لم يكن الحفل الأوركسترالي الذي قاده المؤلف الموسيقي الشاب محمد القحوم على مسرح موغادور (Rue de Mogador) العريق في العاصمة باريس، هو الأول له وللتراث الموسيقيّ اليمنيّ، فقد سبق أن قاد عازفون وفنّانون يمنيون وعرب وأجانب، تقديم سمفونيات تراثية يمنية بقوالب عصرية في حفلين سابقين: الأول في دار الأوبرا بالعاصمة الماليزية كوالالمبور في العام 2019، والثاني بدار الأوبرا في العاصمة المصرية القاهرة العام الماضي 2022، غير أنّ هذا الحفل الذي نظم مساء الإثنين 2 أكتوبر بمشاركة 70 عازفًا وعازفة يمنيين وعربًا وفرنسيين، هو الأكثر متابعة وتفاعلًا وتميزًا.
اليمن المتنوع
(نغم يمني في باريس) كان عنوانًا لتقديم اليمن عبر مساهمات متنوعة ممن جالوا بأصواتهم ومعزوفاتهم الفنية، مثل عازف العُود (هيثم الحضرمي)، وعازف الناي (لطفي محيور)، والمختص بأداء (المزمار) عبدالله جمعان، وضابط الإيقاع (محمد القعطبي)، والتونسية (فرح فارسي) عازفة القانون التي أضافت بخبراتها معزوفات فائقة الجمال والأداء، وبحضور لافت مع فريق فرنسا المحترف موسيقيًّا قُدّمت عشر مقطوعات، كان أولها لأغنية "حيا الله من جانا" بترديد الكورال، تبعها "عودة مشتاق" تم غناؤها مع الكورال، "ويحيى عمر قال قف يا زين" التي أبدع في غنائها رمزي محمد حسين، والمقطوعة الرابعة الكاسر أو المهرية بوابة الشرق التي كانت مع الكورال فقط، تلاها أغانٍ باللونين التهامي واللحجي قدّمهما الفنان عبود خواجة، ليتبعه الفنان خالد الصنعاني بتقديمه ملالاة تعزية، ثم بلبلة صنعانية غناها حسين محب، وقدّم المقطوعة الثامنة "بحر الغريب" جاسم خيرات، والتاسعة قدّمها كلٌّ من إيمان شاهد وسالم عوض، اللذَين قدّما الأغنية الفرنسية، وكانت أكثر حفاوة واستقبالًا من قبل الجمهور، وقدم المقطوعة العاشرة والأخيرة عبود خواجة من اللون اللحجي وهي أغنية "وعلم حنا وعلم حنا".
سجّل الحفل حضورًا بارزًا للصوت القادم من البحر، عازف السمسمية الصولو (جاسم نصر)، ومجموعة الإيقاعيين: علي أمان، وأحمد عليوة، وخالد بابراية، وجميل المسوري، الذي تقدمه فريق (كورال) من المغرب، بقيادة المايسترو عبدالرحمن كازول والفنان اليمني حميد الضماري بن صالح، وأمين ناصر، فاتحة الحسني، ونعمة مصباحي، وفاطمة الغولي، وفاطمة شبيبان، ومصطفى الدركاوي، ونبيلة بوراس، ونجلاء جبور، ونجوى قصيفي، وصالح الحسومي، وعمر الركيبي، وإلهام بنهارتس، وكذلك فريق YOUR ECHO.
لم يكن مجرد حفل
مدير فريق الكورال الذي قدّم الخدمات اللوجستية كاملةً للفرقة، عبدالسلام السودي، قال في حديثه لـ"خيوط" عن خطة سير العمل قبل العرض:
"لقد تابعت كل تفاصيل البروفات، وكان لي الفخر كجزء من هذه المجموعة المتفردة بالفن والمتشبعة بالمهنية العالية، والجودة الفنية الأوركسترالية المتميزة، فلم يكن مجرد حفل عادي، أو سهرة عابرة"، معتبرًا إياها بأنها ليلة من أيام ألف ليلة وليلة، جمعت اليمن كلها بمكان واحد بعد فرقة وشتات كبير، متجاوزة السعة المخصصة للحاضرين من يمنيين وعرب إضافةً لفرنسيين، إذ كانت الجماهير قد تعدت الطاقة الاستيعابية لمسرح موغادور التي تسع بكفاية 1600 شخص.
عن المايسترو القحوم، يقول السودي، لـ"خيوط":
"القحوم مجدد فني وشغوف، فقد حفظ لليمن تراثها وأدخل ألوان المشرق والمغرب كنوع من التجديد، فضلًا عن جرأته في براءة اختراع جديدة، أسماها المتخصصون (الدان الفرنسي)، مقطوعة الدان الفرنسي التي دمجت في الأغنية الفرنسية الشهيرة: لست نادمًا Non, je ne regrette rien، بأداء الرائعة من الجزائر الشقيق إيمان شاهد، والفنان الحضرمي عمر باعوضان، لاقت اندهاش الحضور لطريقة الدمج العبقرية".
"كيف استطاع هذا الشاب والمايسترو البارع التغلب على كل أشكال التفرقة والاختلاف؟! فقد فعل ما لم تفعله السياسة البغيضة، فموسيقاه فاقت جميع السياسيين الذين حضروا في المقاعد الأولى للمسرح العالمي موغادور في قلب العاصمة باريس".
مضيفًا: "محمد القحوم المسكون بهذا الفن الرفيع، والموهبة الفريدة مكّنته من جمع الشمال بالجنوب، العمراني مع الحضرمي واللحجي مع المهري والتهامي مع العدني، لم يفرق بين أحد، كان الفيصل دائمًا في أي خلاف، ويكفي أنه أخرجنا من زمن الحرب إلى زمن السلام والحب".
لا يمكن أن يكون إلا يمنيًّا
إلى جانبه، علّق السفير المصري بباريس، الدكتور علاء ثابت، قائلًا باللهجة المصرية: "أنتو مخبيين الحلاوة دي كلها فين؟! التنوع الثقافي اليمني أبهرنا"، ومعه أكدت الأستاذة لمى الأتاسي، رئيسة البيت السوري، قائلةً: "هذا الإبداع لا يمكن إلا أن يكون يمنيًّا".
كما أطلقت الصحفية الفرنسية ألينا فرانسو اسم (الدان الفرنسي) في إشارة منها للدمج الذي تم بين الفن الفرنسي والدان الحضرمي.
من جهته، قال الناقد الأدبي والباحث في التراث السوري، عادل الفريجات:
"ترى هل يكون هؤلاء الشباب اليمنيون المشاركون في أغانٍ يمنية، هم أحفاد لأحفاد جدودنا القادمين من (ماء غسان) في اليمن".
ويضيف فريجات في خانة ذكراه كمتفرج في مسرح موغادور ملاحظات مهمة، قائلًا:
"لفت انتباهي امتلاء مقاعد المدرج تمامًا، وهو مدرج يكاد يكون شبيهًا بمدرج مكتبة الأسد بدمشق، من حيث السعة والتشكيل الهندسي، وكانت في خلفية الحفل صور متحركة لجمال تمر من بعيد، وهذه الإبل ذكرتني بأيام الحصاد في قريتي (خبب) بحوران".
حفلٌ أعدّ لتقديم وإحياء التراث اليمني وتجديده، ليواكب العصر، وقدّمت فيه ألوان من تراث مناطق اليمن بقالبٍ سيمفوني جمع أيضًا بين رقصات وألحان متعددة، حيث اعتنت مجموعة الموسيقيين بمعزوفاتهم السيمفونية، فظهرت بشكلٍ متساوٍ في لمسة وملمح ثقافة المكان الذي نبتت فيه واكتسبت إيقاعه وملابسه.
ارستقراطية وتهميش
شادي جعفر، وهو أحد الحاضرين في الحفل، سجّل انطباعًا مغايرًا بقوله:
"كان الأحرى بالحفل أن يقام في مكان مفتوح والدعوة عامة؛ لضمان حضور واسع من الفرنسيين، وليس في مسرح أرستقراطي لا يتسع إلا لعدد محدود من الناس"، وأشار إلى "غياب المغنيات اليمنيات، فجميع المغنين كانوا ذكورًا، الأمر الذي أعدّه تهميشًا واضحًا للمرأة اليمنية".
حفلٌ أعدّ لتقديم وإحياء التراث اليمني وتجديده، ليواكب العصر، وقدّمت فيه ألوان من تراث مناطق اليمن بقالبٍ سيمفونيّ جمع أيضًا بين رقصات وألحان متعددة، حيث اعتنت مجموعة الموسيقيين بمعزوفاتهم السيمفونية، فظهرت بشكلٍ متساوٍ في لمسة وملمح ثقافة المكان الذي نبتت فيه واكتسبت إيقاعه وملابسه.
بحماس الفنّان المتقد، يتقدم الشاب محمد القحوم في كل مرة على خشبة مسرح عالمي، فيفاجئنا بقدرته على المزج والتجديد بين الآلات ومختلف الألحان وكلمات الأغاني، وهو ما يدل على تنوع مخزون اليمن الفني والتراثي، القادر على إحداث نقلة تستوعب تقارب بقية الغنائيات الشرقية والعربية والعالمية التي تقف جميعها تحت مظلة واحدة، فالموسيقى في العالم لها لغة واحدة.
دمج بين الشرق والغرب
يقول مدير العلاقات العامة لشركة المغترب الفضائية، الفنان حميد الضماري، لـ"خيوط":
"بدأنا العمل بإيجاد الكورال، بالتنسيق مع فرقة تخت التراث المغربي، كون هذه الأخيرة لديها الخبرة في المسارح، ولدى أعضائها مقطوعات كثيرة، أمّا أول بروفة فكانت في السفارة اليمنية للكورال وللعازفين، وواجهنا فيها بعض الصعوبات في اللكنة عند بعض الأعضاء، لكننا استطعنا تجاوزها، لهذا كان الحفل يمنيًّا وأوصل رسالة مفادها أنه يمكن وبواسطة الفن تبديد صورة البلد العالق في الفوضى والحروب من أذهان الآخرين".
حفل باريس دمج بين الآلات الشرقية مع الأوروبية (الغربية)، والتي كانت في المقطوعة التاسعة، قدّمها كلٌّ من الفنانة إيمان شاهد وسالم باعوض، وتم فيها المزج بين الفرنسي والدان اليمني، فقد استطاعت الفرقة أن تعزفها كسيمفونية واحدة، أُدخلت فيها كلمات فرنسية، وأغانٍ عُزفت بالإيقاعات اليمنية.
(المرهقون) عنوان آخر
تلا الحفل الأوركسترالي الذي قدم عشر مقطوعات موسيقية في الثاني من شهر أكتوبر، حفلًا يمنيًّا آخر، عرض خلاله في صالة السينما بمعهد العالم العربي فيلم (المرهقون)، من تأليف وإخراج: عمرو جمال، وتمثيل: خالد حمدان، وعبير محمد، وسماح العمراني، وإسلام سليم، ورؤى الهمشري، وعمر إلياس.
فيلم «المرهقون» حقّق نجاحًا لافتًا بعد ترجمته في عام 2023، ما جعله يحظى برواج كبير، وهو الأمر الذي استدعى ترشيحه لعدة جوائز، فقد نال منذ عرضه جائزتين في مهرجان فالنسيا الدولي في دورته الـ38، بالإضافة إلى فوزه بجائزة دربان السينمائي، كما أنه رشح لجوائز عالمية معروفة.