يقودك موضوع التعليم في اليمن، إلى بركان من المآسي والإشكاليات التي لا حصر لها على امتداد البلاد كلها، ففي كل حيز ثمة معضلة، وتحت أية سلطة قائمة يبرز اندثار التعليم وتهاوي مؤسساته، فلم يُضِف الانقسام السياسي الجاري في البلد إلا خرابًا للتعليم ونسفًا لمقوماته وإضعافًا لبنيته وإفراغًا لعناصره، مؤسسات أو أفرادًا؛ ممّا جعل اليمن يقف في أدنى مرتبة في جودة التعليم المدرسي في الوطن العربي، بل خرج عن قائمة التصنيف؛ نظرًا لانعدام مقاييس الجودة وغيابها التام.
فمنذ اندلاع الحرب قبيل عقد من الزمن، تعطل هذا القطاع الحيوي الهامّ، وأوصدت أبوابه، سواء في المناطق القابعة تحت سيطرة الحوثي، التي قطعت مرتبات المعلمين فيها، وخرجت معظم المدارس هناك عن الخدمة، أو في المناطق المحررة التي لا يفرق وضعها كثيرًا عما سبقها، باستثناء أنّ الحكومة الشرعية تصرف مرتبات المعلمين باستمرار، لكن قيمتها السعرية المتدنية جعلتها لا تؤثر في المستوى المعيشي المطحون للمعلم، ولا تؤهله للقيام بمهامه التربوية.
ذيوع التعليم الأهلي
العنوان الأبرز الذي أفرزته الحرب بقطاع التعليم، هو ذيوع المدارس الأهلية وانتشارها الواسع إلى الدرجة التي يطغى وجودها على المدارس الحكومية، وهذا الأمر ينعكس كليًّا على المعلم الذي وجد نفسه فريسة لهذا الوضع الجديد الذي تتزعمه المدارس الأهلية.
في مدينة تعز بمديرياتها الثلاث (المظفر، صالة، القاهرة)، حاولت أن أتناول هذه القضية فيها، وتتبع سلبياتها المنعكسة على المعلم والتعليم. بعض التقارير الإحصائية ذكرت أن عدد المدارس الأهلية في مدينة تعز بلغ (189) في عام 2023، بما نسبته 20% من العدد الكلي للمدارس في تعز، بحسب ما ذكر عبدالجليل هزاع، مدير التعليم الأهلي بمكتب التربية بمدينة تعز.
لكن المفاجأة الغريبة، بحسب بعض الدراسات الأكاديمية، التي أقامت دراساتها على عدد من المدارس الثانوية في المديريات الثلاث (74 مدرسة)، منها 39 حكومية، و35 أهلية، بواقع (2036) مدرسًا في المدارس الحكومية المذكورة، و(535) مدرسًا في المدارس الأهلية ، وهذا الفارق المهول يقودنا إلى المأساة التي يعانيها المعلم في المدارس الأهلية بناءً على هذه الإحصائية.
المدارس الأهلية تذيق المعلمين فيها أصنافًا من العبث والاستغلال والإذلال والاسترخاص باعتباره سلعة وعاملًا رخيصًا، أجبرته الظروف على الوقوع بين يديها، تستغل قيمته وتمتص علمه وتعبث برمزيته.
المعلم سلعة رخيصة
المعلم في اليمن عمومًا، هو الضحية الأولى للحرب، فقد عصفت به بصور عدة؛ سواء ذاك الذي قُطع عنه الراتب، أو ذاك الذي ما زال يستلم مرتبًا لا يعينه مدة أسبوع، أو ذاك الذي لم يكن موظفًا قبل اندلاع الحرب ووجد نفسه عرضة للبطالة، واضطر إلى العمل في الأماكن البديلة، فكانت المدارس الأهلية هي الوحش المفترس الذي ابتلع هذه الشريحة الهامّة -صانعة الأجيال وعمود نهضة المجتمع- في ظل غياب فرص العمل الحكومية أو عجز الراتب الشهري عن توفير حياة كريمة للمعلم؛ فسلّم أمره للمدارس الأهلية، تذيقه أصنافًا من العبث والاستغلال والإذلال والاسترخاص باعتباره سلعة وعاملًا رخيصًا لا حول له ولا قوة، أجبرته الظروف على الوقوع بين يديها، تستغل قيمته وتمتص علمه وتعبث برمزيته منذ اندلاع الحرب وحتى اليوم.
مدينة تعز واحدة من المحافظات القابعة تحت سلطة الحكومة المعترف بها، التي يستلم فيها المعلم راتبًا لا يتجاوز ستين دولارًا، لا يعيل المعلم، فردًا وأسرةً، أسبوعًا واحدًا من الشهر.
كانت المدارس الأهلية في المدينة قبل الحرب قليلة جدًّا، لكنها بعد الحرب طغت على الحكومية بشكل مريع، باعتبارها تجارة رابحة وحاجة ماسة تستقبل الطاقة الطلابية التي عجزت المدارس الحكومية عن استيعابها، فخشية الأُسَر على أبنائها من الإهمال والازدحام في المدارس الحكومية التي فشلت الوزارة ومكتب التربية في المدينة في خلق معالجات لهذه الإشكالية؛ فتحَ شهية أصحاب رأس المال لافتتاح مشاريع مدارس خاصة، في ظل حرص الأُسَر على إلحاق أبنائهم فيها، وبطالة المعلمين في المدينة.
تبدأ المأساة بالأجر البخس الذي يُمنح للمعلم في هذه المدارس، حيث يتفاوت ما بين ثلاثين دولارًا إلى خمسين في أعلى مستوياته، ومن ثم استغلاله في دوام كامل منذ الساعة السابعة صباحًا وحتى الواحدة ظهرًا، ولا يقتصر عمله على التدريس فحسب؛ بل الإشراف وإقامة العديد من الأنشطة، أضف إلى ذلك تحمله فوق طاقته التدريسية، على سبيل المثال؛ أكثر من ثلاثة مناهج، وخمس حصص يوميًّا، دون أدنى تقدير، واعتبار المعلم مجرد خادم للتلميذ وخاضع لإرادته، وأهميته تابعة لأهمية تلاميذه بالنسبة لإدارة المدرسة.
بؤس المعلمات الأفدح
يشكو المعلمون في المدارس الأهلية في تعز، أوضاعهم البائسة وحالاتهم المزرية وضغوطات عملهم المتراكمة ومعاملتهم القاسية من إدارة المدارس التي تستنفد طاقتهم العلمية بلا مردود ماديّ مناسب، وعندما تلتقي أحدهم يسرد على مسامعك حكايات من معاناته وأحداثًا من أرشيفه لدرجة تُشعرك بالقهر من المستوى الذي وصل إليه حال المعلم وحقيقة التعليم في مدينة العلم والثقافة. الأستاذ جميل حسن، يعمل في ثانوية زينب الأهلية- وادي القاضي، فرع البنين وفرع البنات مدرسًا لمادة التربية الإسلامية، يدرس طلاب الثانوية بفصولها الثلاثة في الفرعين، براتب لا يتجاوز (65000) ريال من العملة الجديدة.
أما المعلمات العاملات، في ذات السياق، فمأساتهن أفدح، وبؤسهن أشنع، فراتبهن نصف راتب المعلم، واستغلالهن أفظع، وتكاد أغلب المدارس الأهلية في تعز لا تقبل إلا القليل من المعلمين للحاجة فقط، بينما أغلب كادرها من المعلمات؛ لأنّهن أرخص وأكثر إخلاصًا وأعمق خضوعًا واستجابة لكل تعليمات الإدارات المدرسية التعسفية.
الأستاذة هاجر علي، تقول: "عملتُ مدرِّسة لمادة اللغة الإنجليزية في مدارس الرشاد الأهلية أكثر من عقد، تنقلت من معلمة إلى مشرفة وموجهة للمادة في أكثر من ثلاثة فروع، كنتُ أقوم بدور المدرس والمشرف والموجّه للمادة في آن واحد، مؤدّية دورًا ثلاثيًّا، لدرجة أني كنت أعاني من ضغط شديد في العمل حدّ الاختناق مقابل راتب زهيد لا يضاهي ربع ما أقوم به، ودون أدنى تقدير مادي أو معنوي، حتى وصلت إلى حالة من التعقيد والنفور من المدارس الأهلية التي استنفدت طاقتي وهدرت فيها أجمل سنوات عمري؛ فتركتها وفضّلت المكوث في البيت بعد كدّ وهمّ عشر سنوات أثقلت كاهلي وأنهكت طاقتي بلا مقابل يذكر"، وختمت حديثها بالقول: "المدارس الأهلية تمتص المعلم وتستغل طاقته، وتمارس بحقه أسلوب الاستهلاك الاستغلالي المجاني، حتى لو كنت على قدر كبير من التأهيل والخبرة، ويتساوى في مقياسها المعلم العادي مع المعلم الكفاءة صاحب الخبرة والتمرس، وهي في كل الأحوال لا تهمها الجودة والكيف، وإنما الرخص والكم".
لا أحد يأبه لهذه المعضلة، في ظل تجاهل تام للعواقب الوخيمة التي يمكن أن يجلبها استمرار هذه الإشكالية وأثرها المدمر للتعليم عاجلًا أو آجلًا، ما لم يتم تفادي هذه المأساة قبل فوات الأوان.
توظيف غير المتخصصين
ومن جانب آخر، قال الأستاذ (ص.ح): "كنتُ قد هجرت التدريس فترة، وحين دفعتني الظروف إلى التدريس في مدرسة أهلية لمادة اللغة العربية مع أني أحمل شهادة ماجستير في تخصصي، درّست المادة لطالبات الثانوية، فانصدمت من المستوى التعليمي، ومن تعامل إدارة المدرسة معي، واستغلالها لحاجتي، مع أني قدّمت برنامجًا تأهيليًّا لتدريس المادة بهدف معالجة التدني المعرفي السائد بين الطالبات ونفورهن الصريح من المادة، وتغاضي المدرسة عن معالجة المشكلة وعدم استيعاب الأفكار التي حاولت طرحها، ومحاسبتي على الروتين الاعتيادي المتبع مع بقية كادر المدرسة، فرغم قصر المدة الزمنية لتدريسي فإنّي كرهت التدريس والتخصص، ورثيت جدًّا لمأساة المعلم وواقع التعليم المتفشي في المدارس الأهلية داخل مدينة تعز".
ولأنّ العام الدراسي الجديد 2024/2025، على الأبواب، فالسياق مناسب لسماع وابل من هذه القصص من المعلمين والمعلمات المتقدمين للتدريس في المدارس الأهلية التي تساومهم على راتب زهيد لا يتجاوز ثلاثين دولارًا، رغم أن هذه المدارس تفرض رسومًا باهظة على طلابها؛ بينما نصيب المعلم منها شحيح جدًّا، والأغرب أنّ هذه المدارس توظف معلمين غير متخصصين وليسوا خريجي تربية أو آداب، بل ربما هم خريجو ثانوية أو تخصصات لا علاقة لها بالتربية والتعليم، الأهم موافقتهم على قبول أقل راتب يرفضه التربوي المتخصص.
وعليه سنجد أنه: "لا أحد يأبه لهذه المعضلة؛ لا مكتب التربية بالمحافظة، ولا السلطة المحلية، ولا منظمات المجتمع المدني، ولا الجهات المختصة، في ظلّ تجاهل تامّ للعواقب الوخيمة التي يمكن أن يجلبها استمرار هذه الإشكالية وأثرها المدمر للتعليم عاجلًا أو آجلًا ما لم يتم تفادي هذه المأساة قبل فوات الأوان".