في انشغالي بموضوع الهجرة والمهاجرين في أدب اليمن المعاصر قاربت، بالقراءة، ثلاثة عشر عملًا "سرديًّا وشعريًّا"، قادتني إلى جملة من الاستنتاجات منها:
(1) أن الرواية تشكل القوام الأهم في ذلك الانشغال بنسبة تقترب من 70%؛ لأن "النماذج الروائية من أهم الآداب تعبيرًا عن معاناة المهاجرين ومواقفهم وآرائهم. فكانت الكتابة الروائية وصفًا للذات التاريخية التي يعيشها المهاجر بآمالها وانكساراتها وإحباطاتها"- كما تقول حورية الخمليشي.
ومع تعدد موضوعات الرواية في اليمن، أراد كثير من الأدباء معاينتها في سياق وعي التحول، لكن تبقى الهجرة من بين ما هو مطروح في الحياة الحقيقية، الموضوع الأكثر حضورًا، لأن "الهجرة قضية اليمن قديمًا وحديثًا، قضية يعاني منها كل بيت يمني، وكل أسرة يمنية، خاصة في الريف"، ولعل هذا يفسر واحدًا من الأسباب التي تدفع الروائي إلى الاستمرار في تناوله للموضوع"، حسب ما يذهب إليه عائد خصباك في خصوصية الموضوع في الرواية اليمنية.
الأعمال الروائية المدروسة قدمت صورة بانورامية لشتات المهاجرين اليمنيين في جنوب شرق آسيا "فتاة قاروت"، وأفريقيا "يموتون غرباء"، وأمريكا "رجال الثلج"، وبريطانيا "مجموعة نصوص"، والسعودية "تصحيح وضع"، وتتبعت ترحالات بعض المهاجرين الى أستراليا والكاريبي "طيف ولاية"، وصوَّرت هذه الأعمال أزمنة الهجرة من عشرينيات القرن العشرين إلى آخره.
(2) أظهرت الدراسة مستويات متعددة من الريادة، كان أبرزها الريادة الجمالية في نموذجين: الأول في النص الروائي "يموتون غرباء" لمحمد عبدالولي، والثاني في النص الشعري "الغريب" عند محمد أنعم غالب، وريادة زمنية في رواية "فتاة قاروت" لأحمد عبدالله السقاف، وتأثيرات هذه الأعمال على لاحقيها –في المكتوب السردي والشعري- واضحة، غير أن أشدها وضوحًا كان تأثير نص "الغريب" على نصوص شعرية وسردية أتت بعده. وعن واحد من التأثيرات المباشرة للنص الغريب على غيره من النصوص، يقول الدكتور عبدالرحيم قحطان في كتابه "القصة في القصيدة المعاصرة"، نقلًا عن مقدمة الديوان التي كتبها عمر الجاوي: "جزء من جسد هذا الديوان ذهب في حياة بعض الأدباء وعقلهم الباطن مذهب النموذج الذي احتذى به مطهر الإرياني في أشهر قصيدة له باللهجة العامية "البالة" ومحمد عبدالولي في قصته "الطريق الطويل"، وحتى أحمد الشامي كتب قصيدة هي صورة من الغريب". والقصيدة حسب قحطان هي تلك المعنونة بـ"هارب من اليمن"، ولذلك نجدهما متشابهتين خاصة في التمهيد أو المدخل إلى القصة وهي عبارة عن ستة مقاطع يبدؤها بقوله:
كان يكنى باسمه/ كان يقول إنه من الجنوب أو الشمال/ وتارة من (جنوا)/ وقد يقول إنه من أسمرة/ من أي أرض لا يبالي عنه أن يقال/ وكل ما يخشاه أو يكرهه/ وكل ما يخفيه بأن يقال: إنه من اليمن"(4).
لكل مهاجر في النص الأدبي بالضرورة ماضٍ يضغط عليه في هجرته؛ هذا الماضي يصير ثقيلًا مثل صخرة أسطورية تارة، أو مثل طيفٍ يُراد استعادته في صورة مثال مُدمِّر، أو أحلام تتبخر بعد أن تكون في متناول اليد
(3) أعمال سردية وشعرية يمنية انغمست في موضوع الهجرة و"الاغتراب"، لكنها لم تدخل في المقاربة على أهميتها لأسباب فنية صرفة، ومنها أن النماذج التي خضعت للتحليل لم تشكل سوى النصف مما تم قراءته فعلًا، وأن الإضافة إليها سيشكل تكرارًا غير مبرر، وقد يصير عبئًا فنيًّا على المكتوب. لهذا اكتفيت بما تم التنويه إليه في دراسات ومعاينات نقدية وإحصائية، ومن تلك الأعمال "حصان العربة" لعلي محمد عبده، التي تعاين مجتمع المهاجرين اليمنيين، والكاتب فيها "يحاول أن يبرز روح الأصالة في مجتمع المهاجرين وأن يتحدث عن طموحهم وتحديهم للصعاب، فهو يكتب من روح التعاطف ويبارك جهودهم"، كما يقول د.عبدالحميد إبراهيم. ويضيف: "وله غير حصان العربة رواية "مذكرات عامل"، وتطرق هي الأخرى موضوع هجرة الأطفال، ونبه فيها "إلى مشكلة الأطفال الذين يهاجرون في سن مبكرة، ويتحملون مسؤولية أسر وراءهم، ويتحملون المتاعب الكثيرة وينضجون قبل الأوان".
في رواية "الإبحار على متن حسناء" لحسين سالم باصديق، هناك انشغال بموضوع الهجرة من زاوية ثنائية الريف والمدينة التي تحجب الثنائية الشائعة "الأنا والآخر"؛ فمسعد الريفي، الذي لا يعرف القراءة والكتابة يهاجر إلى إنجلترا ويبقى فيها لعشرين عامًا، قضاها في تجميع الثروة، يعود إلى القرية التي تبدلت تمامًا بفعل "الثورة والجيل الجديد، الذي حمل لواء التغيير على عاتقه، لم تثر عودته موضوع الصراع بين الشرق والغرب. عاد وقد أصبح غنيًّا هكذا، من دون أن تعرف كيف جمع تلك الثروة، لقد عاد وهو يبحث عن مكانة "افتقدها قبل أن يهاجر"، وعندما وجد أن مجتمع القرية مشغول بأشياء أخرى لها علاقة بالتطورات الجديدة، ولم يعد يعنيهم إن كان هو مسعد أم يحمل أي اسم آخر، عاد إلى المهجر". د.عائد خصباك. الأمر كذلك مع رواية "الميناء القديم" لمحمود صغيري، حيث المهاجر البحري القديم الحكاء (علي فيتنو).
في الشعر اضطررت إلى إهمال دراسة بعض نصوص الشاعر حسين أبوبكر المحضار التي انصرفت لمعاينة موضوع الهجرة؛ لأن دراسات أخرى في المشروع قامت على معاينة موضوع الهجرة والاغتراب في الأغنية وتأثير الفن والفنانين اليمنين في بلدان المهجر، وكان للمحضار إسهامه الكبير في هذا المضمار.
(4) الهجرة التي كانت حلًّا لليمنيين الذين تركوا وطنهم لأسباب متعددة، كما حاولنا إظهار ذلك في مواضع مختلفة في هذه الدراسة، صارت في ذات الوقت فعلًا مدانًا من داخلها. أما الصوت الذي امتلك الجرأة في إدانتها متعدد ومتنوع. صحيح أنه صوت مستنبت في حدود التخييل الأدبي، وأعادت مخيلات الكتاب هندسته ليؤدي دوره الاحتجاجي بمشغلات أيديولوجية وثقافية متباينة، لكنه بالتأكيد تظهَّر كسمة من سمات الهجرة نفسها وإفرازاتها.
(5) لكل مهاجر في النص الأدبي بالضرورة ماضٍ يضغط عليه في هجرته؛ هذا الماضي يصير ثقيلًا مثل صخرة أسطورية تارة، أو مثل طيفٍ يُراد استعادته في صورة مثال مُدمِّر، أو أحلام تتبخر بعد أن تكون في متناول اليد، وكل هذا الماضي في تحققاته المتعددة يصير حملًا ثقيلًا على ظهور حامليه من المهاجرين الأشقياء.
الأنموذج الأول، يمكن تمثيله بعقدة اللون وماضي العبودية عند "سالمين" في رواية "عمار باطويل"، التي تحمل ذات الاسم. فهذا المهاجر يجد نفسه عبدًا أسود لا يعرف عن أبويه شيئًا، وبعد سنين طويلة يعرف من ابن مالكه أن والده اشتراه من أحد أسواق وادي حجر مقابل ثور.
النموذج الثاني، ما يمثله ناجي في رواية "طيف ولاية" حين ظل يطارد طيف أول امرأة تعلق بها، وهي ابنة بائعة الخبز في مدينة تعز التي كانت تكبره بسنوات، فحاول إيجاد مثالها، المنقوش في وعيه الباطن، في النساء الكثيرات اللواتي تزوجهن في المرافئ والمدن العديدة التي هاجر اليها. "ينجح في تكوين ثروة صغيرة، لكنه يفشل في إيجاد حياة جديدة مستقرة، فقد ظل طيف "ولاية" يطارده خلال رحلته الطويلة، وظل شيءٌ بداخله ينمو مع مرور الأيام، وكلما طالت غربته نما بداخله ذلك الإحساس تجاه الفتاة، وغدا أشبه بتعلق بصورة مثالية للمرأة، بحيث امتزجت فيه صورة الحبيبة بصورة الأم، حتى تحول إلى نقطة ضعفه الوحيدة. كان ينجذب إلى من كانت تكبره سنًّا، يدفعه في ذلك حبه الشديد لتلك الفتاة في محاولة منه لتحقيق رغبة عجز عن تحقيقها في الواقع"- كما يقول د.عبدالحكيم باقيس، لينتهي به المطاف إلى الزواج من فتاة إنجليزية في مدينة ليفربول تدعى "إميللي"، التي تستغل أمّيته، وحبه الجارف لها، كونها الأكثر شبهًا بـ"ولاية"، لتجرده من كل ما يملك.
في النص القصصي "بعد الشمس بخمس" لزيد مطيع دماج، يتظهر المهاجر في واحدة من مزاولاته الكثيرة بكونه تاجر سلاح
النموذج الثالث، يُختزل في دافع عبده سعيد في رواية "يموتون غرباء" إلى الهجرة، وهو بناء مسكن جميل وتجميع قليل من الثروة، وحين تتحقق هذه الأمنيات من شقائه في الهجرة، لا يستطيع أن ينعم بها بسبب موته اختناقًا داخل دكانته البائسة في أحد أحياء أديس أبابا، في دلالة اختزلها وهب رومية بقوله إن "الهجرة بدلًا عن ذلك ستسرِّع من إنضاج بذور التدمير والفناء داخل نفسها".
(6) التفتت بعض الأعمال السردية اليمنية التي عُنيت بالهجرة إلى معضلة اجتماعية كانت سائدة حتى الستينيات من القرن العشرين، وهي مشكلة العبودية الصريحة في معظم مناطق اليمن، لتنحصر بعد ذلك، وإلى وقت قريب، في مناطق هامشية في حجة وتهامة، وإن عملين من جملة الأعمال المدروسة قاربت المشكلة في حالتين؛ الأولى رواية "سالمين" للكاتب عمار باطويل، وتتبع فيها حالة المسترق القديم الذي انتقل مع مالكه إلى مدينة جدة بعد النصف الثاني من الأربعينيات، ورصد كل التغيرات التي طرأت على طريقة تفكيره وحياته في المجتمع الجديد، والثانية رواية "قرية البتول" للكاتب محمد حنيبر، وفيها أفرد مساحة لتقوّلات حكمية المسترق مبروك، المملوك لتاجر حضرمي في بورتسودان.
"أصحاب الكلمة الماضية في هذه الحياة هم أصحاب المال، أمثال سيدي. أما أمثالك من الناس البسطاء فأوضاعكم لا تختلف عنا كثيرًا، فجميعنا مسخرون لأصحاب الكلمة الماضية. والفرق بيننا وبينكم، أننا كعبيد نباع ونشترى بصورة مباشرة، أما أنتم فتبتاعون وتشترون بصورة غير مباشرة تحت وطأة الحاجة".
(7) هناك وظيفة حساسة جدًّا زاولتها الشخصيات الأدبية في النصوص، وهي مهنة المحارب الشجاع، والتي بدأت أولى تعييناتها في نص "الغريب" لمحمد أنعم غالب، والذي صار ثيمة في عديد نصوص تالية؛ فعند محمد عبدالولي سيتجلى في شخصية محمد مقبل المهاجر القديم في رواية "صنعاء مدينة مفتوحة"، الذي يعمل في أكثر المهن ومنها مهنة المحارب، ويطوف الكثير من البلدان، غير أن حنينه يظل مرتبطًا بموطنه. وعند محمد مثنى في نص "ربيع الجبال" بامتهان حزام سيف طربوش "أبو عزيز" لمهنة الحرب أولًا ضمن قوات المحور، وتاليًا مع قوات الحلفاء، وعند عبدالناصر مجلي في رواية "رجال الثلج"، حين يقول عن مثنى: "وحين وصل ليفربول كانت حرب كبيرة قد اندلعت، وقد استدعوه ضمن بحارة المركب للتطوع في الحرب ففعل، وحارب إلى جانب البريطانيين لمدة أربعة أعوام، وبعد الحرب ذهب إلى ألمانيا التي عمل فيها كل الأعمال".
في النص القصصي "بعد الشمس بخمس" لزيد مطيع دماج، يتظهر المهاجر في واحدة من مزاولاته الكثيرة بكونه تاجر سلاح، "فبين أزيز صفارات الإنذار ودوي القنابل، وأضواء الكاشفات، والمناطيد المعلقة والخراب والدمار في كل مكان، جرَّب حظه في تجارة جديدة، تجارة الأسلحة، إلى أمريكا اللاتينية وإلى الشرق الأوسط والأدنى والأقصى. ونجح وتسلطن كتاجر أسلحة. انتهت الحرب وقد أصبح ثريًّا".