استوقفني قول الفنان الراحل محمد مرشد ناجي: "الغناء والشعر يؤلفان وحدة متكاملة من حيث أنهما يشكلان مفهومًا واحدًا، على اعتبار أن العرب في العصور القديمة وحتى العصر الأموي، كانوا يطلقون لقب الشاعر على المُغنِّي، ويطلقون لقب المُغنِّي على الشاعر"(1)، وخطر على بالي، وأنا أحضِّر لهذه المادة، أن يكون هذا المتجزأ النصِّي مدخلًا لمقاربة موضوع ظاهرة المطربين الشعراء في تاريخ الأغنية اليمنية المعاصرة، إلى جانب الشعراء الملحنين والمتاح، في هذا التتبع، عدة نماذج لمعاينة هذه الظاهرة، التي يمكن أن تصير تمثيلات جغرافية وخصوصيات ثقافية مكتملة تُحيل في المجمل إلى تعدد وثراء ثقافي يتمتع بها اليمن.
في البداية، سنتوقف عند الجزئية الثانية المتصلة بالشعراء الملحنين من منطلق أنّ هذه الظاهرة تشير للأولى وتتكامل معها، وإنّ شعراء أغنية معروفين زاولوا التلحين بشكل غير احترافي ومعلن، وحال بينهم وبين أداء نصوصهم مغناة بأصواتهم صعوباتٌ فنية بدرجة رئيسية، مثل رداءة الصوت والحماس، وبدرجة أقل مصدَّات اجتماعية وثقافية تتصل بالعيب والمكانة؛ ومن هؤلاء الشاعر الراحل الأمير أحمد فضل العبدلي (القمندان) الذي تعلم [في شبابه] العزف على العود وأجاد في عزف الأغاني الصنعانية والمحلية، فوجد في الأغنية المحلية [اللحجية] حلاوة وطراوة، وبحسه الفني المرهف أدرك من حداثته أنه أمام فنّ أصيل، حرام أن لا يعيش وينتشر، فجنّد نفسه من ذلك الحين للعمل على جمع التراث القديم لحفظه وتأصيله. ومن هذه الثروة الغنائية العظيمة أخذ يصوغ ألحانه العذبة التي فيها عبق التراث القديم وإبهار الفن الجديد الذي كان رائده ومُنشِئه"(2).
الفنان محمد سعد عبدالله شكّل حالة استثنائية في المدونة الموسيقية اليمنية، شعرًا وتلحينًا وغناءً متنوعًا، وهو تقريبًا ثاني اثنين أدّى أغانيه بجميع ألوان الغناء في اليمن بعد الفنان محمد مرشد ناجي، لكنه تميز عن المرشدي بأنه كتب كلمات الكثير من أغانيه التي صارت مع الوقت عنوانًا بارزًا في تاريخ الطرب اليمني المعاصر
حسين أبوبكر المحضار الذي شكّل ثنائيًّا ملهمًا مع الفنان الراحل أبوبكر سالم بلفقيه وجعلا من اللون الحضرمي الجديد يتمدد في ثنايا خارطة الاستماع داخل اليمن وخارجها، وإنّ معظم الأغاني التي أدّاها أبوبكر وكتب كلماتها المحضار هي من ألحان الأخير، ويروى عنه أنّ البُنى الإيقاعية والجُمل اللحنية كان يصيغها في تمثيلاتها الصوتية على أدوات يستخدمها مشاعة في معاشه اليومي، مثل (الصحون وصناديق الكبريت الورقية)، وشكّلت في مجملها مفاتيح مهمة للفنان للتركيم عليها موسيقيًّا بواسطة آلات حديثة مع تدخلات صغيرة لخدمة النص المُغنَّى.
المحضار "شاعرٌ وملحنٌ في آن، ومعلوم أنّ للتلحين يدًا في تشكيل الشعر عند شعراء العامية في حضرموت، فبه يضبطون أوزانه، ويشكّلون أبياته وأغصانه، وإذا كان ذلك حال شعراء العامية عامة، وليس جلهم ملحنين، فما بالك بحال المحضار وهو الملحن الشاعر والشاعر الملحن؟"(3).
الشاعر والملحن عبدالله هادي سبيت استطاع أن يضيف إلى التجربة القُمندانية الشيء الكثير، وكان لنهضة لحج الثقافية في فترة صديقه السلطان المتنور علي عبدالكريم العبدلي في سنوات الخمسينيات أثرها في إثراء تجربته الشعرية واللحنية التي خرجت من أفقها اللحجي إلى فضائها اليمني عبر عدن وفنانيها الكبار.
"عشرات الأغاني اللحجية التي أبدعها كلماتٍ وألحانًا تجاوزت شهرتها الحدود الجغرافية لليمن، لتصل إلى المتلقي العربي، إما بأصوات يمنية أو عربية، فقد ترنم بأغانيه وألحانه عدد كبير من الفنانين والمطربين، ومنهم (فضل محمد اللحجي محمد صالح حمدون، محمد مرشد ناجي، محمد سعد عبدالله، فيصل علوي، إسكندر ثابت، أيوب طارش، طلال مداح أحمد فتحي وسعودي أحمد صالح، وأحمد يوسف الزبيدي"(4).
الشاعر لطفي جعفر أمان كان صاحب اهتمامات موسيقية رفيعة، وكان يعزف على العود بمهارة فائقة، وإن كثيرًا من نصوصه الغنائية التي وجدت طريقها إلى حناجر المطربين الكبار (المرشدي وقاسم على سبيل المثال) كان يقدم معها اقتراحات لحنية، يرى أنّ فيها القدرة على تمثيل روح النصوص، أنه قدّم لحنًا شبه مكتمل لأغنية فتحية الصغيرة (نهايته أيش نهاية حبنا الغالي) التي كتب كلماتها، حسب توكيد نجله جهاد.
والأمر ذاته ينطبق على الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول)، والذي يقال إن الكثير من أغانيه التي أدّاها الفنان أيوب طارش كان يتدخل وبوعي نافذ إلى بعض سياقات جملها اللحنية، ويروى أنه كان يدندن ويعزف من وقت إلى آخر، حسب روايات قريبين وأصدقاء.
(**)
الخلفية الثقافية والاجتماعية التي جاء منها الفنان أبوبكر سالم بلفقيه (1939-2017) ساهمت في تكوينه الشعري، و"تعود نشأة أبوبكر الغنائية إلى تريم- حضرموت، حيث ترعرع في بيئة دينية صوفية. وهو ينتمي من جهة الأب إلى آل بلفقيه ومن جهة الأم إلى آل الكاف، وكلاهما أسرتان من فروع آل باعلوي. تشرَّب أبوبكر في هذه البيئة الشعر والروحانيات ومارس في حضراتها وموالدها أداء الأناشيد والتواشيح الدينية"(5).
وإن استقراره اللاحق كطالب في مدينة عدن أواسط الخمسينيات وعمله تاليًا مدرِّسًا للغة العربية في واحدة من مدارسها في أوج ازدهار المدينة ثقافيًّا وتجاريًّا وانعكاس ذلك على التطور الموسيقي ساعده كثيرًا في كتابة العديد من النصوص الغنائية في فترة تكوينه الفني الباكر برفقة أساتذة الندوة الموسيقية العدنية والفنان المرشدي، الذي قدمه أول مرة في إحدى حفلاته على مسرح البادري، وتاليًا في حفل الإذاعة.
في المرحلة العدنية الباكرة، كتب نصوصًا خفيفة تتلاءم مع موجة التلحين والتلقي الشعبي، مثل قصيدة "يا ورد محلى جمالك بين الورود/ يا غصن ما أحلى قوامك لما تنود/ قلبي عليك ولهان، عقلي وراك حيران، الذين ذا كله ولا مرَّة تجود".
وقصيدة "أنت يا حلوه يا ما احلى جمالك/ ومحلى العيون الكحيلة والشفاه السمر/ ياما احلى دلالك وما احلى قوامك/ ويا ما احلى الورود الحمر".
في الفترة البيروتية الأولى في منتصف الستينيات، كتب ولحّن وغنّى العديد من النصوص التي قربته أكثر من المستمع العربي، ومنها "من نظرتك يا زين ذقت الهوى مرة/ وكم يقولوا الناس الحب من نظرة/ لكن طبعك شين وعشرتك مُرَّة/ هذا اللي خلاني أنساك بالمرة"، إلى جانب قصيدة "أربعة وعشرين ساعة"، و"تسلى يا قليبي".
في استقراره الأول في السعودية منتصف السبعينيات، غنّى من كلماته وألحانه أغنية "يا مسافر على الطائف طريق الهدا/ شوف قلبي من البارح معاك ماهدا/ كيف يهدأ وأنت اللي هويته/ وأنت أجمل وأجمل من رأيته".
في مشواره الفني الممتد لستين عامًا، كتب ولحن وعنى عشرات النصوص التي لم تبارح آذان مستمعي وعاشقي فنه المختلف، ومنها: "تسلّى يا قليبي، ما علينا يا حبيبي، حبيتك أنت، بدري عليك الهوى، مرحيب، ما تستاهلش الحب، خاف ربك، حيا زمن أول، نار الشوق"، وتبقى قصيدة "أمي اليمن" واحدة من أغانيه الخالدة.
الفنان محمد سعد عبدالله شكّل حالة استثنائية في المدونة الموسيقية اليمنية، شعرًا وتلحينًا وغناءً متنوعًا، وهو تقريبًا ثاني اثنين أدّى أغانيه بجميع ألوان الغناء في اليمن (الصنعاني، اللحجي، الحضرمي، اليافعي، العدني) بعد الفنان محمد مرشد ناجي، لكنه تميز عن المرشدي بأنه كتب كلمات الكثير من أغانيه التي صارت مع الوقت عنوانًا بارزًا في تاريخ الطرب اليمني المعاصر.
وقد "نجح فـي تـحـقـيق حـالـة (التماس والتـوحـد) الفني/ الثقافي/ الوطني/ الاجتماعي/ الفكري والإبداعي مع مختلف شرائح وفـئات وطبقات الشعب اليمني، فـترجم ذلك أشعارًا وألحانًا مضمَّخة بأسمى وأعظم المشاعر والأحاسيس الإنسانية النابضة والعميقة التي قدمها خلال مشواره الفني الزاخر والحافل والمتجدد فأمتع وأسعد عشاق فنه ومحبيه من المستمعين المتذوقين للغناء والطرب الراقي والأصيل في داخل الوطن وخارجه"(6).
ومن أغانيه الرائجة التي كتبها ولحّنها وأدّاها أيضًا "مد لي يا زين يدك/ وانا با مد لك يازين يدي/ ضاع عمرك وأنت وحدك/ وانتهى عمري وأنا عايش لوحدي"، وأغنية "محل ما يعجبك روح ومسكنك داخل الروح، با تعذب على شانك وباقول مسموح/ باصبر عامجونك.. لاجل خاطر عيونك/ بايتمي فؤادي لك مدى العمر مفتوح"، وأغنية "خلاص حسك تقلي روح.. راعي لي وباجيلك/ أنا مليت وما عاد فيش معيَّا قلب فاضي لك/ كفاية شوف لك غيري تُغني له مواويلك"، وأغنية "كلمة ولو جبر خاطر وإلّا سلام من بعيد/ وإلاَّ رسالة يا هاجر بيد ساعي البريد".
الفنان الشاعر علي عبدالله السمة هو النموذج الأكثر كفاحًا في بناء تجربته الغنائية واللحنية التي قامت على قصائده وقصائد الشعراء الآخرين، فإذا كان أبوبكر سالم قد جاء من خلفية ثقافية ساعدته في إبراز صوته وطاقاته الغنائية -الإنشاد الصوفي في مدينة تريم التي وُلد وترعرع فيها- وإن مدينة عدن في أوج نشاطها الموسيقي فتحت ذراعيها لمواهب ابن سعد المتعددة، فإن مدينة مغلقة مثل صنعاء التي وُلد فيها علي السمة في العام 1935م، و(قُتل) فيها في العام 1984م، لم تمنحه سوى الشقاء والبؤس، ومع ذلك دخل بتحدٍّ كبير مع الذات لصناعة اسمه كفنان مُجدِّد، بدأ حياته كسائق لسيارات نقل البضائع مثل والده، لكن عصاميته ووعيه وحسه السياسي العالي قاده ليكون أحد مجددي الأغنية التراثية.
من أغانيه المعروفة والتي كتب كلماتها "الفراق عند الأحبة سم قاتل/ وعلاجه غير موجود في الصيادل/ ها أنا لي خل هو بالوصل باخل/ قد ترك دمعي على الخد سائل"، وأغنية "أنت المنى والحياة وأنت نور العين/ وأنت دنيا الهوى والأنس والراحة/ إن غبت يا هاجري عن ناظري يومين/ بقيت هايم عليك والعين سباحة"، وأغنية "دعوني دعوني في الهوى أشكو عذابي دعوني/ في الهدا زادت شجوني ويا ويل من ذاق الفراق".
إلى جانب هؤلاء، تحضر أسماء مطربين معرفين كتبوا ولحّنوا وغنّوا نصوصهم المكتوبة، مثل الفنان علي بن علي الآنسي الذي تشير بعض التراجم، ومنها موسوعة شعر الغناء اليمني، إلى قيامه بتأليف مجموعة من النصوص الغنائية، منها رائعته "ليلك الليل يا ليل/ ليل كلن تروح/ ليل وانا مكاني".
والفنان إسكندر ثابت الذي تنسب إليه العديد من النصوص التي لحّنها وغنَّاها منها كلمات أغنية "يا طالعين جبل صبر بلغوا مني السلام/ على الحبيب حينما يمر حلوه عيونه والقوام/ واندهوا له وابصروا عسى يكون منه كلام"(*).
_____________________________
(1) محمد مرشد ناجي، الغناء اليمني القديم ومشاهيره دار الهمداني عدن- 1983م، ص 16.
(3) شعر المحضار النشيد والفن، د.عبدالله حسين البار، كتب وزارة الثقافة المكلا، 2011، ص 140.
(4) محمد سلطان اليوسفي، عبدالله هادي سبيت، رقةُ الفنان وعبقريةُ الشاعر، بيس هورايزونس الإخباري 13 ديسمبر، 2019.
(5) جمال حسن، البدلة والعقال المسيرة الغنائية للفنان أبوبكر سالم، العربي الجديد 22 فبراير 2019م.
(6) عصام خليدي، 20 عامًا على رحيل الفنان الكبير محمد سعد عبدالله، عدن الغد 16 أبريل 2022.
(*) النصوص الشعرية من (موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين)، الطبعة الأولى 2005، دائرة التوجيه المعنوي.