الموسيقى و تحولات التذوق

إلى متى سنظل ننظر إلى النقد الفني بريبة؟
جابر علي أحمد
July 14, 2024

الموسيقى و تحولات التذوق

إلى متى سنظل ننظر إلى النقد الفني بريبة؟
جابر علي أحمد
July 14, 2024
.

يولد الإنسان وبداخله نزوع فطري نحو الموسيقى. وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي راجت نظرية تؤكد أن الجنين يستجيب للموسيقى في أشهر تكونه الأولى، وذلك بناء على تجربة قام بها عالمان تربويان موسيقيان في كل من الاتحاد السوفيتي السابق وألمانيا الاتحادية. وقد أوصى العالمان بعد تلك التجربة بضرورة إسماع الجنين شيئا من الموسيقى حتى تتغذى وظائف جسمه بذبذباتها، مما سيكون له أثر إيجابي على نمو استجابته الموسيقية لاحقا. وتشير الدلائل إلى أن التجارب أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن للصوت الموسيقي تأثيره الكبير على وظائف الإنسان المادية والروحية. أما عن التأثير المادي فيمكن الإشارة إلى الوظائف الجسمية التالية: 

تسعى المجتمعات المتحضرة إلى توظيف الموسيقى توظيفا يقود إلى تنمية تجربة الفرد على نحو تتطور معه قدرته على تحقيق أعلى قدر من التفضيلات الجمالية التي بها تقاس درجة تطور الذائقة.

الدورة الدموية، دقات القلب، حركة الهضم، الإحساس بالجوع والظمأ.

وأما عن التأثير الروحي فيمكن الإشارة إلى: مشاعر اللذة والألم، الشعور بالحرية والانطلاق، والتغلب على حالات نفسية كالكآبة والخوف واليأس.

ومما له دلالة خاصة أن التجارب أثبتت أن ثمة معادلا موسيقيا لكل الذبذبات الفسيولوجية الصادرة من أعضاء الجسم، كالتنفس ودقات القلب والتوتر ... إلخ. ذلك أن نسيج اللحن الذي يتسلل إلى الإنسان عبر جهاز السمع تنطوي ذبذباته على خلايا صوتية تتسم بالتوتر والهدوء والارتفاع والانخفاض ... إلخ. تنفذ هذه الخلايا إلى ما يُسمى العقلَ الباطن، ممارسةً تأثيرا هائلا على الإنسان. ومن هنا تأتي حقيقة أن فن الموسيقى رغم كونه أكثر الفنون تجريدا فإنه أكثر تأثيرا. وبناء على ذلك تسعى المجتمعات المتحضرة إلى توظيف الموسيقى توظيفا يقود إلى تنمية تجربة الفرد الموسيقية على نحو تتطور معها قدرته على تحقيق أعلى قدر من التفضيلات الجمالية التي بها تقاس درجة تطور الذائقة الموسيقية. وهذا يعني أن التذوق الموسيقي المثالي ليس مجرد حالة طارئة تحدث للفرد كيفما اتفق، بل هو ظاهرة تتطور وفقا لمقتضيات تربوية موسيقية تبدأ حلقاتها من سن مبكرة في حياة الإنسان. هذا ما أدركه اليونانيون قديما، وبالتالي راحوا يبحثون عن المداخل الأساسية لتربية موسيقية تمكن الفرد من رفع استجابته الموسيقية. وتمكن اليونانيون منذ البداية من إماطة اللثام عن العلاقة بين المعرفة الموسيقية والتذوق الموسيقي . من هنا نفهم كيف أن الفيلسوف أفلاطون شدد في كتابه الذي يحمل عنوان (جمهورية أفلاطون) على إيلاء مسألة التربية الموسيقية أهمية قصوى لتأهيل الفرد تأهيلا يمكنه من امتلاك ناصية التفضيل الجمالي الذي به تقاس الدرجة التي وصل إليها الفرد في الحكم والاختيار. وهناك تفاصيل كثيرة تتعلق بهذا الموضوع، وهي تفاصيل تعكس علاقة التربية الموسيقية بمؤسسات الدولة والنخب النافذة في الحياة الاجتماعية والثقافية.

التربية الموسيقية ومستوى التذوق

في العصر العباسي نشطت حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية، وهي الحركة التي تعرف العرب من خلالها على تفاصيل العلاقة بين التربية الموسيقية ومستوى التذوق الموسيقي. وظهرت نظريات في هذا الصدد. لعل أبرزها نظرية المفكر أحمد السرخسي عن ماهية التذوق الموسيقي ومحتوياته لدى الأفراد. قسم هذا المفكر المتذوقين إلى ثلاث فئات: 

الفئة الأولى: فئة تجهل أصول الغناء والشعر والنحو والعروض، وهذه الفئة سريعة الطرب لما تسمع بغض النظر عن قيمته الفنية.

الفئة الثانية: فئة على علم بأصول الشعر والنحو والعروض ولا تعرف أصول الغناء. وهذه الفئة تطرب بمقدار أقل من الفئة الأولى.

الفئة الثالثة: فئة على علم بأصول الشعر والنحو والعروض والغناء. وهذه الفئة يرتبط طربها (تذوقها) بمعايير فنية صارمة لا تتوفر في كل مسموع. وحسب هذه النظرية تكون العلاقة بين تمثل المعايير الفنية المثالية والتذوق علاقة طردية، وجهل تلك المعايير والتذوق علاقة عكسية.

ومع كل موجة حضارية سابقة أو لاحقة تظل مسألة التذوق الموسيقي معيارا مهما في تحديد درجة التطور الذوقي لدى الأفراد والجماعات.

مع النهضة الأوروبية التي بدأت في القرن الرابع عشر حدث تطور نوعي في التعاطي المعرفي الموسيقي لدى نخب المجتمع. ويستمر ذلك التطور إلى القرن السابع عشر، حينما ظهرت الصحافة. وبظهورها فُتح الباب أمام حراك نظري موسيقي قاد إلى ما بات يُطلَق عليه (النقد الموسيقي) الذي كان الهدف من ورائه نشر الثقافة الموسيقية على أوسع نطاق حتى يتمكن الناس من التعاطي الموسيقي على نحو أفضل.

أما في البلدان المتخلفة فقد كان الأمر يسير على نحو عكسي تماما. ولأن البلدان العربية تصنف على أنها تدخل في نطاق البلدان المتخلفة فلم تظهر فيها صحافة تعنى بنشر الثقافة الموسيقية. وكان الفنانون يكتفون بتبادل المعارف الموسيقية التقليدية في مجالسهم الخاصة. وحتى النهضة الموسيقية التي ظهرت في مصر والشام واليمن والعراق في القرن التاسع عشر يلاحظ أنها اقتصرت على الجانب العملي، وظل بالتالي الجانب التنظيري غائبا عن المشهد الموسيقي. ومما يؤسف له أنه عندما دخلت الصحافة الموسيقية حيز الحياة الفنية لم تكتسب ذات الأهمية التي اكتسبتها في أوروبا التي من المعلوم أن الذين تصدوا فيها للقضايا الموسيقية مؤلفون موسيقيون أفذاذ أمثال: كارل فيبر، روبرت شومان، فيكتور، برليوز، ريتشارد فاجنر، هوفمان.

بالأمس كانت لدينا منابر تستقبل مقالات النقد بصدر رحب. أما اليوم فإن وسائل التواصل الاجتماعي فتحت الباب أمام ترهات قادت إلى حالة من البؤس المعرفي الموسيقي الذي عمقه كثيرا غياب المعايير النقدية المتعارف عليها.

الريبة من النقد الموسيقي

ومن الظواهر الجديرة بالتنويه ظاهرة المؤلف الألماني جلوك الذي انبرى يواصل الكتابة الموسيقية لغرض واحد، ألا وهو توضيح وتفسير تجاربه التجديدية في المسرح الغنائي من حيث الدوافع والآليات والروافع الجمالية التي تقبع وراء جهوده المسرحية الغنائية. إنها لحظة إنسانية معرفية موسيقية رائعة تلك التي أسس فيها اولئك الموسيقيون ما أصبح يطلق عليه (النقد الموسيقي،) وهو الميدان المعرفي الذي لم يتمكن اليمنيون حتى الآن من إدراك أهميته بفعل سلوك ثقافي يسعى دائما إلى شخصنة الأمور، ما يكون له أثر سلبي في تطوير حركة نقد موسيقي حقيقي يمارس دور التصويب والتبصير والترشيد لكي يتأمن لمسار الحركة الموسيقية خط سليم محكوم بمبادئ جمالية موسيقية تلزم كل أطراف الحراك الموسيقي التقيد بحيثياتها على نحو صارم، حتى وإن أدى ذلك إلى ما يسمى بنقد النقد.

والسؤال الآن: إلى متى سيظل اليمنيون ينظرون إلى النقد الموسيقي نظرة لا تخلو من الريبة؟ أنا أعلم أن ذلك هو من تداعيات التخلف الذي من تجلياته في اليمن المساواة بين النقد والذم! ودعوني أصارحكم بالقول إننا في ثمانينات القرن الماضي كانت مجلاتنا وصحفنا تستقبل مقالات ناقدة بصدور رحبة، مما شجعني شخصيا على مواصلة الكتابة في معظم الصحف والمجلات التي كانت تصدرها مؤسسات رسمية وأخرى أهلية. أما اليوم فإن وسائل التواصل الاجتماعي فتحت الباب أمام ترهات قادت إلى حالة من البؤس المعرفي الموسيقي الذي عمقه كثيرا غياب المعايير النقدية المتعارف عليها، والتي يمكن حصر بعضها في: 

ممارسة التأليف أو التلحين أو الأداء الموسيقي.

الإلمام بالقواعد والنظريات الموسيقية.

الإحاطة بالمدارس الفنية، وبالدلالة الجمالية للمصطلح.

الغوص في تفاصيل تاريخ وحاضر المجال الفني في المجتمع. 

أن يكون الناقد على صلة بهذه العلوم: 

علم الجمال الموسيقي، علم النفس الموسيقي، علم الاجتماع الموسيقي.

وانا هنا لا أريد التعجيز بقدر ما أقرر حقيقة لا بد من إدراكها، خاصة ممن يطلق عليهم الذباب الإلكتروني الذين باتوا يشيعون من البلبلات ما لا يقبل به عقل أو ضمير.

•••
جابر علي أحمد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English