"خُلقَت مريضة، وتعيش مُعاقة في مكانها إلى اليوم". بمفردات مليئة بالحزن وصف والد ندى، البدايات الأولى للمرض الذي أصاب ابنته. كل مفردة هي أشد وجعًا من سابقتها، فالمضاعفات التي مرّت بها المُصابة ليست سهلة على قلب والديها اللذَين أدمنا المعاناة، كما يقول.
ندى عرفات، تعيش عامها الخامس في مواجهة مع ضمور بالدماغ وثقب في القلب، جعلاها مُقعدة على الفراش منذ لحظة ولادتها. لقد تحوّلت حياتها وحياة أسرتها إلى جحيم، ناهيك عن الأمراض التي ظهرت وتظهر مع تقادم الأيام، معاناة دائمة تكبر مع كل يوم جديد من عمر الطفلة المحكومة بالمرض.
يقول عرفات العبيدي، والد الطفلة لـ"خيوط": "ولدتْ ندى بوجه أزرق. أول ثلاثة أيام كانت تصيح، لا ترقد ولا تهجع. أسعفتها للمستشفى السويدي، قرروا لها رقود شهر في الحضّانة وبدأت تتحسن، فأخذتها إلى البيت، لكن ظهر عندها مرض جديد: نقص دم". على إثر ظهور هذا المرض، نقل عرفات ابنته إلى ثلاثة مستشفيات في مدينة تعز، لكن الأطباء في المستشفيات الثلاثة لم يتوصلوا لتشخيص نهائي، فاضطر لتزويد طفلته بالدم كل أسبوع.
يضيف العبيدي: "بعد شهرين من التعب والخسارة بدون نتيجة، سافرت بها الحوبان". الوصول إلى منطقة الحوبان (شرق مدينة تعز)، يستغرق أكثر من ست ساعات؛ بسبب استمرار إغلاق المنفذ الشرقي للمدينة على خلفية الحرب بين الحكومة المعترف بها دوليًّا وبين سلطة أنصار الله (الحوثيين). تتبع الحوبان حاليًّا سلطة صنعاء، وهناك بقي عرفات ستة أشهر باحثًا عن تشخيص وعلاج لطفلته. يقول: "ذقت المُرّ خلال الأشهر الستة، وبعد الفحوصات، قال الأطباء عندها ضمور بالدماغ"! أصيب عرفات بالصدمة لدى سماعه خبر التشخيص؛ فالأب الذي ظل مُتشوقًا لخروج ابنته الأولى إلى الحياة ولرؤيتها بفرح وسرور، صار اليوم مذهولًا بما سمعه عن مرض طفلته؛ المرض الخَلْقي الذي ما من مريض أصابه إلا وفتح أمامه باب الأمراض على مصراعيه.
ما تعاني منه هذه الطفلة ليس ضمورًا في الدماغ فحسب، بل ظهرت عليها أعراض جديدة، فبعد عام من ولادتها قال الأطباء إن ثقبًا في قلبها هو المرض الآخر الذي يزيد من حجم معاناتها.
يشير والدها في حديثه إلى أنه بعد سنة من ولادتها، أصيبت بالحمى. "تخيّل شهريًّا وهي تمرض بشكل مستمر. أخذتها للمستشفى وحولونا إلى طبيب القلب، وهناك عرفنا أنها مصابة بثقب بالقلب، وضمور بالعضلة أيضًا".
نوعان من المرض فتحا على ندى سلسلة طويلة من الأمراض. ضموران وثقب في القلب، بالإضافة إلى ضيق في التنفس، وصعوبة في البلع، والتهابات مُصاحبة لسعلة مُزمنة. كل هذه أسماء لأمراض تستعمر جسد ندى الضعيف. يوضح والدها: "كل يوم يطلع لنا مرض جديد، قدر الله، نصبر وننتظر الفرَج".
تعيش الطفلة ندى على الأكسجين، وإلى ذلك وقفت جملة من الصعوبات أمام توفيره، وبحسب والدتها، فقد كانت تقترب من الموت في بعض الأيام حين كان الأكسجين ينعدم داخل المدينة
لا سمع، لا بصر، لا حركة، كل عضو في جسد ندى ربما أصبح عاطلًا عدا روحها. تنام على معاناة وتصحو على أخرى، هَزُلَ جِسمُها، وتغيّرت ملامحُها وهي تُنازع الموت يوميًّا، وتقف على بعد خطوة منه دون أية مؤشرات تفيد بتحسن حالتها أو علاجها.
بنبرة حزينة وعين دامعة، قال عرفات: "طبيب القلب قال إنه لا يوجد أمامي أية حلول، ولا يمكن إجراء عملية لثقب القلب كونها مصابة بضمور العضلة والدماغ معًا؛ لذا فإنه من الصعب أن تتشافى، خصوصًا أنها مهددة بسكتة دماغية قد تصيبها على حين غفلة". وبحسب الطبيب ذاته، فإنها تحتاج إلى 15 سنة من العلاج والعناية حتى تتعافى، وقد تبقى معاقة رغم العلاجات التي تتلقاها.
بعد مرور عامين على مرض ندى، جاءت شقيقتها مُنَى تحمل نصف معاناة أختها؛ ثقب في القلب، والذي تركها تعيش سنة وبضعة أشهر بعيدة عن الألم والوجع، لكنه سرعان ما خطف روحها؛ الأمر الذي جعل عرفات وزوجته يمتنعان عن الإنجاب.
يؤكد عرفات: "ندى، ومنى.. فرحتُ بالأولى وخطفها المرض. دعيت ربي أن يعوضنا بالثانية وماتت، فقررت أن أتوقف عن الإنجاب". تخوّفًا من الآتي، يمتنع هذا الرجل عن إنجاب الأطفال وتجنبًا لتكوين أسرة بأفراد معاقين، تثقل كاهله وتزيد حمولته. يمتنع بالرغم من حلمه أن يكون له ولد يساعده أو بنت تعين والدتها.
الأكسجين رفيق دائم
وجه شاحب، وجسم هزيل لا بد من تزويده بمُغذِّية يومية تساعد على بقائه حيًّا، وبجواره أسطوانتا أكسجين، ما إن تنتهي الأولى حتى تكون الثانية جاهزة. هكذا وجدنا الطفلة ندى مُقعدة عند زاوية من غرفتها الضيقة، تتنفس من أسطوانة الأكسجين، وتعيش على علبة صغيرة من الحليب الصناعي، لا تعرف الأكل ولم تذقه أبدًا.
"حياتها الأكسجين، والأكسجين حياتها"، هكذا قالت والدة ندى وهي تشير إلى ما تعانيه طفلتها من اختناق وصعوبة في التنفس. عندها تصير حاجتها للأكسجين دائمة، توفيره شرط لبقائها، وانعدامه يعني وفاتها. ما أصعب هذه الحياة، وما أقسى أن تعيش معلقًا بين الحياة والموت.
أحيانًا لا تمنحك الحياة كل ما تحتاج. فبالرغم من حاجة الصغيرة ندى للأكسجين، إلا أنها عانت ما عاناه مرضى المدينة في فترة انتشار وباء كورونا بموجتيه الأولى والثانية؛ المرضى الذين تجرعوا مرارة المعاناة نتيجة نقص الأكسجين وانعدامه بعد توقف محطتي الإنتاج الوحيدتين لمرات كثيرة تبعًا لانعدام المشتقات النفطية أحيانًا، أو بسبب تعطلها وحاجتها للصيانة أحيانًا أخرى، كما حدث في محطة مستشفى الثورة.
تعيش الطفلة ندى على الأكسجين، وإلى ذلك وقفت جملة من الصعوبات أمام توفيره. وبحسب ما قالته والدة الطفلة لـ"خيوط"، فقد كانت تقترب من الموت في بعض الأيام حين كان الأكسجين ينعدم داخل المدينة؛ "كنا ما نقدر نوفره بسرعة، وقتها كانت حشرجة ندى تزيد، تشهق بصوت عالٍ، تختنق، حتى يأتي والدها بأسطوانة وينقذها من الموت"، تضيف الأم.
يعمل والد ندى في تجميع رمل البناء ليبيعه بأسعار زهيدة، ويقول: "تكاليف العلاج تصل إلى 150 ألف ريال شهريًّا (قرابة 150$) ما أقدر أدفع قيمة كل العلاجات، ولا أستطيع العناية بها كما ينبغي، ظروفي المادية صعبة"
انعدام الأكسجين مشكلة ما زالت تشكل مصدر قلق لدى الكثير من المرضى في المدينة من بينهم ندى عرفات، الذي يتنقل ولدها في كل مرة بين المحطتين الوحيدتين في المدينة، بحثًا عن أسطوانة. غالبًا ما يجد الأكسجين ويكون سعيدًا بذلك -حدّ تعبيره- حتى وإن كلفته الأسطوانة الواحدة مبلغ 4 آلاف ريال، فضلًا عن المواصلات التي تصل إلى 3 آلاف ريال. وفي بعض الأحيان قد يخرج من محطتي التعبئة صفر اليدين، بدون أكسجين، تاركًا أسطوانته هناك إلى أن يتم إعادة تشغيل المحطة. يشرح عرفات معاناته مع الأكسجين قائلًا: "كل يومين أرُوح أعبّي أسطوانة؛ لأن المريضة تستخدمها يومين. أعبّيها من محطة مستشفى الثورة، لكن أحيانًا كنتُ أنتظر الأسطوانة أربعة أيام؛ لأن هناك حالات أصعب من حالة ندى".
سألناه: "ما البديل في حال كانت المحطة مغلقة؟"، ردّ الرجل: "ألجأ إلى فاعلي المبادرات المجتمعية التي توزع الأكسجين مجانًا". بهذه الطريقة يتدبر الأب الأكسجين لطفلته، متنقلًا بين محطتي تعبئة الأكسجين في المدينة وفاعلي الخير وأصحاب المبادرات التي ظهرت بغرض توفيره للمحتاجين من المرضى، خصوصًا أولئك المصابين بأمراض مزمنة.
محطات الأكسجين في تعز، من توقف إلى آخر؛ معاناة مستمرة، ففي الأسبوع الماضي توقفت هيئة مستشفى الثورة بالكامل عن العمل، بما فيها محطة الأكسجين، وذلك بسبب نفاد كمية المشتقات النفطية، وهذه مشكلة تتكرر بين فترة وأخرى.
وفي هذا السياق، قال الدكتور عبدالرحيم السامعي، مدير هيئة مستشفى الثورة لـ"خيوط": "توقف المُستشفى بعد أن توقفت منظمة الصحة العالمية عن صرف مخصص الهيئة من الديزل. تصور من شهر يناير وحتى يوليو لم نستلم، وهذا ما سبب لنا إرباكًا". ويضيف: "35 مليون ريال تقريبًا (قرابة 35 ألف$، بحسب سعر الصرف في المناطق التابعة لحكومة عدن) هي مديونية الهيئة لمحطة المشتقات النفطية. هذه المشكلة مستمرة، وعلى السلطة المحلية عمل حلول جذرية لها".
أسرة ندى بين الفقر والمرض
تعيش أسرة ندى ظروف النزوح، والفقر أيضًا؛ لقد شردتهم الحرب وأجبرتهم على ترك منزلهم الواقع في حي "ثَعَبَات" -جنوب شرق المدينة- بعد أن دمره قصف الصواريخ والقذائف وسوّاه بالأرض. تسكن الأسرة اليوم في شقة صغيرة لأحد المواطنين في حي "المُجلّية". سمح لهم بالعيش فيها تعاطفًا مع الطفلة المريضة، ومع ما تمر به الأسرة من ظروف مأساوية.
يقضي الأب حياته اليومية، ليلَ نهار، في العمل. وما هو العمل؟ يُجمّع "النيس" (رمل البناء) في مجرى السيل الذي يمرّ في حي "المجلية" ليبيعه بمبلغ زهيد، كما يعمل أحيانًا في البناء أو حمل الأحجار. وأنت تمرّ في الحيّ، ستجد عرفات بظهر مُنحنٍ ويدين تعملان باستمرار. ينكبّ على عمله دون توقف، يكافح فقره من جهة، ويحاول توفير تكاليف علاج طفلته، إلا أنه يعجز دائمًا، كما يقول. "تكاليف العلاج تصل إلى 150 ألف ريال شهريًّا (قرابة 150$) ما أقدر أدفع قيمة كل العلاجات، ولا أستطيع العناية بها كما ينبغي، ظروفي المادية صعبة"، يضيف.
يعمل هذا الرجل فوق طاقته، وبالرغم من ذلك يجد نفسه غير قادر على توفير ما تحتاجه ندى من علاجات ومُغذيات، ورعاية واهتمام؛ الأمر الذي يزيد من ثقل حِمله وهمومه، ويضاعف خوفه على ابنته، ويدفعه للقول بصوته المنهك: "ارحموا ندى، أنقذوا حياتها".