(1)
قيمة النص المسرحي الذي يحمل عنوان "المغترب التائه" (*) للراحل عبدالكريم السوسوة (1950-2002) تكمن في ندرة موضوعه، فلم أجد في مرحلة إعداد وكتابة دراسة "الهجرة والمهاجرون في أدب اليمن المعاصر"، نصًا مسرحيًا يُعنى بموضوع الهجرة اليمنية خلال القرن العشرين. لهذا غدا النص عينة تمثيلية تستوجب مقاربتها في الدراسة التي تُعنى بتعقب "تمثيلات الهجرة وأسبابها في نصوص سردية وشعرية". وقد فرضت طبيعة الدراسة عند الحديث عن هذا النص، تناوله في حدود اقترابه التوثيقي من الموضوع المدروس بشموليته، ولم تركِّز القراءة على جوانبه الفنية والجمالية إلا بما تمليه ضرورة المقاربات النصية ذاتها.
(2)
فكرة النص تقوم على معاينة ورطة أحد المهاجرين اليمنيين العائدين من الحبشة، والذي يقرر العودة إلى أرض الوطن في العام 1985، بعد أن ملَّ وكَرِه الغربة الطويلة. هبوط الطائرة في مطار عدن "ترانزيت" شجعه على الدخول إلى المدينة للتعرف على معالمها باعتبارها جزءًا من وطنه، ومن هنا تبدأ متاعبه الحقيقية مع الأجهزة الأمنية الشطرية وقتها في العاصمتين عدن وصنعاء.
في ردوده على ضابط التحقيق في جهاز أمن الدولة في عدن، والذي سأله عن اسمه وعمره وعنوانه، وعن سبب مجيئه إلى جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية يقول:
"اسمي مثنى مسعد، من قرية المسقاة- ماناش عارف ناحية (السدة أم النادرة) وتركت البلاد وعمري 12 سنة.. أنا جيت من الحبشة لأني كرهت الغربة وبعت دكاني في الحبشة، وقلت أسافر بلدي أعمل لي دكان صغير وأتزوج وأستقر في بلدي، وبعدين وقفت الطائرة في مطار عدن ترانزيت، قلت في نفسي: يا مثنى هذه عدن وهي بلادك وهي جزء من اليمن، ليش ما تزورها؟ نزلت من الطائرة ودخلت عدن عادي محّد كلمني، وبعد ما جلست في عدن أسبوع رحت لا مكتب الطيران من أجل أواصل الرحلة إلى صنعاء. قالوا ما يسمحوا لي بالسفر إلا إذا جبت موافقة من أمن الدولة، سألت أين أمن الدولة؟ دلوني عليكم" (ص 60-61).
سيكون لدى الضابط معلومات عن قيام مثنى، وقت كان بأديس أبابا، بزيارة سفارة الشمال "الجمهورية العربية اليمنية" هناك، ويريد مبررًا لذلك، لكنه لا يقتنع بإجابة مثنى له أنه ذهب لتجديد جوازه المنتهي، ويريده أن يعترف أن حكومة الشمال هي من أرسلته للتجسس على الدولة الاشتراكية!
"يا فندم، أنا كرهت الغربة ولهذا تركت الحبشة لأني حنّيت لبلادي وعدن بلادي.. إيش فيها لو زرتها"؟ (ص61). لكن الضابط لا يقتنع ويبقى مصرًا على معرفة الهدف الخفي من مجيء مثنى إلى عدن، ومتيقنًا أن جهة ما أرسلته للتجسس على دولة الحزب الطليعي:
"يا مثنى أنت عارف أن جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية هي الدولة الاشتراكية الوحيدة في المنطقة، وهذا يثير غضب أصحاب رؤوس الأموال أينما كانوا، لهذا فدولتنا مستهدفة، قل لنا ماهي الدولة التي أرسلتك للتجسس." ص62.
بعد خمس سنوات قضاها مثنى مسجونًا في عدن بتهمة البرجوازية، يصل مطار صنعاء فيأخذون جوازه ويقولون إنهم سيستدعونه للتحقيق فيما بعد، لأنه ربما يكشف عن شخصية جبهوية غير معروفة للأجهزة الأمنية
ويستمر التحقيق على هذا المنوال؛ ضابط التحقيق يريد معرفة الدولة أو الجهة التي أرسلته للتجسس، ومثنى ثابت على موقفه: "يا فندم أنا تعذبت كثير في بلاد الغربة.. ما جمَّعت لي قرشين إلا بعد طلوع الروح وبعدين تركت الحبشة، أشتي أعيش في بلادي معزّز مكرّم، حتى لو أكلت عصيد، لا لي دخل بجاسوسية ولا هم يحزنون". (ص 63).
وحين يتملك اليأس الضابط من تركيب تهمة الجاسوسية، يوجه تهمة جديدة لمثنى، وهي أنه "تاجر برجوازي"، فيظن مثنى أن كلمة "برجوازي" تطلق على نوعٍ محددٍ أو صنف من صنوف الاتجار والتجارة، فقال أنا كنت تاجر ملابس وليس تاجرًا برجوازيًا، فأوضح له الضابط أن "البرجوازي" هو كائن يكره ماركس، ولا علاقة له بصنف محدد من البضائع!
وبعد جلسة تحقيق طويلة تتجلى فيها بساطة وعي مثنى بجملة المصطلحات التي يسوقها الضابط، يخبره الضابط أن المحكمة قد حكمت عليه بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة لأنه "جاسوس وبرجوازي". وفي السجن سيلتقي بسجين من يافع اسمه قاسم، خريج اقتصاد من بولندا، يقول عن سبب سجنه: "طالبت بضرورة وحدة الشمال مع الجنوب، وخلق اقتصاد يعتمد على السوق حتى تتكون طبقة رأسمالية وطبقة عمالية، وبعدين نفكر في إقامة الاشتراكية، فاتهموني أن أفكاري برجوازية وحبسوني." (ص 68)، فيرد عليه مثنى: "رغم انّي مش عارف أيش إيش معنى كلامك، لكن أنا مثلك قالوا إني برجوازي، ومش عارف معنى البرجوازي أصلًا! لكن الظاهر أن البرجوازية "وِدّافة" في هذا البلد" (ص68).
وبذات طريقة ضابط التحقيق الذي أمطر مثنى بجملة مصطلحات لتبرير اعتقاله، يستخدم المسجون قاسم بعض المصطلحات التي هي فوق مدركات مثنى مثل "بُنْيَة" التي يظنها مثنى "امرأة".
وعلى ذلك سيلخِّص حالته بقوله: "ما هو باين أنه وعد دَبُور من يوم خُلقت في هذه البلاد. أولًا إمام حرمني من الدراسة، والحزب الاشتراكي حبسني على البرجوازية، وذلحين قلت لي إن الشمال فيه رشوة" (ص69).
في المشهد الثالث من المسرحية، سيكون مثنى قد وصل مطار صنعاء، بعد خمس سنوات قضاها مسجونًا في عدن. يأخذون جوازه في المطار ويقولون إنهم سيستدعونه للتحقيق فيما بعد، لأنه ربما يكشف عن شخصية جبهوية غير معروفة للأجهزة مادام أنه قادم من عدن. وحتى يخرج من هذا الإشكال، يُطلب منه دفع "حق بن هادي" "(رشوة للضابط)" وحدّدوها بمبلغ خمسة آلاف دولار. "اللي معي في البنك هي خمسة ألف دولار.. يعني أديها لكم ويروح شقا عمري بلاش". "!
بعد هذا المشهد يتشتت النص باستنبات شخصيات عارضة مثل "أحمد" ابن عم مثنى، الذي يصل إلى مسكنه ويحضر في النص بوصفه مناضلًا سياسيًا، ويقول عن نفسه بعد معرفته لقصة مثنى في عدن ومطار صنعاء: "أنا نفسي متهم بالعمالة لدول أجنبية، وتُهمتي أني ضد سلبيات الوضع في الشمال والتطرف في الجنوب".
وبعد وصوله بقليل تداهم المسكن قوة أمنية مكونة من ضابط وجنديين، يحتل حوارهم الكاريكاتوري والتهكمي مع أحمد بقية فضاء النص، دون ذكر للتائه مثنى الذي نهض النص في الأصل كفكرة على معاناته مع العودة إلى أرض الديار.
(3)
فكرة النص وصلت هنا بأكثر من رسالة، منها إدانة أجهزة الأمن باستبدادها جنوبًا، وفسادها شمالًا، وضحيتها هنا مهاجر تائه في وطنه.
مستويا اللغة في النص يعكسان التكوين المعرفي للمهاجر الأمّي الذي يحتكم للغته الشعبية ويؤوّل بها الأشياء بدون تصنع، واللغة التي يستخدمها الضابط والمعتقل قاسم، وهي لغة نخبوية تُفرض عليهما فرضًا:
"أنا آسف يا مثنى، فعلًا أنا كلمتك بمصطلحات نخبوية، لكن هم علمونا هذا الكلام اللي مش وقته.. كلام غير مفهوم، ما يفهموه إلا الناس اللي درسوا، وأنت مسكين حرمتك الظروف من الدراسة" (ص 68-69).
الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون العائدون واحدة من مشكلات الهجرة التي قاربها كتّاب وباحثون يمنيون معاصرون عديدون، ومنهم الدكتور حمود العودي في دراسته "واقع المهاجرين اليمنيين في الداخل بين إيجابية الدور التنموي وسلبية المعاملة السياسية والاقتصادية".
(4)
النص المسرحي "المغترب التائه" تجاور في كتاب واحد مع نص آخر لذات المؤلف عنوانه "راكب الموجة"، فحمل الكتاب التسميتين معًا: "راكب الموجة والمغترب التائه"، وهو الآخر نص يستلهم من التاريخ السياسي والاجتماعي لليمن المعاصر موضوعه الناقد والساخر معًا، وتقوم فكرته على قدرة بعض الاشخاص على تبديل مواقفهم تبعًا لمصالحهم الشخصية. وكان تمثيله لذلك من خلال شخصية حاكم ناحية (قاضي) في إحدى المناطق المتخيلة (خرباش)، الذي يرتكب كل الموبقات، وعلى رأسها إصدار أحكام جائرة وظالمة، لصالح شيخ متنفذ يرشوه بكثير من المال. يحرِّم هذا القاضي العزف والمزمار على العسكر، وهو يمتلك أسطوانة (فونوغراف) ويرقص على إيقاع الأغاني المنبعثة من الجهاز.
يقدم النصان نموذجًا واضحًا لعمل السلطة في ظرفين مختلفين: الأول في عمل الأجهزة الشطرية قبل الوحدة، والثاني: في مفهوم السلطة وتحولاتها بواسطة أشخاص يستطيعون التكيف مع مراحلها المختلفة
يرسل ليلة الثورة ببرقية للإمام تحت توقيع (خادم نعالكم)، يرجوه فيها زيادة مرتبة، وحين تقوم الثورة يعمل الشاوش الخاص به على إقناعه على تأييد الثورة للإبقاء على مصالحه، ويقنعه بارتداء الملابس العصرية،وتأليف قصائد وخطب مؤيدة للثورة في المهرجانات. بعد سنوات -من اللعب على الحبال - يصير وزيرًا، ومستشاره الشاوش (صالح) يصير برتبة عسكرية كبيرة؛ أما الشيخ حسن (ناهب أراضي المواطنين) فيصير أحد الواجهات الاجتماعية في البلاد.
(5)
الرسائل التهكمية الكبيرة التي أوصلها النصان المسرحيان، كانت هي المتكأ الواضح لفعل الكتابة، دون التعويل كثيرًا على تقنية الكتابة المسرحية ولغتها، وألاعيب الزمن الذي يصير في النص سائلًا وغير متماسك، ويطوى بالسنوات دون تبرير جمالي، حتى أن المؤلف ذاته قال في مقدمة كتابه:
"وقد كتبت المسرحيتين متجاهلًا وصف المناظر أو المشاهد، وركزت على ما هو ضروري تاركًا لأي مخرج حرية التصرف، وركزت على تكثيف المضامين بلغة وسط لا هي بالعامية المغرقة في محليتها، ولا هي بالفصحى الواضحة، حتى يتمكن أي مشاهد عربي من فهمها".
قدم النصان المعروضان نموذجًا واضحًا لعمل السلطة في ظرفين مختلفين: الأول في عمل الأجهزة الشطرية قبل الوحدة كما حاول اختزالها نص"المغترب التائه"، والذي يصير في سياق القراءة مأزقًا حقيقيًا في تعاملها التعسفي مع القضايا الحقوقية للمواطنين، من مواقع استعلائية جوفاء تعبر عن فلسفة السلطة زمنيًا؛ والثاني: في مفهوم السلطة وتحولاتها بواسطة أشخاص يستطيعون التكيف مع مراحلها المختلفة، كما حاول عرضه نص "راكب الموجة"، والذي أراد من خلاله الكاتب أن يقول إن جوهر السلطة واحد، حتى وأن تغيرت ألبسة وألسن من يمارسها في مواقعها الفوقية.
______________________________
(*) "راكب الموجة والمغترب التائه" (مسرحيتان)، عبدالكريم عبدالله السوسوة، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، الطبعة الأولى، 2001.