في اتصاله بي، قرابة الحادية عشرة مساءً، استغرب صديقي من تفريطي في ليلةٍ ماطرةٍ فيها كلُّ ما يغري بالاستمتاع سمرًا حتى الصباح. لقد كان لاستذكار الدروس- قبل سنوات، حيث التحصيل العلمي الجاد- دورُه الفاعل في أن يكون صديقي، ومثله كنتُ قبل أن أتحرر من هذه العادة بصعوبةٍ بالغة، ضمن فئة الليليين؛ إذ كانت الامتحانات الوزارية في السنة الأخيرة من المرحلتين التعليميتين الأساسية والثانوية، تستدعي أكبر قدرٍ ممكنٍ من استثمار الوقت، وكانت المساءات الطوال مناسِبةً لهذا الاستثمار؛ أما النوم فقد حلّ الصباح محلها في احتوائه. وإلى التعليم الجامعي، بمراحله المختلفة، رافقت هذه العادة أصحابها، بنسبٍ متفاوتة، متوائمة مع حياة كل شخص، وخصوصية كل بيئة ومرحلة. ثم بانحسارٍ متوالٍ، سنةً بعد أخرى، انزوت فاعلية التحصيل العلمي هذه، ولم تعد محوريةً في اكتساب عادة السهر ليلًا والنوم صباحًا؛ إذ تنوعت وتعددت العوامل الفاعلة في اكتسابها واطرادها واتساعها.
على امتداد الجغرافيا الريفية بين محافظتي تعز والضالع، تزخر ساعات الليل بالحياة، بشكل يفوق حيوية النهار، لا سيما فترة الصباح منه، بعدما جعلت هذه العادة من الصباح زمنًا بيولوجيًّا للنوم البديل عن نوم الليل.
مساءاتُ العمل
قليلون هم النهاريون، وقليلةٌ هي نسبةُ العاملين في ساعات الصباح؛ فكثيرٌ منهم قد اتخذوا من الليل زمنًا لنشاطهم، كما أن عمل الليل لم يعد متعلقًا فقط بالأعمال التي تتناسب خصائصها مع زمن تنفيذها ليلًا، وإنما صار عادةً مطّردة، وإلى الليل انتقل إنجازُ نسبةٍ كبيرةٍ من أعمال النهار. فمثلًا كان العاملون في قطف "القات" يشكلون دينامو حياةٍ نشطةٍ في فترة الصباح، وسنةً بعد أخرى، تضاءلت هذه الحياة الصباحية، مع تنامي هذه العادة واجتذابها كثيرًا من القاطفين إلى الليل، فبات مأهولًا بهم وممتدةٌ فيه الحياة -في كثير من الأحيان- حتى ملامح الفجر الأولى.
الحال ذاتها لدى المزارعين، فبعد أن كان عملُ الليل مقصورًا على "حراسة" القات، أو على الرّي حينما يتزامن دور المزرعةِ في تراتبية استحقاقها للماء مع ساعات الليل، صار كثيرٌ منهم يفضلون الليل زمنًا للعمل؛ لذلك تزاحمت الرغبات في الظفر بتزامن أدوار الرّي مع ساعات الليل، وزادت نسبة إنجاز أعمالٍ أخرى في مزارع القات ليلًا: كتقليم أشجاره بعد قطفها، أو تقليب التربة، ونزع الحشائش الضارة، وما في سياق ذلك من العناية الزراعية. ومثل حال المزارعين كانت حالُ عددٍ من أصحاب المهن الأخرى، كالمشتغلين في البناء، وبوجه خاص العاملين منهم في تكسير حجارة البناء من الجبال آلاتهم الصاخبة.
السلبية في سهر الليل إلا في تكريس هذه العادة وديمومتها، حينما لا يكون للساهر أيُّ مُبَرِّرٍ يُسوّغ له مواصلة السهر
حياةٌ ليليةٌ تسودها الحركة والحيوية، تتمظهر تفاصيلها المختلفة: أصواتًا مختلطة ومتعددة بتعدد أغراض أصحابها، وسياراتٍ بين ذهابٍ وإياب، ومثلها الدراجات النارية. أما مزارعُ القاتِ التي آن قَطْفُ أغصانها، فتبدو كأنها قرى صغيرةٌ تتكاثفُ فيها الأضواءُ من المصابيح اليدوية "التراشليت"، التي استقر تثبيتُها في جباه القاطفين.
مساءاتُ "السمرة" لا العمل
مع ما في تكريس الليل للعمل من مشاكسةٍ لطبيعة الحياة القائمة، على أن الليل للسكينة والنهار للعمل، إلاّ أن ذلك يظل في سياق الممكن، ولو في حيزٍ محدودٍ من المنطقية. أما الإشكالية الحقيقية فهي كامنةٌ في الليل المُفرغ من العمل حين يصير نهارًا لأغلبية فئة الشباب، مع نسبةٍ لا بأس بها من الفئات الأكبر سنًّا، والأخطر من ذلك، التحاق الفتيان بفئة الليليين.
كُرِّس سهرُ الليل في حياة هؤلاء عادةً وبرنامجًا، إذ اعتادوا أن يبدأ يومهم من لحظة استيقاظهم في منتصف النهار، حيث تنقسم وجبةُ غدائهم على نوعيتين؛ إما أن تكون وجبةَ غداءٍ بحتة، وإما أن تكون وجبةً مزدوجة للإفطار والغداء. تأتي بعدها مهمةُ توفير كميةٍ كافيةٍ من القات، ولا ضير أن تأخذ هذه المهمة ساعةً أو ساعتين أو أكثر، فالبرنامج يولي اهتمامًا جوهريًّا بتوافر القات لفترة المساء، ولا بأس من البدء بجلسة الكيف قبل المساء بساعةٍ أو ساعتين.
ينقسم الليليون في أسمارهم بعفويةٍ على جماعاتٍ وفقًا لتقارباتٍ واهتماماتٍ يتشاركها أفرادُ كل مجموعة. تتنامى فيهم فاعلية القات وصولًا إلى ذروتها، وفي هذا التنامي يعيشون نشوةً وارتياحًا، غالبًا ما يكون لعادة التدخين حضورُها الأثير فيهما؛ إما بتدخين السجائر، أو بتدخين "الشيشة" التي بدورها تمثل حافزًا محوريًّا في لململة هُواتها في مجموعةٍ متجانسة.
ساعتُهم السليمانيّةُ تبدأ بعد منتصف الليل، لا كما هو متعارفٌ عليه أن تتزامن مع الغروب. يجود عليهم ليلُهم السليماني بخصوبةِ خيالٍ ممتعة، يطوح بهم الطموح وتُحَلِّقُ بهم الأحلامُ في فضاءاتِ الانتشاءِ الميَسِّرة لتحقيقَ الحلم مهما تمادت شطحاته، ثم تحين لحظات الانتشاء الأخيرة، حيث تتقلص بعدها مساحة الأمل، وتتناسل في الطريق العوائق التي يبدو أن لا مناص من التعثر بها، ويخسف بهم اليأس والإحباط. غالبًا ما تمتد بهم السمرة حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيستسلمون لحقيقة النهار الذي يمحو كلام الليل ومخططاته اللاواقعية. هنا يحل زمنُ نومهم البيولوجي مع زقزقة عصافير الصبح الأول، حيث يمتد بصاحبه حتى الظهيرة، وقد يمتد به ساعاتٍ أخرى، تصل عند بعضهم حتى المساء.
في هذه الحال، لا يكون السهر إلا لأجل السهر ذاته، لأجل استمتاعهم بالسمرة الطويلة، مثلهم في ذلك كمثل شخصيتين واقعيتين وَجَدَتْ قصتُهما مكانها في الحكاية الشعبية المتداولة. حكايةُ أرملتين شقيقتين متقدمتين في السن، اعتادت كل واحدةٍ منهما أن تقضي الليل سمرًا بطعم القات ونكهة التبغ من الأرجيلة "المداعة". وفي ليلةٍ رمضانية، استضافت إحداهما الأخرى في منزلها، والمنزل بماهيته الشعبية وفّرَ عليهما الخروج والدخول؛ فبابُهُ الخلفي يفضي إلى صالةٍ صغيرةٍ يتموضع في جهةٍ منها بابُ المطبخ الشعبي، حيث يتكوّم جمرُ "المداعة" في الموقد الطيني كلما دعت الحاجة إليه. ولكي تتكامل أسباب النشوة، أغلقت الشقيقة المضيفة النافذةَ الوحيدة الصغيرة في حجرة السمرة، والتي لا تزيد الحاجةُ لإغلاقها عن وسادةٍ قطنيةٍ صغيرةٍ تسدّها بإحكام، وبذلك انفصلت الشقيقتان عن محيطهما الخارجي. سارت ليلتهما على خير، حتى صعقتهما المفاجأة في آخر جولةٍ لاستبدال الجمر والتبغ؛ فقبل أن تقوم المضيفة بهذه الجولة الأخيرة في حسبانهما، سَحَبَت الوسادة من النافذة، وكان الوقتُ مغادرًا الضحى في صبيحةٍ رمضانيةٍ أخَذَتْهما نشوةُ الساعةِ السليمانيةِ الليليةِ إلى قلبها.
نومُ الليل ونومُ النهار
في كتابه "نادي الخامسة صباحًا"، تطرق روبن شارما إلى النوم وساعته البيولوجية الطبيعية، مبرهنًا بأدلةٍ علمية على الإيجابية الصحية والحياتية التي تعود على الشخص النهاري، وعلى جدوى نوم الليل، وسلبية نوم الصباح التي من أبرز مظاهرها الخمول والنزق لحظة الاستيقاظ ظهرًا. وفي ذلك ما يفسر نزق الليليين وشعورهم السلبي، إذ لا يكاد أحدٌ منهم ينكر سلبية هذه العادة على حياته، ومنهم من ضاق ذرعًا بها وخسر بسببها النجاح في أكثر من منحى من مناحي حياته، لكنه لا يجد سبيلًا إلى التحرر منها. ومنهم من قرر التخلي عنها، وبدأ تنفيذ القرار، لكنه بعد أيامٍ قليلةٍ أصيبَ باليأس والإحباط وشعر باستحالة تغييرها، فمهما استيقظ صباحًا لا يظفر بالنوم ليلًا، حيث يرهقه السهر والأرق، فيجد نفسه مستسلمًا لها ثانيةً؛ ذلك أن عادة السهر قد تمكنت منه، وامتلكت قوةً ليس من السهل تفكيكها، إلا بعادةٍ جديدةٍ تحل محلها وتكتسب قوتها، ولا يتسنى ذلك في أسبوع أو أسبوعين، وإنما في دورة كاملةٍ حددها روبن شارما في الكتاب ذاته بـ66 يومًا.
اتزانُ الحياة
ليس في سهر الليل المحدود سلبيةٌ، ولن يفقد الليل خاصيته كـ"نهارٍ للأريب" حسبما ورد في أدبيات التراث العربي، ولم ينل عشقُ الليل من إنجاز الشاعرة العراقية نازك الملائكة حينما لُقِّبَتْ بـ"عاشقة الليل" إن لم يكن فاعلًا في ثرائه. وتفَرَّدتْ أغنيّاتُ فيروز بتناغمها مع لحظات الصباح، حتى أُطْلِق على صاحبتها لقبُ "سيدة الصباحات"، ومع ذلك لم يحُلْ هذا التفرُّدُ دون الطاقةِ الوجدانية الهائلة في الأغاني الفيروزية حينما تنساب مع نسائم الليل الساحرة. وما السلبية في سهر الليل إلا في تكريس هذه العادة وديمومتها، حينما لا يكون للساهر أيُّ مُبَرِّرٍ يُسوّغ له مواصلة السهر بعدما يستطيبُ النوم في عيون العذارى ويختفي القمر وفقًا لما ترنم به صوت الفنان أيوب طارش العبسي من رائعة أحمد الجابري: "يا عاشق الليل ماذا أنت تنتظر".
إن التوازن أمرٌ مهم بين "عشاق الليل"، و"عشاق النهار"؛ حتى تكون المساواة عادلةً بين الفئتين في نداء محمد شكري وهو يوزعه عليهما: "أيها الليليون والنهاريون، أيها المتشائمون والمتفائلون، أيها المتمردون، أيها المراهقون، أيها العقلاء: لا تنسوا، لا تنسوا أن لعبة الزمن أقوى منا، لعبة مميتة لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا بإماتتنا، أن نرقص على حبال المخاطرة نشدانًا للحياة"، وما الحياة المنشودة إلا تلك المستقيمة بالتوازنات بين مكوناتها وجوانبها المختلفة.