الرابع عشر من أكتوبر 1963، كان يوم بَدء الكفاح الوطني لتحقيق الاستقلال عبر كفاح مسلح امتدّ لأربعة أعوام، وقادته الجبهة القومية المكوّنة من عدة منظمات.
بعد مضيّ 59 عامًا على الكفاح المسلح، وقرابة خمسة وخمسين عامًا على نيل الاستقلال، نقف مذهولين أمام المآل الذي وصلت إليه اليمن بعد انتكاسة الثورتين: سبتمبر 1962، وأكتوبر 1963.
لن يكون مفيدًا البكاء على أطلال الثورات الوطنية، وحركات التحرر الوطني التي تجاوزت الثمانين، في القارات الثلاث: آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية. اعتبر القرن العشرين قرن التحرر من الاستعمار، وسطوع شمس الثورات الوطنية. جُلّ هذه الأنظمة فقدَت الاستقلال، وبعضها عاد إلى أحضان الاستعمار طواعية- "لا إكراه، ولا بطيخ"؛ كإبداع مظفر النواب. والكثير منها قدّم نماذج أزرت بالاستعمار، وجعلت الشعوب تترحم على الاستعمار؛ "ومن مستعمر غازٍ إلى مستعمر وطنيّ؛ كشهادة الرائي البردّوني، ولعب بعضها أدوارًا وطنية في دحر الاستعمار، وتحقيق الاستقلال الوطني، ومنها عربيًّا: الجزائر، والجبهة القومية بمنظماتها المختلفة ذات المنحى القومي.
انتكاسة السادس والعشرين من سبتمبر، سبقت يوم الاستقلال في أقل من شهر واحد، حين تم الإجهاز عليها بانقلاب الخامس من نوفمبر. خلال العقود الماضية من النصف الثاني من القرن العشرين، انتصرت الثورة القومية، وحركات التحرر العربية في العديد من البلدان العربية بجلاء جيش الغازي؛ ليحل محلّه المستعمر الوطني في بعض البلدان. ترقّى البيع من بيع، إلى بيع بلا ثمن؛ كرؤية المبدع البردّوني، ولكنّا، ومنذ الحرب الثلاثينية ضد العراق تحولنا من بيع بلا ثمن، إلى بيع الأوطان للمستعمر، ودفع الثمن أيضًا. دُفعت المليارات لتدمير العراق، وسوريا، وليبيا، والسودان، واليمن.
ما يعاب على ثوراتنا الوطنية، وحركات التحرر، الإيغالُ في النقد للرجعية والاستعمار كتعبيرٍ عن العجز من الخلاص من تبعاتها، بل وفي أحايين كثيرة الوقوع في شراكهما؛ فيكون النقد المرير للرجعية والاستعمار بمثابة براءة للذمة.
كثيرًا ما ردّد رفاقنا في الاشتراكي أنّ حزبهم هو الوحيد الذي انتقد تجربته، وهذا كلام صحيح، ويعضده مذكرات جار الله عمر، والعديد من المقالات هنا وهناك، ولكن نقد الاشتراكي لتجربته ليس كافيًا. المفكّر العربي الكبير أبو بكر السقاف قال في مقالة له بعنوان "في ذكرى الاستقلال الذي ضاع غير مرة":
"في ذكرى الاستقلال، يجلس الجنوبيون على أطلال وطن، وما أصعب أن ترى وطنك يحتضر، وأن تدرك وتشعر يوميًّا أنّك تنحطّ إلى ما دون المواطنة. فبعد أن ضاعت -مع الاستقلال- المكاسبُ السياسية والقانونية والنقابية التي ناضل الناسُ من أجلها منذ ثلاثينيات القرن الماضي عندما أطاح بها الحزب الواحد كلها بضربة واحدة مشاركًا في سياق الحمى التي اجتاحت حركة التحرر الوطني العربية...". (*)
ويقينًا، فإنّ تجريف الحياة السياسية والثقافية، والحريات العامة، وحرية الرأي والتعبير، والتعددية السياسية والحزبية والنقابية، وهي المداميك الأساس للاستقلال- قد سهّل لأعداء الثورة وَأْدَها.
حين كانت قيادات الاستقلال تلغي المختِلف أو الخصم السياسي، لم تدرك أنّها كانت تلغي نفسها. قمع التعددية والحياة السياسية فتح الباب واسعًا أمام الصراع الدموي، والاغتيالات السياسية التي طالت أهمّ رموز الثورة وآبائها الروحيين؛ وصولًا إلى كارثة 13 يناير 1986.
الاغترار بالقوة، والاستعارة للجملة الثورية الفارغة، كما يسميها لينين، أو الكتابة غير المسكونة الخالية من البشر؛ كما يسميها المفكر ياسين الحاج صالح، بل ومن الحياة.
صحيحٌ أنّ تجربة الجنوب الرائدة قدّمت أنموذجًا زاكيًا في حركات التحرر الوطني، وتعرضت لمكائد استعمارية ورجعية تبدأ ولا تنتهي، ولكن ذلك لا يبرر أخطاء التجربة وممارساتها، سواء في مواجهة الخصم السياسي أو داخلها قبل الاستقلال وبعده.
الاحتفاء بالذكرى التاسعة والخمسين لا بُدّ أنّ نستقرئ فيها أسباب العوامل التي أدّت إلى كارثة 13 يناير 1986، وما أعقبها من تطورات أدّت في النهاية إلى وأد التجربة، والقضاء على منجزاتها.
المفارقة الراعبة أنّ حركة القوميين العرب- فرع اليمن، كان أول فرع من فروع الحركة يختلف ويغادر المركز في بيروت، ويقدّم قراءة دقيقة وصائبة لطبيعة الصراع في اليمن عبر ميثاقٍ يربط عميقًا ما بين إسقاط النظام الإمامي في صنعاء، والاستعمار في عدن، والمحميات، ويتبنّى الكفاح المسلح، والمنهج اليساري يعود للاهتمام بتنظير الاشتراكيين اللبنانيين: نائف حواتمة، ومحسن إبراهيم، ومحمد كشلي (اليسار المغامر)؛ كتسمية مهدي عامل في كتابه المهم "اليسار الحقيقي واليسار المغامر"، ولكتاب نايف حواتمة حضورٌ كبير في تفكير يسار الجبهة القومية- "أزمة الثورة في الجنوب اليمني"، دار الطليعة.
الرابع عشر من أكتوبر تجربةٌ رائدة في مستوى عربيّ وعالميّ، وحقّقت إنجازات اقتصادية واجتماعية وثقافية وضعتها في طليعة تجارب حركات التحرر الوطني التقدمية عاليًا؛ فالبلد الفقير شحيح الموارد حقّقَ قدرًا رائعًا من العدل الاجتماعي، والمساواة، ومحو الأمية، وإنجاز تشريعات ديمقراطية، أهمها قانون الأسرة الذي كفل حقوق المرأة.
انتقد جارُ الله عمر، الفادي العظيم، التجربةَ بشجاعة وتجرُّد؛ وهو ما فعله قوميون يساريون: المفكر الفقيد أحمد الصياد، والمفكر القومي فواز طرابلسي- أحد أهم مناصري التجربة القومية، وتتضمن مذكرات الرئيس السابق علي ناصر جوانبَ نقدية أيضًا، وسردية منصور هائل، "هذيان الحطب" نص إبداعيّ نقديّ رائع، كذلك السارد المبدع أحمد زين في روايتيه: "ستيمر بوينت"، و"فاكهة للغربان".
تجربة الرابع عشر من أكتوبر لم تمت ولن تموت؛ فلا شيء في التاريخ يموت. كانت الخطيئة الأولى عدم التمييز ما بين شرعية ومشروعية امتشاق السلاح في مواجهة المستعمر، وتوجيهه للداخل أو الجوار، وعدم إدراك أنّ القوة نقيض السياسة.
حرب 1994 ضدًّا على الجنوب، جسّدت الاستعمار الداخلي كقراءة الرائي البردّوني، ومصطلح الاستعمار الداخلي نحته مفكرو وثوار أمريكا اللاتينية. وحقًّا فإنّ الاستعمار الداخلي يجلب الاستعمار الخارجي، وهو ما تعيشه اليمن اليوم.
(*) د. أبوبكر السقاف، "دفاعًا عن الحرية والإنسان"، إعداد: منصور هايل، منتدى الجاوي الثقافي، الطبعة الأولى 2011، ص (215-216).