أحفاد الأئمة يحرمون الغناء

لا يمكن أن تتطور الفنون في مجتمع يحتقر الموسيقى
د. قائد غيلان
July 1, 2024

أحفاد الأئمة يحرمون الغناء

لا يمكن أن تتطور الفنون في مجتمع يحتقر الموسيقى
د. قائد غيلان
July 1, 2024
.

كان الإمام المنصور قد حرّم الغناء وهو يحكم المناطق الجبلية من اليمن، وكانت تهامة حينذاك تحت حكم الأتراك، وفي إحدى المرات ذهب للتفاوض مع الأتراك، فاستغل ساكنو قصره فرصة غيابه، فأحضروا فنّانًا يعزف العود (القنبوس)، ولم يوفق الإمام في مفاوضته مع الأتراك، فقطع المفاوضات وعاد إلى صنعاء. وصل القصر فجأة وقد تناهى إلى سمعه صوت العود، ففوجئ الجالسون وهرعوا لاستقباله، وقد أخفى الفنّان العود أو القنبوس تحت دَجلته، فارتبك وهو يسلم على الإمام وتردّد في مدّ يده للسلام فيطنّ القنبوس ويفتضح أمره، ولكن الإمام فطن لذلك، فقال على الفور: "سلِّم وما طنّ طنّ"، فذهبت مَثَلًا.

ما زال أحفاد الأئمة يُحرّمون الغناء

هذه الحكاية تلخص الموقف من الغناء في صنعاء وما حولها، فقد كان الغناء في صنعاء وما حولها، نشاطًا محظورًا ومُحرَّما، لهذا بقيَ نشاطًا نخبويًّا في أوساط الأدباء والفنّانين أنفسهم، وظلّ محصورًا في بيئة معينة هي بيئة القصور والثراء والمقربين من القصر، وذلك رغم التحريم المعلن للغناء، والقيود المفروضة على من يمارسه أو يستمع إليه.

وما زال أحفاد الأئمة يُحرِّمون الغناء ويمنعونه في عددٍ من المحافظات اليمنية حتى اليوم، وما زال مجتمع صنعاء وما حولها ينظر إلى الغناء والعزف والرقص نظرةً دونية، وإن كان المغني أعلى منزلة من الراقص والعازف، خاصة عازف الناي والمزمار، فالمغني حالة أرقى قليلًا، إذ مارسَه من يعدّون أنفسهم من فئة "السادة"، مثل: محمد أبو نصار، وفؤاد الكبسي، رغم أنّ الأول تعرض للنكران والتخلي من عائلته بسبب ممارسته العزفَ والغناء. لهذا السبب، ربما، بقيَ الفنُّ الصنعانيّ جامدًا لا يتطوّر، فلا يمكن أن تتطور الفنّون في مجتمع يحتقر الموسيقى والفنّ حتى لدى من يمارسونه، وبعضهم يمارسه بجهل وعدم اقتناع؛ إذ يعتبر الواحد منهم الفنَّ مرحلةَ غوى مليئة بالذنوب يجب أن تنتهي بالتوبة، كما فعل أيوب طارش في مرحلة من حياته ثم عاد إلى الفن مرة أخرى، وهذا لا ينطبق على شعراء الأغنية، إذ إنّ أكثر شعرائها كانوا من القضاة والفقهاء، تغلب ثقافتهم الفقهية على ثقافتهم الأدبية؛ إذ لم تكن هنالك دراسة مستقلة للأدب، بل كان تابعًا للدراسات الدينية والفقهية، يدخل إليه الفقيه من باب الثقافة والمعرفة العامة، وليس شرطًا من شروط التكوين العلمي للفقيه أو القاضي، فشعراء الأغنية اليمنية والصنعانية على وجه الخصوص، ينطلقون من خلفية معرفية دينية؛ لهذا تجدهم يختمون قصائدهم بالصلاة على النبي وآله كما يجب أن يُختَم، في عرفهم، كل حديث، كما أنهم، أي الشعراء، بسبب موقعهم الاجتماعي يحتاطون لأنفسهم بأن يغلِّفوا قصائدهم بذلك الغلاف الديني؛ حفاظًا على مكانتهم الاجتماعية بأنهم ما زالوا يتحركون وفق الضوابط الفقهية ولا يتعارضون مع العُرف والدِّين، ولتأكيد أنهم ينطلقون وفق ما يمليه عليهم تكوينهم الثقافي وبيئتهم المعرفية التي نشَؤُوا فيها ويتحركون في إطارها وانطلاقًا منها، وهي بيئة القضاة والفقهاء، فالفقيه عندما يكتب قصيدة يكتبها وهو حرّ من ناحية وليس حرًّا من نواحي أخرى؛ حرّ لأنّه يستطيع الكتابة في أيّ موضوع بما في ذلك المواضيع العاطفية، لكنه مقيّد بشروط الهيبة التي يجب أن يتمتع بها الفقيه أو القاضي ويجب عليه أن يحافظ على تلك الهيبة والمكانة؛ ولأنّ ذلك الفنّ يجب أن يبقى في المحيط الثقافي الخاص ولا ينتقل إلى العامة.

الفنون والآداب التي تبقى هي تلك التي تحتكم لقوانين الإبداع والتطوير والتجديد، فإن لم تفعل ذلك تفقد صفتها الإبداعية وتبقى مجرد (مِهَن) يعتاش منها أصحابها، فإن لم تتطوّر وتبدع لا تعد أديبًا ولا فنّانًا.

والفن في اليمن توقف عن الإبداع، رغم ظهور الكثير من المغنّين لكنهم جميعًا متطفّلون على من سبقهم من الفنّانين، مغنّون كثر وكل إنتاجهم تقليد واجترار لما تم إنجازه في الماضي؛ ذلك لأنّ الفنّ عندهم لم يعد فنًّا، بل أصبح مجرد مهنة، الواحد منهم يحمل عوده وكل يوم تراه في قاعة من قاعات الأعراس، يكرر نفس ما يكرره هو وغيره كل يوم، لا جديد، لا إبداع، لا فن. الفن الذي يُقَدَّم في قاعات الأعراس يحكمه الظرف والمكان والمزاج العام، فالجمهور في ذلك الظرف ينطرب لأيّ صوت ويستحسن أيّ عزف مهما كان رديئًا، هذا الجمهور يضلل المغني فيظن نفسه قد وصل إلى الكمال، خاصة إن كان يتقاضى على ذلك مبالغ كبيرة، فلا يطور نفسه ولا يبحث عن الجديد، بل يبقى يدور في نفس الدائرة، وبعضهم يصطحب معه مجموعة من المشجعين الذين يرفعون أصواتهم بالاستحسان أو بتكرار بعض الألفاظ وكأنّهم سكارى أو محشّشين، كلّ ذلك يلقى قبولًا من المغني أو ربما بطلب منه، ممّا يساعد في إفساد الذوق والتشويش على المتلقي وتخريب معاني الأغنية بتحريف بعض كلماتها.

بقيَت الأغنية الصنعانية في شقّها الكوكباني، حبيسةَ المحلية، وكادت أن تُنْسى، إذ أهملها الجيل الجديد من الفنّانين، إلى أن جاء حسين محب وتخصص في بداياته لتقديم أغاني الفنان محمد حمود الحارثي بصوته الجميل ثم تبعه الفنانون الجدد، أما أغاني الثلاثي الكوكباني فقد ظلت مادة خامًّا لم يقترب منها أحد، باستثناء أغنيتين أو ثلاث قدّمها يــهــود اليمن باستخدام الموسيقى والإيقاع السريع، أفقدها بعض خصوصيتها وشيئًا من جمالها.

لماذا بقيت الأغنية الصنعانية حبيسة المحلية؟

يمتلك اليمني إرثًا ضخمًا من الرصيد الغنائي، إذ يتنوع تبعًا للتنوع الثقافي والجغرافي لهذا البلد، فهنالك الفن الصنعاني (ومعه الكوكباني)، والحضرمي واللحجي والعدني والتعزي والتهامي، وداخل هذه الأنماط تدخل تفريعات وتقسيمات عدة، فمن حيث اللغة هناك ما هو فصيح (حكمي)، ومنها ما هو باللهجات المحلية أو فصيح يتحرر من قواعد الإعراب (حميني)، وهنالك تفريعات أخرى يدخل ضمنها الإنشاد الصوفي والمدائح النبوية والموشحات (اليمنية)، هذا التنوع والثراء شكّل مادة خصبة للغناء في الخليج والجزيرة العربية، فالغناء الحضرمي، وبالذات قصائد المحضار، أوصلها أبو بكر سالم إلى معظم الدول العربية بأدائه الجميل وصوته المميز، فقد تمكّن من توظيف الموسيقى بحيث تخدم الأغنية الحضرمية، ساعده في ذلك قرب اللهجة الحضرمية من لهجات الخليج، إضافة إلى أنّه ساهم في تقديم بعض الأغاني الصنعانية بالآلات الموسيقية، مثل: "رسولي قوم بلغ لي إشارة"، "وا مغرد بوادي الدور"، "يا أحبة ربى صنعاء"، "وا معلق بحبل الحب"، وغيرها، ورغم ذلك ظلّت الأغنية الصنعانية، وخاصة الكوكبانية، حبيسة المحلية لم تجد حظها من الانتشار، ليس لصعوبة مفرداتها بل لطريقة أداء كبار فنّانيها، مثل محمد حمود الحارثي، الذي يكاد لا يفهمه حتى اليمني الذي يعيش في المحافظات الأخرى، على خلاف الأغاني التراثية القريبة من الفصحى، فيفهمها العربي ويطرب لها ويستوعب معانيها، ولهذا تسرّب المغمور منها إلى فنانين خليجيين استغلّوا عدم شهرتها فنسبوها لأنفسهم أو إلى (التراث) دون تحديد تراث أيّ بلد، وللأسف فعل ذلك كبار الفنانين، مثل محمد عبده، والأمثلة على ذلك كثيرة، يكفي أن نذكر (يا منيتي يا سلى خاطري)، و(عليك سموني وسمسموني). 

بقيت الأغنية الصنعانية في شقها الكوكباني -كما أسلفنا- حبيسة المحلية، وكادت أن تُنْسى، إذ أهملها الجيل الجديد من الفنانين، إلى أن جاء حسين محب وتخصص في بداياته لتقديم أغاني الفنان محمد حمود الحارثي بصوته الجميل ثم تبعه الفنانون الجدد، أما أغاني الثلاثي الكوكباني فقد ظلت مادةً خامًّا لم يقترب منها أحد، باستثناء أغنيتين أو ثلاث قدّمها يــهــود اليمن باستخدام الموسيقى والإيقاع السريع، أفقدَها بعض خصوصيتها وشيئًا من جمالها.

•••
د. قائد غيلان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English