المقولُ الشفاهي في الريف اليمني ثريٌّ بإحالاته التي تزخر بها الذهنية الشعبية؛ و"بِلْقْ السَّمن" واحدةٌ من المقولات التي تتردد في هذا النسق من التراث اللامادي الإنساني.
مقولةٌ لها حضورها المتجدد على الشفاه في المديريتين المتجاورتين: (ماوية) من محافظة تعز، و(الحشأ) من محافظة الضالع التي يصل ترديد هذه المقولة إلى أجزاءٍ من مديريتها (الأزارق)، لا سيما امتدادها الجغرافي المتماس والمتداخل مع جارتيها: (الحشأ)، و(ماوية)، المديريتين اللتين تبلغ فيهما هذه المقولة مستوًى عاليًا من التداول والحضور.
المحورية الدلالية التي تتحوصل فيها إحالات هذه المقولة هي الإحالة على مواضع النعيم التي يتوافر فيها كثيرٌ من مقومات السعادة والرفاهية. فمثلًا حينما يكون شخصٌ ما محظوظًا بتموضعه في مكانٍ مغرٍ يتهافتُ عليه الكثيرون، وظهرت عليه رغبةٌ في مبارحته، فستمثل هذه المقولة نصًّا تنبيهيًّا يلفت انتباهه إلى خصوصية مكانه وأفضليته، مسبوقةً ــ في الغالب من تداولها ـــ بالعبارة: "وَااحِجْ"، فتُصاغُ نَصِّيَّتُها التنبيهية للجاهل بأفضلية حاله، في مخاطبتهِ بالقول: "وااحِجْ، قانْتَ بِّلْقْ السَّمْنْ".
نصِيّةُ المقولة مكتنزةٌ بلفت انتباه المخاطب إلى حقيقة الأفضلية التي يتسم بها المكانُ الذي يتموضعُ فيه، كما أنها متسمةٌ بخصائص مستوى المحكية في جغرافية انتشارها: فقد ظهرت خاصيةُ العدول عن الحركات الإعرابية في آخر الكلمات إلى الوقف بـ(السكون) على الوحدات الصوتية: (الجيم) من "وااحجْ"، و(القاف) من "بِلْقْ"، و(النون) من "السمن".
كما يبدو صوت (التاء) من الضمير المنفصل (أنتَ) متحركا بحركة (الفتحة) مغايرًا نسقية الوقف بالسكون على نهاية الكلمات، ومن التسرع القول إن ذلك متأتٍ من خاصيته الصرفية كضميرٍ ملتزم البناء في نهايته، فهناك مواضع ومقولات يهيمن فيها حضورُ خاصية التسكين حتى على بعض الضمائر المنفصلة.
ومن تلك الخصائص الصوتية يظهر استخدامُ صوت (القاف) كبادئةٍ تحمل معانٍ متناسبةٍ مع السياق الذي ترد فيه، وقد حملت في سياق هذه المقولة معنى التأكيد والحث، بعدما دخلت على الضمير المنفصل (أنت)، المتسم بخاصيةٍ أخرى من خصائص محكية جغرافية المقولة، هي خاصية تخفيف همزته من (القطع) إلى (الوصل)، كسمةٍ شائعةٍ في اللهجات العربية لا سيما في أول الكلمة([1])، وهي الخاصية ذاتها التي اتسمت بها محكيات اللهجات اليمنية([2])، ومنها المحكية في جغرافية التداول لهذه المقولة.
وفي الوحدة الصوتية (الباء) من "بلق"، أُدْغِم حرف الجر (الباء)، فالجملة بصيغتها البنائية الكاملة: "بِبِلق السمن/ في بلق السمن".
(واحِجْ)، اصطلاحٌ تعبيري متداولٌ في كثيرٍ من المحكيات اليمنية، و"الواحج: هو الموضوع في مكانه المناسب، وقد يكون الشيء موضوعًا في مكان مناسب، وإن لم يكن الأنسب"([3])، كما أن "الواحج من الأماكن هو: المكان الممهد الصالح للجلوس عليه، والواحج في مجلسه هو المستقر"([4]).
أما (البِلْق) فمنحدرٌ من فصاحة الدلالة على الفتح والتجريف والشق والقطع، يقال: "(بَلَقَ) السيلُ الأحجارَ ــ بَلْقًا، وبُلُوقًا: جَرَفَها. وــ البابَ: فتحهُ كله... بلق ظهرهُ بالسوط: قَطّعه"([5]).
وبمقاربةٍ لهذه المعاني والدلالات يمكن الوصول إلى استكناه معنى المقولة: فـ(بلق السمن) هو حفرةٌ صغيرة ممتلئةٌ بالسمن، وتتموضع في صنفٍ من أصناف الأطعمة على المائدة، غالبًا ما تكون "العصيد".
كما تتجلى في نسقية التداول إحالةٌ إلى استقلال (السمن) بإناء خاص به على المائدة، أو بثغرةٍ ضمن مجموعةٍ من فتحاتٍ يتم حفرها في قطعةٍ خشبيةٍ مصنوعةٍ لتجتمع فيها مهامُ عددٍ من آنية الطعام الصغيرة.
تبدو في المقولة رمزية "السمن" إلى النعيم، وإلى ذروة الممكن من رفاهيات المائدة وصور الاستمتاع بما فيها، ولا يُخفى ما للعسل من مكانةٍ متقدمةٍ على السمن في تقييم الحياة الريفية
ويسير بنا تأمل الفضاءات الدلالية لهذه الصياغات نحو تفاصيل صناعة هذا الإناء أو عمل هذه الثغرة في القطعة الخشبية، كما يسير بنا نحو تلمُّسِ المنطلق الأول الذي انبثقت منه مثل هذه الصياغات؛ فالصناعات اليدوية الحرفية لأدوات الحياة واحتياجاتها تعد مرحلة مهمة من مراحل الإنسان في تعاطيه مع تفاصيل حياته، ومن ذلك أدوات الطعام والزراعة والبناء.
لقد احترف الإنسان اليمني الصناعات اليدوية؛ ليلبي حاجته إلى الأدوات في حياته، كما في صناعته من الفخار والخشب احتياجات مطبخه وأواني أطعمته.
يبدو ارتباط مضمون هذه المقولة بصناعة الأدوات من مادة الخشب بشكل خاص، حيث تتم تجزئة الجذر المقطوع فور قطعه، إلى قطع صغيرةٍ حسب الأداة التي يراد صناعتها، ثم يتم النحت على كل قطعةٍ بـ(المَبْلَق)، و(المبلق) مسمارٌ مصنوعٌ بخصوصيةٍ فاعلةٍ في إنجاز ذلك، فهو مستطيلُ الشكل، محددٌ طرفه الأول الذي به تتم عملية النحت، وعريضٌ طرفه الآخر على هيئةٍ مستديرةٍ تتلقى الضربات بمطرقةٍ حديديةٍ لإنجاز المهمة، كمهمة إحداث ثغراتٍ وثقوب في مجموعةٍ من الأعواد السميكة بشكل متساوٍ، ليتم في هذه الثقوب فيما بعد إدراجُ عصا صغيرة بها يُنجَزُ تثبيتُ مجموعة الأعواد تلك؛ لتستوي بابًا خشبيًّا. وبالأداة ذاتها تستقيم صناعة مماسك الباب ومزاليجه الداخلية والخارجية، كما يستقيم تزيينه بنقوش معينة حينما تكون أجزاؤه مستطيلات خشبية.
وبهذه الأداة (المبلق) تتشكل الأدوات المنزلية بأشكال مختلفة مع تشذيبها بما يجعلها آنية وأدوات منزلية جميلة، وما زالت ذاكرتي محتفظةً بصورِ تلك الجفان الخشبية الجميلة، التي كثيرًا ما رأيتها أيام الطفولة، حينما كنتُ أتردد على منزل جدي بين الحين والآخر.
ومن البداهة الإشارةُ إلى أن محورية الخشب كميدانٍ لإحالات لفظ (البلق)، لا تعني أنها مقصورة عليه وعلى صناعة الإناء من الخشب؛ فالفضاء الدلالي يتيح تمظهراتٍ مختلفةٍ ذات عموميةٍ دلالية على احتواء (السمن) في إناء، أو في حفرةٍ صغيرة، بحجم نصف كف مقبوضة، في طرفِ/ وسط صنفٍ من أصناف المائدة المهيأة لمثل ذلك كـ(الفتوت) أو (العصيدة)، ففي مساحةٍ شاسعةٍ من جغرافيةِ التداول لهذه المقولة يهيمن لفظ (المَفْجِيْ) محيلًا على هويته الاحتوائية لـ(السمن) في مثل هذين الصنفين على مائدة الطعام.
ويمكن الاستئناس بتصورٍ لمشهديةٍ مستوعبةٍ لإحالات المقولة: كموقفٍ يظهر فيه عددٌ من الأشخاص مجتمعين حول مائدةٍ تتعددُ فيها أصناف الطعام، واحدٌ منها هو الصنف الذي وُضِع فيه (السمن)، فيكون الشخص القريب من هذا الصنف هو الأوفر حظًّا، وحريٌّ به ألا يخطر في باله التفكير في مبارحة مكانه، إلا إن كان غير مستوعبٍ خصوصيةَ موقعه، وظهرت عليه رغبةٌ في الانتقال منه، فحريٌّ به أن يتلقى تنبيهًا من شخص آخر، يلفت فيه انتباهه إلى أفضلية موقعه وخصوصيته.
نوعية (السمن) الذي تضمنته المقولة، نوعية خاصة، هي السمن البلدي حصرًا، المتميز بصناعته منزليًّا. نوعيةٌ مرتبطة بالبيئة الريفية المأهولة بالندرة المحتملة لتواجد نوعيةٍ مغايرةٍ من الصناعات المعلبة، خاصةً وأن الظرفية الزمنية لتداول هذه المقولة، محطةٌ مفرغةٌ من مستجدات الصناعات التحويلية. وفي هذه الخصوصية تجلٍ لخاصية اعتماد اليمني على ذاته، بشكل شبه كلي، في كثير من مفصليات تأريخه.
وتبدو في المقولة رمزية "السمن" إلى النعيم، وإلى ذروة الممكن من رفاهيات المائدة وصور الاستمتاع بما فيها، ولا يُخفى ما للعسل من مكانةٍ متقدمةٍ على السمن في تقييم الحياة الريفية، ومع ذلك لم يكن هو المُعَوَّل عليه الاضطلاع برمزية النعيم والذروة الممكنة من رقي المائدة، حيث اضطلع بذلك السمن، فكان المَعْنِي باستيعاب هذه الرمزية؛ مستندًا على هيمنته الحضورية في حياة الأسرة بشكل يكاد لا يخلو منه منزلٌ من منازل الريف اليمني.
لم يعد للسمن ما يحيل عليه في الراهن اليمني المفرغ من أن يكون فيه أحدٌ من اليمنيين (وَاحِج)، أو أن يكون لهم فيه (بِلق سمن) يختصمون حوله، إلا إذا كانت دلالة "البِلق" قد انتقلت من السمن إلى آبار النفط
لقد اتسعتْ رمزية النعيم، فشملت كل أمرٍ ذي قيمةٍ، وكل موضع مناسب ومغرٍ، واستوعبت عددًا من الأشياء والرغبات والاحتياجات المختلفة باختلاف وتنوع السياقات والظروف والأزمنة والأمكنة، تلك الاحتياجات التي تخضع قيمتها لظرفية الاحتياج إليها. فمثلًا ظرفيةُ الاحتياج إلى الماء في صحراء قاحلة تصل بالماء إلى مستوى النعيم، وبـ"السمن" تستأنس استيعابَ الرمز إليه، ولعل في واحدةٍ من الحكايات الشعبية التي عاش تفاصيلها أحد المعمرين الريفيين أبلغ تجسيدٍ لفاعلية الظرفية الصحراوية؛ يتحدث عن ذكرياته المؤثثة بتفاصيل تلك الحكاية التي تشكل محطة فارقة في حياته، فهو واحدٌ من الريفيين الذين استدعتهم الحاجةُ إلى الكفاح المسلح في مقاومة المستعمر في جنوب اليمن. لبى نداء الواجب، وفي جولة من جولات المواجهة انكسرت مجموعته، وتفرق أفرادها، فوجد نفسه مع مجموعة أخرى تجمعه بأفرادها صفةُ الانكسار ومحاولةُ الإفلات من مطاردة العدو الذي يتتبع آثارهم. انطلق الرجل مع مجموعته الجديدة في الأودية والشعاب الغريبة، التي لم يمر منهم أحدٌ فيها من قبل. تاهوا، استبد بهم الحر، واشتد بهم الظمأ، وتواضعت أمنياتهم فلم تتجاوز العثور على شربة ماء. وجدوا بئرًا غائرة، فاطمأنوا إلى الماء في قعرها، وشعروا بأن أمنياتهم على أهبة التحقق، لكن واجهتهم مشكلةٌ في كيفية الوصول إلى قعر البئر؛ لا دلاء ولا حبال ولا سلالم لبئر قديمة الطراز والبناء. تفتقت أفكارهم عن حل لإشكاليتهم: جمعوا (محشّاتهم) - و"المحشّة: إزارٌ طويل من قماش ذي ثنايا يطوى على الخصر عدة طيات، والجمع: محشّات"([6]) - عقدوا منها ما يشبه حبلًا طويلًا، أوثقوا أحدهم في طرفٍ منه، وجميعهم في الأعلى ممسكين بالحبل (المحشات)، يتيحون لثقل صاحبهم أن يسحبَه منهم على مهل، وقبل أن يصل إلى قعر البئر انقطع الحبل على بعد مسافةٍ من أيديهم المتشبثة به لتقادم بعض أجزائه وتهالكها، أما صاحبهم فقد وصل إلى الماء بالسلامة؛ فقد كان على وشك الوصول، ومعه سقط الحبل منهم. تبددت أمنياتهم، ولم يعد في اليد حيلة، تأوه أحدهم مُخاطبًا مَنْ في قعر البئر: "واااحِجْ، قانتَ بِلقَ السمن، ليت وانا مكانك!"، غادروا المكان، غير مكترثين به، على اعتبار أنه المحظوظ بينهم، فلديه ما يناور به في وجه الموت، وليس أمامهم إلا الموت والطريق المجهول.
لقد تموضع (بلق السمن) في الذهنية الشعبية، وارتقى دلاليًّا إلى مستوى رمزية النعيم، واحتفظ بهذه الرمزية وإحالاتها في صيرورة الأزمنة. كان في الماضي معادلًا لشكلٍ مما يعده اليمنيون نعيمًا بمقاييس واقعهم في مرحلة من تاريخهم، كما كان مكونًا رئيسيًّا مما تزخر به البيئة اليمنية من إمكانات الحياة وتدبر المعيشة من خير الزراعة وتربية الثروة الحيوانية. لم يعد للسمن ما يحيل عليه في الراهن اليمني المنهك بالصراعات والحروب، الراهن المفرغ من أن يكون فيه أحدٌ من اليمنيين (واحج)، أو أن يكون لهم فيه (بِلق سمن) يختصمون حوله، إلا إذا كانت دلالة "البلق" قد انتقلت من السمن إلى آبار النفط.
الهوامش:
[1] ) عبد الجليل مرتاض، "دراسات لسانية في الساميات واللهجات العربية القديمة"، دار هوامة، د.ط، الجزائر، 2003م، ص: (163).
[2] ) أحمد شرف الدين، "لهجات اليمن قديمًا وحديثًا"، مطبعة الجبلاوي، د.ط، القاهرة، 1970م، ص: (41،40).
[3] ) مطهر علي الإرياني، "المعجم اليمني (أ) في اللغة والتراث، حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية"، دار الفكر، ط1، دمشق، 1417هـ/ 1996م، ص: (898).
[4] ) نفسه، ص: (899).
[5] ) مجمع اللغة العربية، "المعجم الوسيط"، مكتبة الشروق الدولية، ط4، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص: (70).
[6] ) مطهر علي الإرياني، "المعجم اليمني"، المصدر السابق، ص: (180).