فعلت الحرب والنزوح في اليمني، ما لم تفعله أيُّ عوامل أخرى، بين فكَّي الحروب وإنجاز حلم في العيش بتوازن نفسي يقي من مغبة الفقدان العميق حد الجنون، ووسط خيارات غير مستقرة، كانت رؤية الكاتبة اليمنية الروائية نجلاء العمري، من بين من استقى مصادر وعذابات اليمنيين في الشتات ومغترَبات ومنافي جهات كثيرة في العالم، وهي بوصفها ناشطة مدنية أولًا، لم تكن بعيدة عن تعميق تلك الأسئلة الوجودية الملحق في ثنايا رواياتها، ومآلات النساء.بين الحلم بملاذ آمن، واللجوء الذي قد يغدو فخًّا في أحايين، لامست أعمالها الأدبية خيارات وأحلام ورؤى ومواقف النسوية، كما طرأت تبدلات عمّقت من الصوت النسوي في ظل من اتساع فجوة صراع سلطوي بين المتحاربين، في حين أبقت على علاقة الإبداع وأفق الكتابة منحازة لرؤية الفن، ومتخففة من ثقل الشعارات ومآزق واقع مرتبك ومتوتر، غابت فيه حقوق النوع بصورة عامة.الحوار مع العمري، يطرح رؤى ويشخّص جراحات في علاقتها بالكتابة، وما يفترض أن تفطن إليه يقظة الكاتب تجاه سبر شخصياته واستقلال واستقرار إنسان وأوطان تتأرجح؛ بين مسافرة، ومغتربة.مطاردة خبايا النفس
تحكي شخصيات روايتك عن أحوال ومصائر "النسوية" في بلادك، عن نساء وجدن أنفسهن أمام خيارات معقدة في خوض تجارب صعبة، عن تنقلات ومعايشات تسرد دراما اللجوء، سنوات الحرب والهجرة، وما لاقته اللاجئات جراء الحرب في امتداد اللحظة.
في "نساء هاربات" وجدت نفسي أطارد خبايا النفس التي تعاني من تفاصيل التشرد واللجوء، تلك التفاصيل التي لا يدركها أحد لم يخُض تلك التجربة، ولا يعرف كم هي مؤلمة وموجعة، خاصة للنساء اللواتي ينتظرن العودة إلى البيت في موطن الرأس، اللواتي ما زلن يحملن رائحة الشوارع والأماكن القديمة العابقة بالدفء، يحلمن بالعودة فيفقدن القدرة على الانتماء إلى المكان الذي وصلن إليه، وهكذا يسقطن في التيه؛ لا طريق يأخذهن إلى حيث ترقد تلك المنازل الممتلئة بالذكريات، ولا مكان يستطعن ضرب جذورهن فيه ونسيان الماضي.ترى كم تظل تلك النسوة عالقات في اللا مصير، يبحثن عن منفذ فلا يجدن إلا مزيدًا من التشرد والهروب والاضطراب؟ قصص حزينة ومؤلمة، وكل تفصيلة من تفاصيل الحياة تتحول إلى جراح عميقة لا تلتئم، غير أن أصوات تأوهاتهن لا تصل، ففي زمن الحرب كلّ من نفذ من الكثير من المصائر المؤلمة ناجٍ، لكنه ناجٍ من لجة الموت إلى لجة الجحيم.
خضتِ تجربة مع الفضاء الرقمي في نشر روايتك الأخيرة، كيف هي علاقتك بدُور النشر وصناعة الكتاب؟
علاقتي بدور النشر وصناعة الكتاب لا تختلف كثيرًا عن أغلب الكتّاب، نكتب وننشر لتصل أفكارنا ورؤانا للناس، لكننا بعد نشر أول كتاب نشعر أننا مستغَلّون من بعض دُور النشر التي تتاجر بالكاتب والكتّاب، ليصبح الكتاب الذي تعبنا وسهرنا ليولد مخلوقًا مكتملًا، مجرد منتج لا علاقة لنا به، ولسنا قادرين على رصد تحولاته بمجرد أن يصبح ملكًا للناشر الذي يبذل كل ما يستطيع ليفصله عنك جملة وتفصيلًا. أنا منذ أول كتاب نشرته وحتى اليوم، لا أستطيع الحصول على رصد ولو بسيط لمبيعات كتبي، بل إنّ بعض دُور النشر تستمر في بيعه حتى اليوم دون أن أعرف هل استنفدت تلك الدور النسخَ المتفق عليها في العقد أم لا. كل شيء مغيب عن الكاتب للأسف، مع مستوى تسويقي متردٍّ يحرم الكتاب من أن ينتشر، والقارئ من أن تصله نسخًا ورقية بقيمة معقولة.
في "مراكب الضوء" تختلف "التيمة" باختلاف الحدث الذي يؤثثه توتر درامي يعزز بناء المتن الروائي وانسياب طريقة السرد، فضلًا عن أن لغة هذه الرواية تقدم تفاصيل: "تحكي بؤسنا الممزوج بالمسؤوليات؛ الأطفال، الأسرة، التقاليد والعادات"؛ وفقًا لمنظور نقدي لإحدى الكاتبات عن روايتك.
روايتي هذه هي أقرب إلى فلسفة منها إلى رواية، تفاصيل الموت والحياة التي تتلخص في كلمة واحدة وهي الحرية، الحرية التي ظلت البطلة تبحث عنها وهي تسرد عذابات الفقد وهي تحكي عن صديقتها التي غيبتها يد العادات والتقاليد الظالمة، وهي تبوح عن حب لم تكن تدرك معالمه لأستاذ ليس له وطن، ضائع بين الموانئ والمطارات. في مراكب الضوء، كانت اللغة المكثفة والمونولوج الداخلي هو المتحكم في لغة السرد، سرقتني المشاعر والأحاديث الداخلية عن تطوير لغة السرد بصفتي حاكيًا، وشغلتني الفلسفة التي أردت أن أبلور من خلالها الخلاصة التي جعلت توابيت الأحباب كأنما هي مراكب من ضوء، تعلمنا كيف نقود مراكبنا نحو الانعتاق ونحلّق عاليًا دونما أية قيود.
ماذا عن سياق الحرب، هل مثّل مصدرًا لإلهامات ومواجع كثيرة، أم أنّ الشخصيةَ من تتحرك خارج الإطار والتصورات بناءً على إرادة الكاتب/ة ولغة السرد البعيدة عن التقرير المحض؟
سياق الحرب بالتأكيد صبغ الكثير من أعمالي ومن أعمال كتّاب آخرين بوجع معتق أفرزته حالة مستدامة من الفوضى واللا استقرار، غير أنه بلا شك يظل الكاتب الواعي بأدواته بعيدًا كل البعد عن التقرير المحض ويساعده ذلك في أن يتحرك خارج الأطر من خلال شخصيات مختلفة ومتمردة حتى على الكاتب نفسه الذي لا يدرك أحيانًا ردود أفعال شخصياته، إنها شخصيات حية ونافذة لأنها خُلقت من وجع حقيقي وكانت ولادتها بعد فترة مخاض عصيبة.الكتابة هي نتاج عملية معقدة لمراحل متعددة من حياة الكاتب نفسه ومن حوله، وقراءته وتطوراته الفكرية، نعبّر من خلالها ليس فقط عن فقدانات معينة أو طموحات مؤجلة بل نغوص في أعماق ذوات إنسانية خالصة لنسبر أغوارها.
أسلوبك يدمغ واقعًا اجتماعيًّا يتقاطع مع ما تحلم به المرأة أو الناشطة عبر تأثير اندماجها بمجتمعات أخرى خارج نطاق جغرافية بلدها؛ هل انتزعتِ بالكتابة حيزًا للتعبير عن فقدانات ما، بما يجاوز مجرد الطموح اللفظي لأحلام بعيدة ومجهضة لا تتحقق؟!
الكتابة هي نتاج عملية معقدة لمراحل متعددة من حياة الكاتب نفسه ومن حوله، وقراءته وتطوراته الفكرية، نعبّر من خلالها ليس فقط عن فقدانات معينة أو طموحات مؤجلة بل نغوص في أعماق ذوات إنسانية خالصة لنسبر أغوارها، غير أننا أثناء ذلك الغوص لا نعود قادرين على إدراك كنهها، ولن يكون بمقدورنا مطلقًا أن نفصل بين ذوات عدة أو شخصيات مختلفة قد تكون مرت علينا خلال مراحل حياتنا الطويلة لتتشكل شخصيات ناضجة ومؤهلة للتعبير عن نفسها، بعيدًا عن سيطرة الكاتب ورغبته في إدارة العملية بطريقته الخاصة، أنا شخصيًّا أعشق تلك اللحظات العصيبة التي تصارعني فيها شخصياتي بطريقة لا تروق لي وتكون قادرة على فرض سيطرتها لتخط ما تريده هي لا ما خططت له أنا وفي النهاية تصيبني الدهشة لتلك النتائج التي لم أكن لأصل إليها لو لم أعطِ تلك المساحة من الحرية لشخصيات تكتبني أحيانًا كثيرة أكثر مما أكتبها.النصوص فضاءات مفتوحة
بعض الدراسات اختزلت روايتك في مقاربتها "البؤس الذي يقف عائقًا بين ما نريد نحن، وما يريده المجتمع"؛ إلى أي مدى تغدو الكاتبة مقيدة بتصورات خارج فنية الرواية، ومضمرات خياراتها في الكتابة؟
إنّ اختزال أي عمل فني بكلمات هو محاولة لسلب القارئ حقه في اكتشاف مكنون هذا العمل أو ذاك، وقدرة الآخر على استخراج كنوز مدفونة بين سطور نصٍّ ما خارقة وتستحق منا الكثير من الصبر والتأني قبل أن نصيغ له دليلًا يقوده إلى المعاني التي قد تكون فقيرة تمامًا قياسًا بما قد يكتشفه حدسه البسيط؛ لذا أتمنى أن تظل النصوص فضاءات مفتوحة يخوض فيها الجميع، كلٌّ من وجهة نظره أو من وجهة وجعه، بهذه الطريقة نستطيع أن نضيف للنص لا أن نغمطه حقه وحق من يقرَؤُه بتصورات مسبقة.
هل اقترب عملك الجديد "نساء هاربات" من اشتباك فعل الكتابة واللغة باحتمال توافر قراءات وتأويلات متعددة، كما قد يشير من خلال عتبة الرواية، إلى توتر دلالة السرد والذهاب بعيدًا إلى تفسيرات التلقي؟
إن العمل الذي لا يخلق فضاءات واسعة للقارئ ليس عملًا خلاقًا، وكما تصول شخصيات عمل روائي وتجول كما تشاء، كذلك يصبح من حق القارئ أن يخلق دلالات خاصة به وأن يفجر رؤى جديدة أسهم غنى النص الأصلي في تفجيرها وساعد القارئ على تطويرها، ومن هنا نستطيع أن نقول إنّ هذا العمل مبدع من عدمه. أنا شخصيًّا بصفتي كاتبة أحب أن يتصل ما أكتب بشكل من الأشكال بكل شخص يقرَؤُني، فيشعر كأنني أتحدث عنه حتى لو كان الوضع مختلفًا تمامًا عما يمر به، لكن تظل هناك خطوط مشتركة تسرب خيط الألم غير المرئي أو نقطة الضوء التي لا تزال تولد، فيلتقطها هذا أو ذاك ويتبعها إلى مساحاته الخاصة به.أحاول تحرير شخصياتي من سيطرتي كوني كاتبة أو مؤلفة لتصل إلى القارئ أكثر تأثيرًا وواقعية، كما أني أحب أن تكون شخصياتي قريبة من القارئ العادي وتشبه الناس البسطاء الذين نصادفهم كل يوم.
إلى أي مدى تماسّت روايتك بمبادئ نشاطك المدني، وهل ما ترومينه في الكتابة يظل غاية هدفها وصول روايتك إلى أفق تفاعل مباشر أوسع لبلوغ فضاءات أخرى؟
كل شيء يمر به الكاتب أو يمارسه بالتأكيد ينعكس على ما يكتب، والعمل المدني هو من أكثر الخبرات التي أثرت في أفكاري وأنتجت شخصية أكثر عمقًا ووعيًا خاصة في هذا المجال؛ لذا نشاطي بالتأكيد ينعكس على كتاباتي، غير أني في الأعمال الروائية أحاول الهروب من تلك الشخصية الواعية لأغرق في تفاصيل الشخصيات التي تمارس نفسها كما ينبغي لها بعيدًا عن سلسلة القيم الخاصة بي أو الأفكار والمبادئ التي أعتنقها، وعلى صعوبة ذلك أحاول تحرير شخصياتي من سيطرتي كوني كاتبة أو مؤلفة لتصل إلى القارئ أكثر تأثيرًا وواقعية، كما أني أحب أن تكون شخصياتي قريبة من القارئ العادي، وتشبه الناس البسطاء الذين نصادفهم كل يوم.
الرواية بوصفها موقفًا في الفن؛ هل تجدين نفسك من خلالها ذاتًا، أم ساردًا خفيًّا يعمل على تحرير محمولات الخطاب كأثر ورسالة، في ظل بكم العالم وما يجري اليوم من تجريف للإنسان في فلسطين من قبل الآلة الصهيونية؟
لن نستطيع اختزال الرواية في موقف، ولا يمكننا كذلك تحويلها إلى فن مبتسر لا يقترب من الواقع ويحاكيه فقط، بل يضيف إليه ويرفعه. أحب الرواية التي تمتلك القدرة على نقلي إلى أماكن عُليا وتسمو بي، بذات الوقت الذي تقنعني فيه بواقعية الحدث وعمقه وتسحرني بقوة الحبكة وعمق الدراما. عالم اليوم منافق، يُعلي من شأن التفاهة، ويغمط حق الفن الإنساني الأصيل، ويتهرب من القضايا الكبرى التي بها فقط نستطيع استعادة إنسانيتنا والتصالح مع ذواتنا، ومن دون التعاطي بمستوى عالٍ من الإنسانية مع قضايا مثل القضية الفلسطينية، والوحشية التي يتم التعامل بها ضدها -سواء من آلة القمع الرهيبة؛ الكيان الصهيوني، أو من قبل المجتمع الدولي ككل- أو الحرب في اليمن التي تم تحويلها إلى أداة للحصول على مكاسب خاصة، والضرب عرض الحائط بحياة الملايين من البشر وحقوقهم، لن نجد أنفسنا في معزل من كل تلك الجرائم والانتهاكات المروعة، بل سنتحول إلى كائنات مشوهة لا قيمة لها ولا معنى.عوالم لا نستطيع فصلها
ما الذي أضافته لكِ تجربة اللجوء، على صعيد الكتابة، وهل يعيش النص المكتوب حياة جديدة عبر مسرد الحكاية؟
التجربة تساعدك في الاقتراب من الحدث لتخوض في التفاصيل باقتدار، لكن النص هو الذي ينفخ فيها الروح ويُفصح عن التفاصيل التي تجسد الوجع، والعمل الروائي هو عوالم لا نستطيع فصل بعضها عن بعض، قد يغرف بعضها من الخبرات الشخصية أو من القراءات أو تجارب الآخرين، لكنها في كل الأحوال، تعود إلى ما تختزنه ذاكرتنا الجمعية وما يترسب في عقولنا اللاواعية لإدارة الحكاية بصورة مغايرة لم يكن يتوقعها حتى الكاتب نفسه.
هل للاستهلال الروائي دورٌ في اتساع أفق الحكاية أو القصة الروائية بما يخلق شغفًا لدى القارئ، وما علاقة التوثيق بدمج عنصر السرد، أسلوبًا ولغة، حدث في امتداده زمنًا ومكانًا وجهات ومكابدات شتى؟
لحظة السرد هي اللحظة التي تختطفنا لنغرق في تفاصيل القصة أو الحكاية دون أن نبذل المزيد من الجهد في إدارتها، حيث إننا حينها لا نملك إلا أن نكتب، وتسبقها أوقات طويلة من العمل الدؤوب، خاصة فيما يتعلق بالعمل الروائي الذي ينقل القاصّ من اقتناص لحظة السرد للتعبير عن فكرة أو إحساس على شكل قصة قصيرة مثلًا أو خاطرة، إلى بناء متكامل الأركان، يتطلب الكثير من الحنكة والمهارة والتخطيط لإدارة العوالم التي يقتحمها الكاتب باقتدار. والتشبع الذي يصل إليه الكاتب من خلال البحث والتوثيق والاطلاع واكتمال التصور بقدر الإمكان، يساعده على التقاط لحظة السرد، ليغرق في ذلك العالم الساحر بتفاصيله غير المدروسة أحيانًا، والمدهشة أحيانًا كثيرة.الزمن الروائي هو الزمن الذي يخلق الشخصيات والمواقف، ويجعل لها معنى يستحق أن نخوض به غمار السرد، وأحيانًا يصبح الزمن هو البطل الرئيسي في العمل، ولولاه لما استحقت رواية أن تولد.
ما موقع الزمن الروائي فيما تجترحه الكاتبة نجلاء العمري، وعلاقة ذلك بمصادركِ الأولى في اقتفاء أثر السرد واتساقه فنيًّا كونه رؤية وموقفًا بعينه؟
الزمن الروائي هو الزمن الذي يخلق الشخصيات والمواقف، ويجعل لها معنى يستحق أن نخوض به غمار السرد، وأحيانًا يصبح الزمن هو البطل الرئيسي في العمل، ولولاه لما استحقت رواية أن تولد. والزمن الروائي بالنسبة لي قد يتأرجح بين الماضي والحاضر، ليعبر عن تحولات عميقة ودقيقة، سواء في حياة مرحلة أو أفراد.
هل تتركين الأمر لمحض تبدلات وانعكاسات الحدث في دائرية المتن الروائي، أو أن تعبيرات ومعادلات موضوع الرواية من يحدد وجهة وفعل الكتابة لديكِ، بأوجه عدة؟
الكتابة هي فنّ الإدهاش، وفي رأيي لا يستطيع الكاتب إدهاش القارئ إذا لم تكن لديه المرونة لتغيير بعض الأحداث حسب السياقات التي تخرج أوقاتًا عن سيطرته، وهذا ما أسميته مسبقًا بتمرد الشخصيات، إذ تستطيع أحيانًا تغيير بعض الأحداث وقيادة الكاتب إلى حيث تشاء. وفي هذه المساحة من الحرية، يتجسد السحر بأبهى صوره، فلا نعود ندرك مَن كتبَ الآخر؛ أهو السارد الذي يعبر عن الشخصيات أم العكس. وبشيء من الحِرَفية، يستطيع الكاتب السيطرة على بعض جموح الشخصيات، لكنه قطعًا لن يستطيع كبح جماحها تمامًا، بل وليس من صالح السرد أن يتحول إلى أطر وقوالب مُعدَّة سلفًا وغير قابلة للتعديل والتطوير. تدوير الأعمال الأدبية
ربما اختلفت القراءات حول أعمالك، وبالخصوص منها التي أنجزتها في مغترَبات إقامتك ونزوحك على مدى ما يقرب من عقد مضى؟
صحيح، وغالبًا ما يُثري الاختلافُ النصوصَ ويُغنيها، وهذا ما يتمناه كل كاتب، حيث إن العمل الجيد هو الذي يولّد أعمالًا أخرى، سواء كانت قراءات نقدية أو نصوص موازية تأثرت بالعمل وارتفعت به. لذا نتمنى دائمًا إعادة تدوير الأعمال الأدبية من خلال الدراسات النقدية والقراءات التي تنبش النصوص وتصل إلى أعماق المعاني.
لكن جوهر ما اقترحه النقد تجاه عملك الأخير، أنه رأى فيه ملخصًا إنسانيًّا عن حكاية التشرد والألم والحيرة التي كُتبت على النساء اليمنيات الباحِثات عن حياة أفضل في بلدان أخرى؟
أصدرت روايتي الأخيرة (نساء هاربات) قبل أشهر؛ لذا لا أعتقد أنها قد نالت حقها من النقد والقراءة، حيث إن تلخيص أي عمل روائي محاولة لابتساره وغمطه حقه، كما ذكرت مسبقًا، و(نساء هاربات) شخصياتُها بعضُ النساء المهاجرات وطالبات اللجوء، لكنها تخوض في قضايا شتى، وتغوص في تفاصيل إنسانية عميقة؛ لذلك أتمنى أن تحصل هذه الرواية على حقها من الدراسة والنقد، وتصل إلى جمهور عريض من القراء.
هل تُضمر الرواية دلالات مغايرة لتأويلات التلقي وتتجاوز التفسيرات المباشرة التي قد لا تستغور دواخل العمل بصورة أو بأخرى؟
بالتأكيد، وإلا تصبح الرواية مجرد عمل فقير لا يُغني روح القارئ ولا يمده بالفيض، والكثير من الروايات تحتاج إلى قراءة ثانية وثالثة، وفي كل مرة نكتشف الوهج الذي كان مستترًا وراء بعض الأحداث أو خلف السطور، ونتعرف على أنفسنا من خلال تلك الرؤى التي تتكشف لنا مرة بعد أخرى، وحسب الوعي والتجلي الذي نقرأ به العمل ونتماهى معه.