على مر سنوات دراستي الأساسية، أتذكر حصتين يتيمتين لمادة الموسيقى، عداهما كانت المدرسة جدباء مثل واجب متجهم.
دخل علينا شاب بأنف طويل يتقوس بعظمة بارزة، وشعر مفروق، وقال بأنه مدرس الموسيقى. لا أنسى الفرح الذي غمرني، وحماسي. هل كان يرتدي بلوفر دون أكمام، متصل بأزرار، الأرجح أنه كان يرتدي بنطلونًا أسود وقميصًا أبيض أو مُقلم.
جزء من الذاكرة هو ما نشعر به في أعماقنا. لن أنسى كيف ارتسمت أمامنا الحروف الموسيقية بالطبشور على السبورة. في تلك الحصة المستقطعة من ساعات الدراسة المتجهمة شعرنا جميعًا بفسحة، أتذكر حتى الأكثر مشاغبة منا أنصتوا باهتمام لأمر جديد علينا. وأصبحت أنتظر يوم الإثنين بلهفة ليدخل علينا مدرس الموسيقى، وكتبت على جدولي المدرسي "موسيقى" كزينة تبعث على البهجة. ولم يُكتب لنا الانتظار، فالرياح لا تأتي بما "تشتهي السفن"، يا لها من مقولة مفزعة تثقل أوجاعنا.
لم يكن مدرس الموسيقى يحمل معه آلة موسيقية؛ مجرد عصا قصير ونحيل يضعه على السبورة. ربما استوحى منه نصف دور لمايسترو، متخيلًا انبعاث صوت تلاميذه بلهفة لغناء أو ترديد الحروف الموسيقية، وبالتأكيد ليس لضربنا.
كنت في الصف الخامس، وسمعت منه للمرة الأولى باسم الموسيقي العظيم بيتهوفن. ترك لي اسمه أثرًا مثل السحر، فلم يكن وقتها من الممكن الحصول على أعماله، عدا ما نسمعه ضمن الحلقات الكارتونية الآتية من عالم "ديزني". في مثل عمري آنذاك، ألّف موتسارت أولى سيمفونياته. ولا يمكن أن يتشكل انطباعي لاحقًا في تلك الحدود، فلم تكن هناك آلة بيانو نتعلم عليها.
وفي مدرسة الشعب وقتها، كانت هناك عدة آلات، مثل الأورج الكهربائي، ودرامز، وآلة أوكرديون مهجورة في ركن هناك من المدرسة. لم أنسَ شابًّا مراهقًا، كان يتقمص انفعال عازف في فرقة روك، بحركة اهتياجية واستعراضية وهو ينقل ضرباته على الدرامز بين الطبول، يتخللها ضربات قوية على الصنوج. وربما أثار غيرتي، لأني فضلت وقتها عازف الدرامز الوقور والسمين الذي كان يوقع ضربات مقتصدة وأقل انفعالًا.
جاء الأسبوع الثالث، ولم يأتِ مدرس الموسيقى، أعلنت لنا ذلك معلمة التربية الإسلامية، إن لم تخني ذاكرتي. قالت إن مدرس الموسيقى لن يأتي.
في جنوب اليمن، خلال العهد الاشتراكي كانت دروس الموسيقى تؤخذ بصورة شبه يومية، واتخذ المنهج هناك طابع العهد الاشتراكي، حيث كانت دروس الدين مرة في الأسبوع. بعد الوحدة دخلت عليهم معلمة التربية الإسلامية مبتهجة لتعلن بما يشبه الانتصار، أنه منذ اليوم لم تعد هناك دروس موسيقى، وأصبحت دروس الدين يومية. لكن هل كان لزامًا أن يكون التطهر وقتها، ضحيته دروس الموسيقى. وليس من المهم الخوض في الفضيحة التي تناولت معلمة الدين مع أحد تلامذتها.
حتى اليوم لا أمتلك أي إجابة عن السبب الذي جعل مدرس الموسيقى لا يعود ثانية. هل تعرض لمضايقة دفعته للغياب دون حتى أن يخبرنا، أو لأسباب شخصية ذهب ولم يعد
في الفترة التي درس فيها آباؤنا خلال الستينيات والسبعينيات، في العهد المبكر من الثورة، كانت الموسيقى والرسم جزءًا من النظام التعليمي. ندين بذلك لمصر بقيادة جمال عبدالناصر، التي دعمت الثورة وأرسلت المدرسين لتعليم آبائنا في دور تنويري لإخراج بلد عربي من ظلمة الجهل. ثم لا ننسى دور الكويت لاحقًا في دعمها المستمر للتعليم في اليمن، وكانت استثناء بين دول النفط، التي أرسلت لنا مناهج التطرف والتعصب الديني على حساب الموسيقى والرسم.
تدريجيًّا تضاءل الاهتمام بالموسيقى والرسم. أتذكر في سنوات الابتدائية الأولى أننا كنا ندرس الرسم، وكان مفروضًا علينا شراء كراسات رسم. وبما أنني رديء في وضع الخطوط، لم يتحول الرسم لشغف بالنسبة لي. لكن حصة الموسيقى التي حدثت في الصف الخامس، كانت سريعة الزوال مثل أفراحنا الزائلة سريعًا.
وحتى اليوم لا أمتلك أي إجابة عن السبب الذي جعل مدرس الموسيقى لا يعود ثانية. هل تعرض لمضايقة دفعته للغياب دون حتى أن يخبرنا، أو لأسباب شخصية ذهب ولم يعد. أتذكر كيف رددنا خلفه ببهجة الحروف الموسيقية، ومن يومها لم أنسها. لكنه حين أخبرنا عن بيتهوفن بأنه الأفضل بين الموسيقيين، تغير شيء في وعيي، كان ملتصقًا بتنشئة أن كل ما هو عربي هو الأفضل دائمًا. وربما تشكلت أول نواة لي بالموسيقى الكلاسيكية من يومها، وليس ذلك موضوع حديثي، لأسرد تفاصيله.
ما أتذكره أن حصة الموسيقى لم تبدأ أول العام، ومثل ظهورها المفاجئ ذابت من غبار تلك السنوات العقيمة بشكل مفاجئ. كنت حتى ذلك الوقت من أبرز الطلاب المتفوقين، ثم أصبحت على نقيض ذلك منذ الصف السادس.
لا يمكنني التسليم بأن تراجع اهتمامي بالدروس كان على صلة بمادة الموسيقى التي تم نزعها عنا دون أدنى تبرير، أو تعويض. كيف انتقلت من طالب متفوق، إلى آخر مهمل ولا يشعر بجدوى تلك الدروس. هل كان اعتراضًا مبهمًا على منظومة تعليمية فارغة؟ إنها حكاية لم تثر سوى تساؤل عقيم لدى عائلتي، عن ذلك النكوص المفاجئ، الذي أصبح شيئًا مألوفًا مني على مر السنوات.
لكن دروس الموسيقى والرسم للأسف، صارت من الماضي الجميل للتعليم الحكومي. أحد أصدقائي درس في مدرسة جمال عبدالناصر، كان يشاهد آلة الماندولين ضمن آلات عديدة. بالتأكيد لا يمكن نسيان محمد عبدالوهاب وهو يظهر ممسكًا بالماندولين تتبعه أوركسترا، أثناء غناء "عاشق الروح" في مقطع لفيلم مصري، بطلته ليلى مراد. لكنها ظلت سنوات كذكرى، والأغلب أن تلك الآلات المهملة، أصبحت خردة لا تثير اهتمام أحد.
لن أنسى ابتسامة مدرس الموسيقى، حتى بوجهه الضبابي والمختلط بوجوه أخرى، حيث توزعت حولنا البهجة. طلب منا شراء كراسة موسيقى، المسطرة بخطوط النوتة الموسيقية. وأكد علينا أنه لا بأس من استخدام دفتر عادي إذا لم نحصل على كراسة موسيقى، إذ سيعلمنا كيف نسطر خطوطها. ربما كان إحساسي بالفقدان أكثر مما كنت سأحوزه معرفيًّا في حصة الموسيقى إياها.
قطعًا لدى معظم اليمنيين تصورًا بأن لا صلة بين التعليم والفنون، بل إن الأكثر تطرفًا سيجدها شيئًا فاسدًا. مع هذا كان الإنشاد جزءًا من التدريس في المعاهد العلمية، وإن كانت أغراضها أيديولوجية وعقائدية. ربما كان مدرس الموسيقى ضحية المؤسسة التعليمية التي اتخذت رداء تطهريًّا، وتقليديًّا، وعزمت على تحريم الموسيقى والرسم، عبر مراحل، من المدرسة.
ليس من العجب، الإمعان في إحاطتنا بألوان قبيحة وغناء رديء، ففي ذلك تحدث عملية استلاب واسعة لسرقة أجيال ومصائرهم. فبدلًا من أن تصنع المدرسة أحرارًا، كيفتها السلطات لإخراج جيل من الخاضعين والأقل طموحًا
فالموسيقى والرسم ليست تأسيسًا لغويًّا، لكنها توحي لنا بالأصوات والأشكال التي تلائم لغتنا. فمنها يتطور وعينا مبكرًا في تجريد الأفكار والأشياء. ومن الرموز يزدهر الخيال وتتسع الآفاق، فكلما كان بمقدورنا استخدام الرموز، يكون بمقدورنا مواكبة التقدم والحضارة.
لذا تشكل وعينا مفتقرًا لكثير من المعارف المادية، وعادةً ما يواجه اليمنيون عجزًا في التعبير عن أنفسهم، كانوا كبارًا أو صغارًا. لنشاهد الخطابات التي يتباهى بها الجميع، تفتقر لموسيقى الصوت وللأسلوب. ودائمًا ما واجهنا الواقع بزيف من الانبهار الطفولي، وحتى في تناولاتنا لحقوقنا السياسية والمعيشية، هناك دائمًا مشكلة لغة.
مارست المؤسسات القمعية حظرًا ضد تعميم دروس الموسيقى والرسم، ليسهل عليها التلاعب بقيم الأفراد وتطويعها لمصالحها. فليس من العجب، الإمعان في إحاطتنا بألوان قبيحة وغناء رديء، ففي ذلك تحدث عملية استلاب واسعة لسرقة أجيال ومصائرهم. فبدلًا من أن تصنع المدرسة أحرارًا، كيفتها السلطات لإخراج جيل من الخاضعين والأقل طموحًا.
لا يقتصر التعليم قطعًا على القراءة والكتابة، إنما يتصل بمبادئ أساسية لها شمولية الحياة نفسها. فدروس الموسيقى والرسم ينبغي أن تكون جزءًا من أي نظام تعليمي، ليس لأنها تساهم في تشكيل مبكر لمواهب فنية، لكنها ستساهم في تفجير طاقات خلاقة، وتشجع على تنمية جيل قادر على الابتكار واكتساب مهارات متعددة.
تكمن أهمية الموسيقى، وكذلك الرسم، في كونها منبعًا لتجريد ذهني، فهي أشبه بتدريب مبكر للعقل بجانب الرياضيات، وتتضمن لغتها الفنية الخاصة، مثل كتاب القواعد. وهناك أهمية تتعلق بما يمكنها فعله في تشكيل انحيازاتنا الجمالية في عمر مبكر. أريد أن أرفع صوتي وأقول أعيدوا لنا مدرس الموسيقى، لكن من بمقدوره استعادة الزمن الضائع! حظرت السلطات الجمال كجزء من وسائلها القمعية، وإعادة دروس الموسيقى والرسم، في جزء منه محاولة لتغيير واقع أنهكته النزاعات، وأصبحت المدرسة محل استقطاب أيديولوجي وعسكري في فترة الحرب. ربما يمكنني القول إن شعوري بالخيبة من رحيل مدرس الموسيقى السريع، كان سببًا أيضًا في اضمحلال حماستي للمدرسة.