أنا من أبٍ صنعانيّ وأمٍّ مصرية من أصول صعيدية. بيئتان مختلفتان من حيث العادات والتقاليد الاجتماعية، لكنهما أنتجتا وعي فتاة بالحياة. التحقت بمدرسة حكومية في مدينة صنعاء التاريخ مع عدد كبير من الفتيات الصنعانيات اللواتي صار معظمهن اليومَ جدات بكل تأكيد، ويمثّلن ركنًا كبيرًا في الحياة الاجتماعية في مدينتي. أفرح وأُسرّ كثيرًا عندما أراهن مصادفة ويتعرفن عليَّ بسهولة، كوني كنت إحدى المرشدات في فرقة الكشافة المدرسية.
انتهت الدراسة الثانوية وبدأت مرحلة جديدة، أدركت معها أهمية التسلح بالعلم، فتوجهت لدراسة اللغة الإنجليزية بعد يوم واحد فقط من إنهائي اختبارات الشهادة الثانوية العامة لشغفي الكبير بتطوير ذاتي، وهنا كانت البداية.
البداية التحدث باللغة الإنجليزية، ولم أنتبه باكرًا إلى أنّ مدينتي تستقبل زوّارًا من كلّ الجنسيات، وأني أعيش في مدينة عالميّة مسجّلة في قائمة اليونسكو، ولم أعلم بشوق الغرب لزيارتنا والتعرف على ثقافتنا وبيوتنا ونمط حياتنا، وأنّنا محط أنظار واهتمام الكثير، إلّا حينما خضت في غمار الحياة العملية كمرشدة مبتدئة.
لم أكتفِ باللغة الإنجليزية، أردت تعلم الألمانية أيضًا، وهنا تلبسني سؤال: أين سأطبق ما درسته؟ فراودتني أفكار عملية، ومنها زيارة الفنادق السياحية في المدينة العتيقة بغرض الاستطلاع، حيث كنت أسكن بالقرب من بعضها. توجهت أنا وصديقة لي إلى فندقٍ سياحيّ يخص عائلة صنعائية عريقة (بيت غمضان)، ورأينا في بهو الفندق سائحًا ألمانيًّا، وكانت صديقتي تجيد اللغة أفضل مني، فتحدثنا معه لبعض الوقت وعن مشاعره حيال اليمن وصنعاء تحديدًا، وشعرت بسعادة غامرة وهو يصف المدينة وأهلها بكثيرٍ من الحُبّ، ومع ذلك انتابني شيءٌ من الارتياب والخوف بين طموحي في التعلم والمشاركة في الحياة العامة وبين قيود الواقع شديدة التكبيل. وبمشاركةٍ من واحدة من العائلة المالكة للعقار، طفنا البيت الذي صار مقصدًا سياحيًّا، واندهشت من تفاصيله التي تحولت إلى فندق مزين بالتحف القديمة والستائر والمفروشات التقليدية، فمثل هذه الأشياء لم نعد نراها كثيرًا إلا في بعض حوانيت سوق المدينة القديمة، بعد أن تخلص المجتمع المحلي من "الأنتيكات" القديمة واستبدلوها بالأثاث العصري الحديث، وهذا كان أحد أهم تحديات الحفاظ على التراث الثقافي الذي يبدأ من البيت والأسرة والمجتمع المحلي، كلٌّ بخصوصيته الثقافية.
بعد ذلك، بدأت بزيارات مرتبة إلى الفنادق التقليدية في المدينة، لمقابلة السائحات الأجنبيات اللاتي يرغبن بخدمة الإرشاد السياحي، التي كنت قد بدأتها أصلًا حينما عرضت عليّ إحدى السائحات الأستراليات أن أرافقها في أحياء المدينة وأسواقها، فتعرفت معها على عدة مقاصد سياحية، ودخلت إلى أعماق السوق القديم الذي كنت لا أعرف منه سوى ما يعرضه من أكلة "البرعي والزلابيا" –بازيلاء داكنة مطبوخة(العَتَر)، وأقراص خبز مقلية بالزيت- وفي موضع محدد منه (سوق اللقمة)، وإذا بي أكتشف أنّ السوق بتقسيماته الوظيفية وتفريعاته وأزقته وحوانيته متحفٌ حقيقي مفتوح، يحوي الكثيرَ من الكنوز الثقافية التي راكمتها المدينة خلال تاريخها الطويل. تعرفت بعد ذلك على المراكز الحرفية والسماسر و"الأتيليهات" الحديثة التي جهّزها فنّانون معروفون، إلى جانب متحف البيت الصنعاني الذي يقدم صورة بانورامية للحياة اليومية في البيت التقليدي في المدينة، والغريب أنه كل ما ذكرته من معالم لا تبعد كثيرًا عن مسكني في قلب المدينة. هنا كبرت برأسي تساؤلات عديدة: أين أنا، وهذه صنعاء التي لا أعرفها وأنا ابنتها؟ ويعرف تاريخها وإرثها الأجانب من الشرق والغرب، وصارت مقصدًا سياحيًّا لهم!
لم يحدث أي تغيير في مباني الحمّامات القديمة ووظائفها، فهي ما زالت مزينة بالقباب الجميلة، وتحتفظ بتفاصيلها القديمة ومسميات مكوناتها.
عن حمامات المدينة
من هنا قررت التعرف على المدينة بنفسي، وبدأت أتابع وأقرأ الصحف الناطقة بالإنجليزية، مثل (يمن تايمز)، وصرت أترقب السائحات الأجنبيات للتحدث إليهن، كما بدأت بعض الأفكار تراودني لتصميم برنامج سياحيّ متكامل على ضوء مرافقتي للسائحة الأسترالية، فهي صاحبة الفضل الأول في ذلك، وهنا يتوجب التوقف قليلًا عند هذه المرافَقة، التي بدأناها من حمَّام صنعاني بتفاصيله الجميلة التي تعتبر نعيمًا من نعيم الدنيا؛ كما قرأته عن سيدة سورية مسنّة، قالت إن "الحمَّام نعيم من نعيم الدنيا".
بعد ذلك، عرفت أن بمدينة صنعاء القديمة 17 حمّامًا، وتعود كلها تقريبًا إلى فترة الوجود التركي في اليمن، غير أنّ دراسات أخرى تقول إنّ أصل الحمام حميري، وكانت استدلالاتها من وجود أحواض وقنوات ماء في مبانٍ تاريخية قديمة، ومنها مبنى قصر السلاح (شرقي المدينة)، الذي يقال إنّه بُني على أنقاض قصر غمدان المذكور في كتب التاريخ.
وفي هذا الجانب، يقول المؤرخ الدكتور حسين عبدالله العمري، في دراسة له عن «الحَمّام» في اليمن، بأن تاريخ الحمامات في بلادنا يرجع إلى ما قبل الإسلام، وكانت تبنى بجوار المعابد، كما كانت بعد الإسلام تبنى في الغالب إلى جوار المساجد لصلة النظافة بالطهارة وواجب التطهر «الاغتسال» قبل أداء فروض الصلاة والعبادة.
وتعمل على إدارة هذه الحمامات بوظائفها المختلفة، أُسَرٌ صنعانية معروفة، وتشرف على دورات العمل فيها بجداول متداولة في أيام الأسبوع بين النساء والرجال.
لم يحدث أي تغيير في مباني الحمّامات القديمة ووظائفها، فهي ما زالت مزينة بالقباب الجميلة، وتحتفظ بتفاصيلها القديمة ومسميات مكوناتها، مثل: "المخلع" وهو الموضع المخصص لخلع الملابس، "الصدر" وهو مكان يرقد تحته الموقد الكبير المخصص لتدفئة الحمام بالحطب والمخلفات، "الخلوة" وهي المكان المخصص للاختلاء الشخصي، وهو مرتفع السعر قليلًا، "المساربة" وتعني الأحواض العامة الواحد تلو الآخر، "حمَّامية" أو "حمّامي" الشخص المختص بإدارة الحمَّام، "مكيِّس" مختص بخدمة الزبائن (التدليك)، "الكِيْس": قطعة قماش خاصة تساعد على إزالة الجلد الميت والأوساخ من سطح الجسم. وقد اعتاد سكان المدينة الذهاب بشكل دوري إلى الحمامات، ليس فقط من أجل الاغتسال، وإنما لأغراض صحية، كالتداوي من الزكام، وآلام المفاصل، وغيره.
وهناك عادات مرتبطة بالذهاب للحمامات الشعبية الحمام في مناسبات الأعراس، حيث تذهب العروس وصديقاتها إلى الحمّام، وتُكسر بيضة خارج المكان قبل دخولها كنوع من الحرز من العين والشياطين. وبمجرد رجوع العروس من الحمام تكون هناك مغنية شعبية بطبل وتسمى "لقفة"، أي تلتقف وتستقبل العروس بقرع الطبل وكلمات الزفة الترحيبية بها، وتظل تذكر أهلها جميعًا إلى أن يصلوا إلى مائدة الطعام، طبعًا وهي لابسة الستارة المتعددة الألوان (غطاء الرأس)، وقديمًا كان يستخدم "الشمط"، وهو قطعة قماش متعددة الألوان خامتها تختلف عن خامة الستارة.
وتكون العروس في هذا الوقت مزينة بنبات الشذاب وأعشاب عطرية أخرى، ومُبخَّرة ببخور التثوير هو خليط من المستكا والجاوي وبعض الأعشاب الأخرى، وكل ذلك من أجل حفظها من العين حسب المعتقد الشعبي. وبعد العصر تأتي النساء وهن يرتدين الملابس الشعبية، منها: المَصَرّ الطالعي والنازلي (تاج شعبي من أقمشة مخصوصة، وقد يكون مطعّمًا بالفضة أو بمعادن أخرى خفيفة مشغولة بعناية، وكل نساء صنعاء القديمة يتنافسن على الظهور به، ومعظم النساء يحتفظن به لسنوات ويورثنه للبنات والحفيدات).
تقول المهندسة آلاء الأصبحي، في كتابها (الحمامات البخارية في مدينة صنعاء القديمة)، عن الدور الاجتماعي للحمام وطقوسه:
"لا يجوز لوالدة العروس الذهاب إلى الحمام مع ابنتها لعادة قديمة؛ فالوالدة تقوم باستقبال ابنتها بزفة عند رجوعها من الحمام، حيث يتم تجهيز عزومة غداء على شرف العروس، مع وجوب تواجد الوالدة في المنزل لاستقبال الضيوف ومتابعة التجهيزات. ولا يختلف العريس (الرجل الحريو) في هذا الطقس عن العروس، حيث يتم زفه إلى الحمام مع مجموعة من الأصدقاء، ويجلسون على المصاطب، وتقدم لهم قهوة القشر، ويقوم المنشد والموسيقيّون الذين يكونون عادة من المكفوفين، بالغناء والإنشاد ويحنّون العريس ويغسلونه "يمحطُوه"، ويزفونه وقت دخوله إلى البيت. كانت الحمامات تلعب دورًا مهمًّا في مجال الخطبة والزواج، فالخاطبة تحرص دائمًا على التواجد في هذا المكان، وهذا الدور لم يكن في اليمن فقط بل حتى في البلدان الأخرى، على سبيل المثال في مصر المملوكية والفاطمية".