا سبيع ما سرَّاك؟

 تلحق عشيقه؟

 والخيانة في رجاك.

يا سبيع ما سرَّاك ؟

ترتجي غفلة عتيقه

 والمحازب راصدة لك على خطاك."

تذكرني هذه المرثية ببكائية أم السليك ابن السلكة:

"طاف يبغي نجوةً

من هلاك فهلكْ

ليت شعري ضَلَّةً

أي شيء قتلكْ؟

أمريض لم تعد؟

أم عدو ختلكْ؟

والمنايا رصدٌ

للفتى حيث سلكْ"

هذه المنطقة ومنطقة الشعراء الصعاليك متقاربة أو هي امتداد واحد. هي منطقة "عك" صانعة تلبية الحجيج، والعديد من طقوس الحج، كما يشير الدكتور جواد علي في كتابه "المفصل". وقصة العاشق والأخوة السبعة شائعة في الحكايات الشعبية، ومقتل العاشق ترمز لوأد الحياة والجمال والخصب، أما قطع المذاكير؛ فإيحاؤها أكثر بشاعة.

الشعرية تتخلل السرد الروائي في كل تفاصيلها. "عكوة"-الجبل اليماني- قبلة أهل «عصيرة»، و«وادي الحسيني» تنظر إليه الصادقية: "هذا عرشي، وبلادي تحتي"؛ فالجبل رأس تاج مملكتها. تناجيه مرة أخرى: "هذا عرشي، وبلادي تحتي. هذا الصفير ناي روحي. هذا نافذتي إلى عرشي، إلى عكوة".

شريفة ابنة بشيبش- وارثه مملكة الصادقية- بدأت تميل لـ"عكوة"؛ فجزء من حبلها السري مدفون هناك، والجزء الآخر مدفون ببيت الشيخ؛ فهي موزعة الهوى بين بيت الشيخ، وبين "عكوة"- الجبل اليماني، حيث دُفِنَ حبلها السري.

 شريفة-الجيل الثاني- تحسم قرارها، كسرد امقاسم، أن تلك الجبال قد ردعت التُّرك، وقوم باشا المصري حين كانوا حلفاً واحداً لا يكيد لهم الأقوام الأخرى، ولما تفرقوا في آخر دهورهم ودُسّت بينهم نباتات لا تعنيهم، استطاعت القوى أن تحيط بجبالهم؛ فانفرطت تقرض معابرها، وتجيش أضدادها؛ لتفك وثاقها، وتزعزع عروشهم المتينة، حتى زلزلت ساق الغراب؛ فشرخت إلى نصفين، وقهروا إلى الأرذلين، وحمل ذلك كل رجل من أهلها على مصادرة لا رجعة فيها، فإما الرحيل، كما فعل والدها، وإما الحصول على إذن بالموت، كما فعل الكثيرون من خاصة الشيخ- ظلها الظليل.

الفقرة التاريخية جوهر السرد الروائي المائز. تقوم شريفة الوارثة بتقسيم العمل بين الفتيات، فقطف السنابل بقيادة علية هادي التي تتقدمهن في هذه المهمة، وتقوم شريفة بحفظ البذور للزراعة في العام القادم، ولا تفرط فيها، وتعمل إلى جانب زهرة بجمع السنابل، وحزم القصب.

في تهامة كانت احتفالات الخميس والسبوت بجني الثمر، وفي صنعاء السبوت بجني العنب، عادة شائعة إلى عهود قريبة

يتخوف المزارعون في «وادي الحسيني» من مطر الشتاء؛ لأنه يجرف الزرع.

  وجبات الأكل السائدة في تهامة، وإن اختلفت التسميات أو حُرّفت، فهي واحدة؛ فالنصيد حصد الزرع بعد نضج السنابل، وتمتاز المنطقة بخصب شديد؛ فالزرع يثمر أربع مرات في الموسم الواحد: امجاده، الخلف، والعَقبي، ثم الرابعة الجنية، أما في تهامة، فثلاث مرات: الشب، والعقب، وعقب العقب؛ ولا يثمر.

زار ابن المجاور المخلاف، واندهش لخصوبة الأرض، وإثمارها المتكرر: الاحتفال، والمهرجان، الرقص، والغناء في مواسم الحصاد شائعة في تهامة كلها. وفي تهامة كانت احتفالات الخميس والسبوت بجني الثمر، وفي صنعاء السبوت بجني العنب، عادة شائعة إلى عهود قريبة.

"خرجة" بشيبش التي يضرب بها المثل تتكرر في "الزهرة"، ولكن بطريقة مختلفة؛ فيحكي أن شاباً يحتفل بختانه، فيقوم بألعاب بهلوانية، ثم يجري وكأنه يستعرض سرعته وقوته، ولا يعود؛ فيضرب المثل هناك: "هربة قشاوش".

مقايضة الصادقية فقدان بصرها بقبر زوجها في وادي الحسيني، يعني فقدان رؤية الحاضر والمستقبل وفاءً للماضي، ودفع الإمارة مجدداً بالمقرئ محمد المصلح، وولد الهيجة يعني كسب ود الناس. ابن الهيجة- الوجه الجميل والمحبوب، والمقرئ- الوجه الممقوت، وقد أدى كل واحد منهما الغرض.

بعد مقتل ابن الهيجة، تبين أنه فاقد المذاكير؛ مما يعني أن ما التصق به كان وهماً، وقد انحاز لأهله في «عصيرة». والإمارة لا يثنيها عن تغيير الطبيعة أي شيء: منع طريقة الختان (مصادرة الرجولة). أودعت «عصيرة»  ثلاثة أضعاف قيمة الوادي في جلد الجمل؛ لإخفاء تراث «عصيرة»  ووادي الحسيني.

يدون امقاسم في سرديته الرائعة كل تفاصيل الحياة: الألعاب، الساري، والمسحر، والمزقرة، ولعبة الجيش الأعلى التي صمد وفاز فيها ابن الهيجة؛ ليدخل قلوب النساء قبل الرجال.

"غبري الليل" إنسان خرافي مولود في يوم عاصف رملي، رمى حبله السري على التل. في اليوم ذاته دعت الصادقية للاستنجاد بالغبار؛ ليمسح الوجود وشاقة الوهاد والجبال، ولم يتخلف عن توديعه غير المقري بوهاجر. ينظم بوهاجر والابنة عشيقة سبيع الذي قتله أخوتها السبعة، وعفت عن والدهم الشيخة، وأحسنت وفادته، فيكون وابنته من أوائل المنظمين للمقري.

تتوقف القرية عن صلاة العشاء والفجر؛ حماية لأعراضهم من زائر غريب، كترميز للحالة التي وصلت إليها القرية، والانشغال بحماية شرف العائلة، كثمرة للوعظ الجهنمي حول "المرأة الشيطان".

وقد أكد ابن الهيجة صموده الرائع في لعبة "الجيش الأعلى" أمام أهل «عصيرة»؛ مما أكسبه مكانةً كبيرة، وحباً في النفوس، كما أثبتت عدم انحرافه عن الولاء والوفاء للهيجة (الغابة)، الشجرة، الوادي، وعدم الانسياق للنوايا السوداء، والممارسات الضارة للمقري وللولاية التي أرسلته، ومن هنا عدم الاهتمام بمقتله من قبل الإمارة.

تتجه الأم رفقة الشريفة لتل شارقة مصوبة عصاها نحو ساق الغراب، متذكرة امرأة تحكي قصتها، فقد كانت تجمع المتساقط من السنابل، فطردوها، فنادت في السماء أن تزمجر بالعفاريت، وحين استوى أمام العرش سؤالها الباكي:

"يا الله بذي الليلة وعبلتها

تشل الجارة وعذقتها"

فاستجابت السماء للنداء. جلست الأم مستقبلة جبال ساق الغراب، تصعّد صوتها القديم في الفضاء مواويل متتالية، متوقعة نهاية «عصيرة» الليلة.

يدمج السارد بين غضب السماء، والوقائع على الأرض في نهج الإمارة وسياساتها، وميزة السارد المبدع مقدرته الفائقة على تحويل الخرافة والخيال المتوهم إلى وقائع حية تسعى، ويرتقي بالوقائع الحياتية إلى سحر بياني قل نظيره.

مرة أخرى مقايضة الصادقية فقدان بصرها مقابل دفن زوجها في وادي الحسيني، جسّد معنى قبول الأمر الواقع، ودفن كل شيء، ولكنها أدركت في التفاوض على دفن ابنها أهمية عدم التفريط ببصرها، وهو يعني الحاضر والمستقبل؛ فقد عقدت العزم على استعادة بصرها، وعودة الرغبة والاشتهاء.

احتفظت سراً بعودة بصرها، وأوصت نائبتها شريفة- رمز الآتي والمستقبل- بعدم التنازل أو المقايضة ببصرها مهما بلغ الأمر.

الغبار في تهامة كلها مواسم نضج البلح، وبشير الأمطار، والرياح اللواقح أيضاً، ونذير الأحداث الكبيرة.

يكرر السارد في سرد تاريخ «عصيرة» العام مئتين، وهو فترة استقلال "المخلاف". في زمن هيمنة الإمارة تعمد النساء إلى التمسح بجذع الشجرة كتعبير عن الحرمان، ورغبة في الممارسة، والتعويض.

يقمن النسوة في القرية صلاة استسقاء لهطول أمطار الذكورة، والدعاء أن تعود لأزواجهن الفحولة؛ لإشباع شهوة النساء اللواتي حرمن من نعمة المضاجعة المفقودة منذ ولوج المقري محمد المصلح القرية.

تمسك الأم بساعد الفتاة "شريفة": "اليوم يا شريفة يبدأ يومك العظيم، فإذا صار نساء قريتك يرقدون تحت أغراب، ورجال قريتك يخدمون الأغراب؛ فاخرجي من «عصيرة» ، و«جبل عكوة» في رجائك ولا يفارق ذاك الثوب خصرك".

في المشهد الأخيرة للسردية التأبينية لسيرة ومسيرة «عصيرة» خلال مئتي عام، تقف "شريفة" على قمة «جبل عكوة اليماني»، وتلمس بكفيها البضتين، لتسأله عن أخيه «عكوة الشامية»، ساردةً قصة حج الجبال الكبيرة إلى مكة.

ويأتي غُبري الليل ليعصف بالقرية: عششاً، وشجراً، يقبل رأس الأم بعد أن طمست معالم القرية. تتوحد الأم بالأرض في القبر. انتقل العهد إلى رعية أقل شأناً، ويشيع في النساء أن الأمطار وما سبقها من عواصف رملية إنما مصدرها المؤيدون بنصر الله، وتبين ولاء ابن الهيجة للأم. يصطفي كل رجل من رجال الإمارة أربعاً من النساء، ويهجر النساءَ أزواجهن هرباً من نار جهنم.

في المشهد الأخيرة للسردية التأبينية لسيرة ومسيرة «عصيرة» خلال مئتي عام، تقف "شريفة" على قمة «جبل عكوة اليماني»، وتلمس بكفيها البضتين، لتسأله عن أخيه «عكوة الشامية»، ساردةً قصة حج الجبال الكبيرة إلى مكة، وفي الرجعة تركوا ابنيهما: الجبلين الصغيرين: عكوة اليماني، وعكوة الشامي.

 اكتشفت "شريفة" الإرث الكبير من التركة المودعة في جلد الجمل أنها بذرة الوطن الذي لا يموت، وتركة الشيخ والأم آن لها أن تعود عن فكرة الموت، وآن الأوان؛ لتواجه تلك القوى الدخيلة؛ فهي كلما دخلت عريش الجبل تجد صرةً مملوءة بالحبوب، فتنزل قبل غروب كل يوم؛ لتغرس البذور في طريق خفي يصل إلى دارها، وكأنها تخلق بحبل سري قوامة الحياة: علاقة الجبل والقرية.

في الرواية، مثّل حمود "أبو حشفة" البطل السلبي، بينما مثّلت المرأة "شريفة" البطل الإيجابي- رمز الآتي، ويعتبر حمود أبو حشفة بداية المؤشر لأفول نجم أسرة عيسى أبو الشيخ والشيخة الصادقية، واضطرار عيسى لممالأة الإمارة، وصولاً للرضوخ، وهو أيضاً مؤشر للانقسام بالتطاول على بشيبش- رمز قوة «عصيرة» ، والحامي.

الخطأ البسيط في قطع جزء من الحشفة مؤشر مهم على ما لحق بهذه العادة المستحكمة والمتوارثة، وبمستقبل "وادي الحسيني".

السارد الرائع ينأى بنفسه عن أوزار الأدلجة والتوظيف السياسي؛ ما مكنه من مزج الحياة والموت، الخيال الخصب جداً بالواقع، والوهم بالواقع؛ فالرواية تأبين لموت «عصيرة»، ووعد بميلادٍ آتٍ سره خبيء في الجبل.

في الرواية الآتية من «عصيرة»- القرية المغمورة تمتد في حكاية الجمل الأسطوري من عدن إلى المدينة المنورة (تهامة).

الوقائع في "ساق الغراب" تمزج بالخيال؛ فالحبل السري، وأماكن الدفن السرية هي التي تحدد مسار ومآل صاحبه، وأهل «عصيرة» هم من يختارون مكان ووقت موتهم، مشاركين إرثهم للشيخ- إرث «عصيرة»، و«وادي الحسيني» المخزون والخبيء يمكن أن يكشف عنه.

الرواية واقعية سحرية في كل تفاصيلها. الخيال واقع، والواقع خيال. الحقيقة وهم، والوهم حقيقة، والوقائع الحية مسرودة بأسلوب غرائبي مدهش. الحكايا الشعبية الخرافية تتخذ في السرد صورة التاريخ الحقيقي لـ"عصيرة" وأهلها.

"ساق الغرب" تدون التاريخ غير المدون، وتقرأ تفاصيل الحياة المسكوت عنها، وتقرأ الآتي من التاريخ المدفون. 

اللاهوت الذي قمع الحياة، وأمات الفطرة، وغرس الوعد والوعيد، وأقصى المرأة عن الظهور، والعمل موعود بالزوال في وصايا الأم الصادقية.

حمود أبو حشفة، أو حمود أبو مسمار، له حضور كبير في "المخلاف" في المئتي سنة وعشرين الماضية، و«عصيرة» قد تكون اسماً حقيقياً، أو متخيلاً، أو هي كل المخلاف، أو ترميز للحظةٍ ما، أما العكوتين، فجبل مدون في جغرافيا شرق المخلاف، وساق الغراب حصن في سطح جبل إسبيل من جهة الشرق، وهو ذو أضلاع متراكمة، ويتبع بلاد قيفة في رداع، والحسيني قرية معروفة شرق قرية صلهبة جنوب شرق صبيا، ووادي الحسيني هو وادي صبيا، وقرية معروفة.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English