في لحظة ذعر، تساءل الروسي ليون تولستوي: "ماذا تريد الموسيقى مني؟"، بينما قال عنها عباس محمود العقاد "إنها تعبير عن حالات نفسية". كان الفيلسوف هيجل يشاركه الرأي بأنها أكثر الفنون إثارة للعواطف، وابن سيناء أوجد تعريفًا لها بأنها "علم رياضي يبحث فيه عن أحوال النغم". وبعين المحب نظر إليها جبران خليل جبران كمحبوبته.
كيف تشكّلت علاقة الأدباء بالموسيقى وأعمالهم؟
تساعدنا الموسيقى في بناء الذوق الجمالي والفني، فقد رأى بلزاك أنها وحدها لها القدرة على التغلغل في أعماقنا عن بقية الفنون. وكان أرسطو يقول إن الموسيقى يُمكِن استخدامها وسيلةً تبدد عن الإنسان العناء. بينما كانت لدى أدباء إلهامَهم الذي يُستمد من نوتاته خطوط أعمالهم الروائية.
حظيت الموسيقى بتقدير واسع في المجال الثقافي، وكوّنت طقسًا للكتابة لدى بعض الأدباء، ممّا جعل لكلّ كاتب لحنه الذي يتجانس مع كلماته وإبداعه، ويكسر صمت العمل الأدبي. وقديمًا، أولى اليونانيون اهتمامًا بالموسيقى، فكان الشعر لا ينشد إلا بها. من هنا، تشكّلت العلاقة بين الموسيقى والأدب، وكسبت فيه مكانة في قلوب الأدباء وحضورًا في أعمالهم.
في كتاب "روح الموسيقى" للمؤلف سمير الحاج شاهين، الذي بيّن فيه أهمية الفنون للبشرية وارتباط الموسيقى بالإنسان، يقول إنّ "هدف الفن النهائي هو تخفيف الهمجية وتهذيب الأخلاق؛ لأنه يترك الإنسان وجهًا لوجه أمام غرائزه وكأنها غريبة عنه، وبهذه الطريقة ينقذه منها".
نجيب محفوظ كان مولعًا بالموسيقى وذا صوت جميل، وأتقنها كما أتقن عدة فنون أخرى، فقد كان ملمًّا بالموسيقى الشرقية والأوروبية، ودائمًا كان يتحدث عن علاقته وارتباطه بها، ودورها في حياته، وقد قال: "أحببت الفنون التشكيلية والموسيقى، لدرجة أنّ شغفي بالموسيقى يكاد يفوق شغفي بالأدب".
امتدّ به هذا الشغف إلى التوسع في مجال الموسيقى، فقد التحق وهو طالب بمعهد الموسيقى لتعلم العزف على آلة القانون، رغم أنه لم يكمل دراسته بسبب تحضيره لاختبار الكلية، أحب الأصوات الغنائية وامتاز صوت منيرة المهدية بمكانة في قلبه، ووصفها بأنها من أجمل الأصوات النسائية خلال القرن العشرين، وقد كان يرى كيف لعب الفنان سيد درويش ومحمد عبدالوهاب دورًا مهمًّا في تطوير الموسيقى العربية. أحب أيضًا، حدَّ التعصب، صوت أم كلثوم، رغم أنّ لقاءه بها كان مرة واحدة في عيد ميلاده، عندما طلب منها محمد حسنين هيكل الحضور إلى احتفال في مؤسسة الأهرام سنة 1961، وكان يرفض أي مقارنة بها وبليلى مراد أو أسمهان، وقد توج هذا الإعجاب بأن سمّى ابنته على اسمها.
على عكس ذاك الإعجاب بصوت كوكب الشرق، المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد سجّل في سيرته "خارج المكان" نفوره من حفلات أم كلثوم، فقد حضرها في عمر التاسعة ولم تنل إعجابه بل سبّب صوتها له صدمة ممّا جعل تجربته مع الموسيقى العربية سيئة بعكس شغفه بالموسيقى الغربية وبالبيانو، فقد أتقن عزف البيانو منذ سنّ مبكرة.
عباس محمود العقاد، لم تفلت الموسيقى من اطلاعه، فقد اعتنى بالموسيقى وألمّ بها وقد أبدى رأيه في عدة فنانين وملحنين، ومثل أدباء تلك المرحلة أبدى إعجابًا كبيرًا بسيد درويش، وقد كتب في وفاته مقالًا يرثيه به، مذكرًا بأن له الفضل في إدخال عنصر الحياة والبساطة إلى الغناء واللحن بعد أن كان مثقلًا بالتقليدي الذي لا حياة فيه.
ولم يكن مجال اطلاعه مقصورًا على الموسيقى والغناء الشرقي فقط، بل فتح أذنيه للتأمل في موسيقى بيتهوفن الذي يصفه بـ"البائس العظيم"، و"شكسبير الموسيقى"، وشوبان، ويوهان شتراوس الأب، وصاحب أوبرا عائدة الإيطالي جوزيبي فيردي، وكان معجبًا به كونه قد جدد الموسيقى الإيطالية لكنه لم يخرج عن طبيعتها، وكان يرى الإيطالية هي "الموسيقى الإنسانية التي تلمح سيماها في كل أمة وزمن". بينما لم تكن تنال إعجابه موسيقى الجاز، وكان يوافق رأي خروتشوف حين وصفها بأنّها "تصيب السامع بالمغص".
لم يكن نفور تولستوي من الموسيقى نفورًا كليًّا، فقد كان من المستمعين لشوبان وباخ، بينما لم ينل إعجابه بيتهوفن، رغم أن له قطعة موسيقية ألهمته تأليف رواية تحمل اسمها "سوناتا كرويتزر" تناول فيها العلاقة الزوجية والتي عكست علاقته السيئة مع صوفيا زوجته.
عندما يستمع العقاد للموسيقى على الفونوغراف فهو يستمع بكل حواسه وبتهذيب لا ينشغل عنها بشيء آخر، فبرأيه أنه "ليس من كرامة الموسيقى أن تنشغل بشيء آخر وأنت تستمع لها". وكان يحب الاستماع في هدأة الليل أو ساعات الهدوء الأولى بعد الاستيقاظ.
في كتابه "تأملات في الأدب والفن"، تحدث توفيق الحكيم عن ثلاثة فنانين لامعين في الموسيقى العربية قد عاصرهم الحكيم، وهم: سيد درويش، وكامل الخلعي، وداوود حسني. ربطته علاقة صداقة قوية مع عبدالوهاب، وكان يتحدث دومًا عن براعته في اقتباس الألحان الغربية إلى الشرقية ورؤيته للموسيقى وتطويرها، بينما قال عن صوت عبدالحليم حافظ إنه "كقماش القطيفة" ناعمٌ كأنه ينبع من أعماق قلبه، وقد أصدرت مجلة الهلال في عدد خاص (1968) كتابًا بعنوان "توفيق الحكيم والموسيقى".
استلهم الكاتب إبراهيم عبدالمجيد روايته من معزوفة "أداجيو" للإيطالي، "تومازو البينوني" والتي تحمل اسمها، اتسمت المقطوعة بالحزن، فتجدها تنساب مع أحداث الرواية الحزينة، وعزفت في مشهد تشييع البطلة عازفة البيانو. حبّ الموسيقى لدى الكاتب إبراهيم قد انعكس في أعماله الأدبية، فلا يكاد يخلو عمل له من تواجد عنصر الموسيقى.
في رواية الألماني هرمان هيسه "لعبة الكريات الزجاجية"، تجد تناول الموسيقى بشكل مختلف، حيث ثمة ارتباط روحي بينها وبين الإنساني؛ يقول في روايته: "هناك منذ أقدم العصور في الصين وكذلك في الأساطير عند الإغريق فكرة تلعب دورًا هامًّا، وهي فكرة حياة فكرية مثالية سماوية للإنسان تسيطر عليها الموسيقى".
وضع الكاتب تأملاته الموسيقية، ودرس موسيقى القرن الثامن عشر لأجلها، وفي ترجمة مؤمن الوزان لخطاب هيرمان هيسه أثناء تسلمه الجائزة، قال: "كانت لي دائمًا علاقة حميمية وودودة مع الفنون الجميلة، لكن علاقتي مع الموسيقى كانت أكثر حميمية وإنتاجًا، ووجدتُ تأثيرها واضحًا في كتاباتي".
من ألمانيا إلى رواية كافكا على الشاطئ للياباني هاروكي موراكامي، كانت شخصية البطل شغوفة بالقراءة والموسيقى، وينتقل موراكامي في روايته ليتحدث عن هايدن وشوبرت وبيتهوفن، وهذه ميزة أعماله؛ أنها تحتوي على توليفة من الموسيقى، فهو يأخذك من الجاز إلى الروك ومن الكلاسيكية إلى الأوبرا، فلكل شخصياته موسيقاها التي تناسبها. يصف اللحظة الأولى التي ارتبط بها بالموسيقى: "شعرت بموسيقى غريبة وخاصة تجول برأسي، وتساءلت في سري عما إذا كان من الممكن نقل تلك الموسيقى إلى الكتابة"، من تلك اللحظة أطعم أعماله الأدبية هذا الحب الموسيقي.
في روايته "كائن لا تحتمل خفته"، كتب ميلان كونديرا أثناء وصف إحدى شخصياته للموسيقى بأنها: "محررّة، إذ تحرره من الوحدة والانعزال ومن غبار المكتبات، وتفتح في داخل جسده أبوابًا لتخرج النفس وتتآخى مع الآخرين".
هذا الوصف لم يكن بعيدًا عن شخصية كونديرا، الذي درس علم الموسيقى. كان والده الموسيقي لودفيك كونديرا عالم موسيقى وعازف بيانو، وقد تعلم على يده عزف البيانو من صغره، ثم درس الموسيقى والتأليف الموسيقيّ، جعله هذا ينجح في توظيفها في رواياته. وقد قال إنّ "كل جزء من رواياتي يمكن أن يحمل مدلولًا موسيقيًّا: موديراتو، بريستو، أداجيو... إلخ".
في كتاب "فن الرواية"، وجه له سؤال عن تأثير تربيته الموسيقية على كتاباته، وأجاب: "حتى سنّ الخامسة والعشرين من عمري كنت منجذبًا إلى الموسيقى أكثر من الأدب، إنّ أفضل شيء قمت به كان تأليفًا موسيقيًّا أنجزته لأربع آلات، كان هذا التأليف يجسّد مسبقًا على نحو شبه كاريكاتوري معمار رواياتي التي لم يكن يدر في خلدي حينذاك أنها سوف يكون لها وجودٌ مستقبلي".
لم يكن نفور تولستوي من الموسيقى نفورًا كليًّا، فقد كان من المستمعين لشوبان وباخ، بينما لم ينَل إعجابه بيتهوفن، رغم أنّ له قطعة موسيقية ألهمته تأليف رواية تحمل اسمها "سوناتا كرويتزر" تناول فيها العلاقة الزوجية والتي عكست علاقته السيئة مع صوفيا زوجته، كانت تلك اللحظة التي استمع فيها لبيتهوفن ألهمته على كتابة عمل مستلهم من حروبه الزوجية. لتبدو الموسيقى دائمًا القطعة التي يضيفها الكاتب لتكمل جمالية العمل الأدبي.