انطلقت الثورة المسلحة في اليمن الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني، في 14 أكتوبر عام 1963، من جبال ردفان الشمّاء، وتقع ردفان شمال عدن، وتبعد عنها 90 كيلومترًا، وهي منطقة تتميز بسلسلة الجبال الشاهقة الوعرة والأودية الزراعية، وقرى متناثرة.
إنّ استرجاع الأحداث من ذاكرة الثوار والمناضلين أو من مدونات المؤرخين أو من التقارير العسكرية البريطانية ومذكرات الضباط السياسيين البريطانيين، لهي جديرة بالتأمل في مسارات النضال الوطني وتضحيات أبناء الشعب في سبيل الحرية والاستقلال والعيش الكريم؛ لنعيد الاعتبار لقيم الثورة الأصيلة وأهدافها النبيلة.
لم تكن ثورة 14 أكتوبر وليدة لحظة تاريخية واحدة أو نتاج حدث معين، ولكنها كانت امتدادًا لجملة من الأحداث والتمردات والوقائع التي سطّرها أبناء ردفان في مواجهة الاستعمار في مراحل عدة منذ احتلاله عدن في سنة 1839. ونحاول هنا استعراض بعض الأحداث التي سبقت تفجير ثورة 14 أكتوبر.
إنّ أول تمرد حدث في ردفان ،كما دونّته الكتابات التاريخية، كان في سنة 1881، عندما حاولت بريطانيا إخضاع قبيلة القطيبي بضمّها إلى إمارة الضالع.
وفي 10 سبتمبر 1886، تُوفي الأمير علي مقبل، أمير الضالع، وخَلَفه في الحكم ابن أخيه الأمير شائف بن سيف، لكن قبائل القطيبي أصرت على عدم الاعتراف به أميرًا على بلادهم.
وفي سنة 1903، قامت فرقة بريطانية بغزو منطقة قبائل العبدلي الردفانية، وهدمت قريةً فيها، وفي شهر نوفمبر من نفس السنة تقدمت الفرقة وهدمت قرى سائلة بجير وسائلة المصراح انتقامًا من القطيبي الذي كان قد قام عدة مرات بمهاجمة حصن سليك.
وفي 2/ 10/ 1940، قام الثائر عباد هيثم الوحّدي القطيبي، ومعه ثلاثة من أبناء قبيلته، باعتراض التعزيزات البريطانية المتوجهة إلى الضالع، وقتل أحد رجال الطيران وجرح آخر، وكان ذلك بالتشاور مع الشريف حسين الدباغ، وهو من الأسرة الهاشمية، جاء من الحجاز، وكان يعمل على إعادة حكم الشريف حسين إلى مكة والحجاز، فقد وصل صنعاء وحاول أن يدفع الإمام للوقوف معهم، فلم يفلح، فخاف من غدر الإمام من أن يسلمه إلى ابن سعود، فهرب إلى حضرموت ثم عدن، وأسّس مدارس هناك، ثم جاء يافع يبشر بدعوته والتحريض على الإمام يحيى، فقام مع طلبة مدرسته بمهاجمة قرى في البيضاء، فأرسل الإمام قوة كبيرة من الجيش هزمت الدباغ ومجموعته وسيطرت على أجزاء من يافع، فهرب الدباغ إلى ردفان، فلجأ إلى بلاد القطيبي، فطالبت بريطانيا بتسليمه، فرفض آل قطيب تسليمه، وهو رجل دين وسياسي، أُعجب به رجال أهل قطيب، وعلى إثر حادث عباد هيثم أرسلت بريطانيا المنشورات تطالب بتسليم عباد هيثم ورفاقه، وتسليم حسين الدباغ الذي كان مقيمًا في منطقة وحّدة في بلاد القطيبي، واشترطت بريطانيا أيضًا تسليم رهائن وغرامات من أهل قطيب، ما لم فسيكون العقاب الجوي والعقوبات الأخرى، وسيكون عقاب فخيذة الوحّدي بالدرجة الأولى وبعدئذٍ يعاقب كل أهل قطيب -كما جاء في المنشور- ورفض أهل قطيب كل مطالب بريطانيا وتعرّضوا لكل أنواع التدمير والترهيب والترويع، وكانت بريطانيا ترسل أسرابًا من الطائرات مكونة من خمس وعشرين طائرة لقصف بلاد القطيبي، واستمر القصف المتواصل حوالي ستة أشهر، وكانت بريطانيا في تلك الفترة تنفذ سياسة إخضاع المحميات وتقوية قبضتها عليها، فكانت تتصرف بوحشية؛ لأن الحادث كان في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبخاصة مع دخول إيطاليا الحرب بجانب الألمان، إذ قامت طائرات إيطاليا بقصف عدن والمناطق المجاورة، فتحاول السلطة البريطانية بكل قوة إخماد أيّ تمرد خوفًا من أن يتمدد في أنحاء الجنوب اليمني، ومع كل التحذيرات والمنشورات المتكررة وبشاعة القصف، لم يذعن أهل قطيب. فلجأت بريطانيا إلى إنشاء وجود عسكري في ردفان في بلاد القطيبي، وأنشأت موقعًا عسكريًّا في أكمة الحمراء (وهو مرتفع يطل على الحبيلين والثمير) والآخر في الثمير، في نهاية 1941، ولكن أهل قطيب لم يكونوا موافقين على الوجود البريطاني في أرضهم، فعدّوا العدة لمهاجمة الحامية البريطانية في الحمراء، وحدثت معركة الحمراء الشهيرة في أكتوبر 1942، وبذلك انسحبت القوات العسكرية من ردفان.
قيام ثورة 26 سبتمبر
كانت الروح القتالية والبطولية لدى أبناء ردفان عالية، ومع قيام ثورة 26 سبتمبر زادت شدة وحماسًا، فقد أسرعت مجاميع كبيرة من أبناء ردفان للدفاع عن ثورة 26 سبتمبر. وفي بداية 1963، تحركت مجموعة بقيادة الشيخ سيف مقبل القطيبي والشهيد راجح بن غالب لبوزة، انطلقوا من بلاد القطيبي إلى ذي ردم، وعقدوا صلحًا بين قبيلتي الداعري والمحلئي لتجميد الثارات، إدراكًا منهم بأنهم على أعتاب مرحلة جديدة من النضال التحرري، ثم تحركت المجاميع من أبناء ردفان مشيًا على الأقدام إلى قعطبة ثم انتقلوا إلى إب، ومِن ثَمّ تحركوا بمعية المقدم/ أحمد الكبسي، وأسندت لهم مهمة القتال في المحابشة، وقد خاض أبناء ردفان معارك ضارية ومتميزة بشهادة المصريين. وقد توالت مجاميع كثيرة من أبناء ردفان للدفاع عن 26 سبتمبر في حَجّة والمحويت وخولان. وقد استشهد عدد منهم في هذه المعارك.
وفي أغسطس 1963، عادت إلى ردفان مجموعة من الثوّار الذين شاركوا في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر، وعلى رأسهم الشهيد راجح غالب لبوزة.
عندما علمت السلطات البريطانية بعودة الشهيد راجح غالب لبوزة ومجموعته، سرعان ما أصدر الضابط السياسي البريطاني (ميلن)، ونائب المشيخة، إنذارًا يطلب من العائدين تسليم الأسلحة والقنابل التي بحوزتهم، ودفع خمس مئة شلن ضمانة بعدم العودة إلى الشمال، ما لم فسوف ينالون العقاب الشديد.
وضع ردفان بداية 1963
عند تأسيس اتحاد الجنوب العربي في 1959، ضُمّت مشيخة القطيبي إلى إمارة الضالع، وعُيّن الشيخ سيف حسن نائبًا للأمير، إلا أن الشيخ سيف رفض وطالب بمقعد للمشيخة، فتوتر الوضع مع السلطات البريطانية؛ الأمر دفع السلطات البريطانية إلى اعتقال الشيخ سيف حسن القطيبي وسجنه في سجن أحور، وذلك في يونيو 1963، وقد كلفوا أخاه الشيخ محمود حسن، ليكون نائبًا للمشيخة.
هذا الوضع المتوتر ووجود مجاميع كبيرة من أبناء ردفان في الشمال، للدفاع عن ثورة 26 سبتمبر، وامتداد الزخم الثوري التحرري، كما كانت المجاميع الردفانية تعقد لقاءات مع القيادة المصرية لتدارس إمكانية إعلان الكفاح المسلح ضد الاستعمار، كل ذلك لم يكن يغيب عن السلطات البريطانية وإدراك مخاطره.
الإنذار البريطاني
عندما علمت السلطات البريطانية بعودة الشهيد راجح غالب لبوزة ومجموعته، سرعان ما أصدر الضابط السياسي البريطاني (ميلن)، ونائب المشيخة، إنذارًا يطلب من العائدين (لبوزة ومجموعته) تسليم الأسلحة والقنابل التي بحوزتهم، ودفع خمس مئة شلن ضمانة بعدم العودة إلى الشمال، ما لم فسوف ينالون العقاب الشديد من حكومة بريطانيا وحكومة الاتحاد.
عندما وصل الإنذار إلى الشهيد لبوزة، استدعى الثوار وحددوا مكانًا للقاء، وذلك في منطقة عقيبة في بلاد القطيبي، وهي تقع وسط بين دبسان ووحّدة وحيد ردفان، وناقشوا كيفية الرد على الإنذار البريطاني، وقد أجمع الحاضرون على الرفض ومواجهة المستعمر، فحرّروا خطابًا للضابط السياسي (ميلن) يقولون فيه: "نحن غير مستعدين لكل ما هو في رسالتكم، ونعتبر حدودنا من الجبهة –الجبهة: منطقة تقع بين الحبيلين والمصراح- وما فوق، وأي تحرك لكم يتجاوز حدودنا فنحن مستعدون لمواجهتكم".
ووضع الشهيد لبوزة طلقة رصاص في ظرف الرسالة، دلالة على التحدي والجدية في المواجهة، وكلف المناضل قاسم شائف بإيصال الرسالة للضابط السياسي (ميلن)، كان هذا في نهاية سبتمبر 1963.
كانت بريطانيا تريد فرض جبروتها واستفزاز الثوار، ففي يوم 13 أكتوبر 1963 قامت بتحدي الثوار وتجاوز الحد الذي عيّنوه (منطقة الجبهة) فتقدمت وحدات عسكرية يقودها الضابط السياسي (ميلن)، من الحبيلين، الثمير، الجبهة إلى رأس وادي المصراح، وحاولوا اعتقال المناضل أحمد مقبل عبدالله؛ أحد العائدين من الشمال، إلا أنه كان بالقرب منه عددٌ من الثوار يعملون في مزرعة، فعندما شاهدوا محاولة اعتقال زميلهم، أطلقوا النار في الهواء تحذيرًا، فانسحبت القوات إلى الحبيلين.
كان الشهيد راجح غالب لبوزة ومجموعته من الثوار ليلة الرابع عشر من أكتوبر، يبيتون في رأس جبل البدوي، يقفون بشموخ يعانقون عنان السماء، ينشدون الحرية والاستقلال، وتطلعات حالمة بالعيش الكريم والعدالة وبناء دولة حقيقية.
علم الشهيد لبوزة، وهو في منطقة دبسان، بما حدث من تجاوز للقوات البريطانية للحد الذي حدّده، ومحاولتهم اعتقال أحد الثوار، فطلب من الحاضرين التجهز للتحرك، وكلّف بعض رفاقه بإشعار المناطق الأخرى، ويكون الملتقى في رأس جبل البدوي، وهو جبل يطل على وادي المصراح من الجهة الغربية وعلى وادي وحّدة من الجهة الشرقية، وكانت تمر فيه طريق مناطق وحّدة وعقيبة ودبسان وضرعة المؤدية إلى الحبيلين -طبعًا طريق مشي على الأقدام- وانطلق الشهيد لبوزة من دبسان، وفي كل منطقة يمر بها تلحقه مجموعة من الثوار.
وفي الوقت نفسه، كانت القوات البريطانية تعد خطة لحملة عسكرية للتمركز في المصراح والقرة لمحاصرة الثوار حتى يخضعوا لمطالب بريطانيا، فطلبت السلطات البريطانية تعزيزات، وقد وصلتهم من الضالع فجر يوم 14 أكتوبر. وفي صباح يوم 14 أكتوبر، تحركت، باتجاه المصراح، أرتال القوات البريطانية من المشاة والدبابات والمدفعية، مدعومة بالطيران.
كان الشهيد راجح غالب لبوزة ومجموعته من الثوّار ليلةَ الرابع عشر من أكتوبر يبيتون في رأس جبل البدوي، يقفون بشموخ يعانقون عنان السماء، ينشدون الحرية والاستقلال، وتطلعات حالمة بالعيش الكريم والعدالة وبناء دولة حقيقية، وفي سبيل ذلك يقدمون أرواحهم رخيصة، كان الشهيد راجح هو قائدهم يتقدم الصفوف، هو مثلهم ليس له امتيازات خاصة؛ يجوع مثلهم ويظمأ مثلهم ويعاني مثلهم، يأكل مما يأكلون وينام فوق الحجارة حيث ينام رفاقه.
ومع فجر يوم 14 أكتوبر، وزع الشهيد لبوزة الثوار إلى أربع مجموعات تحيط بالقوات من المقدمة والخلفية. وانتشرت القوات البريطانية في وادي المصراح إلى قرية البيضاء، واتخذت المدفعية والدبابات مواقع مهمة ترصد تحركات الثوار في الجبل.
بدأت المعركة في حوالي التاسعة صباحًا، واشتدت الاشتباكات، ومع قرب الظهيرة بدأت مقدمة القوات البريطانية بالتراجع، وتقدم الشهيد لبوزة في موقع آخر من الجبل؛ ليكون أكثر إطلالة على القوات، ولكن المدفعية كثّفت نيرانها على الموقع الذي فيه الشهيد لبوزة -جبل البدوي، أكمة الضاجع- فوقعت قذيفة بالقرب منه أصابته شظية منها، فسقط شهيدًا، وجُرح أحد رفاقه وهو سعيد العنبوب، وثبت الثوّار في مواقعهم حتى انسحبت القوات البريطانية.
تقبل الثوار استشهاد قائدهم بحزن مؤلم، ولكنه حزن ممزوج بالإصرار على الاستمرار في الكفاح، فقد قدم لهم قائدهم راجح لبوزة درسًا حيًّا في الإقدام والتضحية والصمود والصلابة والبسالة.
عند انتهاء المعركة ومع حلول الظلام، نُقل جثمان الشهيد راجح غالب لبوزة من جبل البدوي، وقرر ابنه المناضل بالليل راجح لبوزة دفنه في منطقة عقيبة؛ لبعد المسافة إلى مسقط رأسه دبسان، ووعورة جبل حقلة. وتعاهد الثوار على مواصلة طريق الكفاح المسلح حتى تحقيق الاستقلال الناجز، واتفق الثوار على إرسال رسالة للمقدم الكبسي والقيادة المصرية يبلغونهم استشهاد لبوزة، ويطالبون بالدعم لاستمرار الكفاح المسلح حتى تحرير أرض الجنوب الغالية.
وفي 23 أكتوبر 1963، أعلن قحطان الشعبي في مؤتمر صحفي في صنعاء عن قيام الثورة المسلحة من جبال ردفان الأبية، واستشهاد أول شهيد، الثائر البطل/ راجح غالب لبوزة، في 14 أكتوبر 1963.
وشهدت ردفان منذ يناير 1964، معارك عنيفة مع المستعمر، يقول عنها سلطان ناجي: "اضطرت بريطانيا إلى القيام بعمليات حربية ضد الثوار، عُرفت بعضها في الوثائق البريطانية بعمليات (تنكراكر أو كسارة جوز الهند) و(رستم) و(رد فورس)، وكانت تلك المعارك بالفعل أكبر معارك بريطانيا خلال حرب التحرير، فقد اشترك فيها آلاف الجنود واستخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة من طائرات ودبابات ومدافع"، ثم اشتعلت الثورة في أنحاء الجنوب.