في شارع مزدحم في حي سعوان شرقي العاصمة صنعاء، لمحتها. كانت تجلس وحيدة على كرسي متحرك، ولم تكن تستجدي. بدت نظيفة الرداء، هادئة، ترقب المارة بعينين تطلّان من خلف نقاب. اقتربتُ منها، ولاحظت شللًا في جانب جسدها الأيمن. بادرتها بابتسامة ألحقتها بسؤال: "ما اسمك؟"، أجابت بحروف متقطّعة "عديلة". سألتها عمّا تفعله هنا، ردّت بكلمات مبهمة لم أفهم منها سوى ”عمّتي حمامة“. خمّنت أنها في انتظار رجوع عمتها، فقررت الانتظار معها.
ما لبثتْ أن أشارت عديلة بيدها صوب امرأة قادمة، ترتدي عباءة يغطّيها الغبار والتمزّقات. اقتربت مني بفزع ظاهر، فسألتها: ”هل أنت حمامة؟“، هزّت رأسها؛ نعم. ”وهل هذه ابنة أخيك؟“، قالت ”لا“. ثم حكت لي سريعًا مجمل قصتها التي جعلتني أتوق إلى زيادة التعرف على تفاصيلها. سألتها عن مسكنها، فأشارت إلى مكان يبعد أمتار قليلة. قالت: ”هناك“. طلبت منها أن تدلّني على المكان، فطلبت مني أن أتبعها، وتبعتها بقلب خافق.
تحت جناح حمامة
وصلنا إلى البيت؛ باب ضيّق يُفتح على ممر مظلم تنضح جدرانه بالرطوبة وتفوح منه رائحة العفونة. تتصل بالممر حجرة صغيرة خالية إلا من فراش لصق الجدار. اعتذرت حمامة عن عدم تقديم واجب الضيافة. ”بعنا دبّة الغاز لشراء علاج لعديلة“. افترشنا الأرض وبدأت تروي حكايتها.
اسمها حمامة عبده (54 سنة) من مديرية وصاب العالي بمحافظة ذمار. توفي زوجها قبل خمس سنوات بعد مرض طويل أنهك جسده وأرهق أسرته. ”قضى زوجي 11 سنة يلازم الفراش“، يتقلّص وجهها وتتذكر: ”عشت الأهوال في مرضه".
كانت حمامة في عمر الثالثة عشرة حين تزوجت، وكان زوجها يكبرها كثيرًا في السن، وله تجربة زواج سابق انتهت دون إنجاب أطفال. عمل لسنوات في السعودية، ثم مرض وعاد إلى اليمن ليموت فيها. قبل وفاة زوجها بقليل، توفيت أم حمامة، بينما والدها عاجز يلازم فراشه وقريته. لها أخت تسكن على مبعدة منها، وأخوان، أحدهما بعيد هو الآخر، والثاني مريض.
عن علاقتها بعديلة قالت حمامة في سياق حديثها لـ"خيوط": "هي ابنة شقيق زوجي. طلق زوجته فرحلت وتركت عديلة، ولم تكن تتجاوز الثالثة من عمرها، وشقيقتها ليلى، التي تصغرها بسنتين، فقررت التكفل بتربيتهم". وهذا ما كان. أخذت حمامة الطفلتين لتنضما إلى جهاد، الأخ غير الشقيق لهما. تبنّته حمامة حين كان عمره 7 أشهر فقط، بعد أن يئست من الإنجاب. غير أن تربيتهم لم تكن بالأمر الهين. فهناك هجران الأم، وتنصّل الأب من المسؤولية. ”أمهم في البلاد (القرية)، والدهم تزوج ولا يسأل عنهم“، وهناك المرض أيضًا. كانت الطفلة الصغرى تعاني نوبات الصرع، ولم تكن حمامة تملك أجور المواصلات لإسعافها. "كنت أضطر لحملها إلى المستشفى على ظهري.“ تقول الأم التي كرست حياتها لثلاثة أطفال لم تلدهم. أما عديلة فكانت في حال أسوأ من أختها. كانت تعاني من تشنجات، وقال الأطباء إنها تعاني ضمورًا في الدماغ نتج عن سقوطها على رأسها حين كانت رضيعة. وهي في غمار ذلك كله، كانت حمامة تعتني بزوجها المريض. ”كان يدخل في غيبوبة تستمر عدة أيام، لا يكاد يصحو منها إلا ليعود إليها“.
طلبتُ منها إضاءة النور، فاعتذرت: ”لا نملك لمبة، صار سعرها 1500 ريال“. أحضرتْ كشافًا صغيرًا، وعلى ضوئه الشحيح لمحتُ السقف الخشبي الذي يرشح منه الماء
الصندوق الخاوي
تعيش حمامة وأسرتها على مساعدات الآخرين. من حين إلى آخر يدق شخص ما الباب، يعطيهم بعض المؤن الغذائية، وربما بعض المال، تدّخره حمامة لشراء الأدوية لعديلة. "كل خمسة أيام تحتاج إلى أدوية بقيمة خمسة آلاف ريال، إذا لم تتناول أدويتها تصيبها نوبات من التشنجات الحادة؛ يتصلّب جسدها وتفقد السيطرة عليه“. تقول حمامة. سألتها: "وماذا عن صندوق المعاقين؟"، قالت: ”قبل سبع سنوات كانوا يصرفون بعض العلاجات، أما الان لا علاج ولا تموين، نعيش على مساعدات المحسنين، أعمل أحيانا في خدمة البيوت، أحمل أكياس البر على رأسي وأذهب به إلى الطاحون". تشقّقات كفيها تؤيد كلامها. تتابع حديثها عن ذهابها لطحن حبوب البُرّ: ”أقطع المسافة سيرًا على الأقدام توفيرًا لأجرة المواصلات التي يعطونني إياها". تشير إلى كرسي عديلة المتحرك وتضيف: ”شخص ما طرق الباب وأعطانا إياه. قال إنه كان مريضًا وشفي، وأنه سأل عن المحتاج فدلّوه علينا، كما أعطانا بعض المال".
مهددون بالطرد
طلبتُ من حمامة أن تجول بي في أرجاء المكان. إلى الأمام بضع درجات تفضي إلى السطح، على اليسار ممر آخر أشدّ ظلمة. طلبتُ منها إضاءة النور، فاعتذرت: ”لا نملك لمبة، صار سعرها 1500 ريال“. أحضرتْ كشافًا صغيرًا، وعلى ضوئه الشحيح لمحتُ السقف الخشبي الذي يرشح منه الماء. ”في موسم الأمطار يغرق البيت بالماء“ قالت. حتى هذا المسكن المتهالك لم تعد حمامة وعيالها يملكونه. ”البيت محجوز في المحكمة، إخوة زوجي يطالبون بنصيبهم فيه، طالما ساعدهم زوجي وصرف عليهم وتحمل تكاليف زواجهم، وها هم الآن يحاولون طردنا من البيت“.
تبرز امرأة حبلى من بين الظلام، تُعرّف عن نفسها بأنها زوجة جهاد، يتبعها طفلان: ولد في الخامسة وبنت في الثانية من العمر. فهمت أنهم يقيمون مع حمامة، أما عن مصدر دخلهم فلا يوجد. "بعد الحرب أصبح زوجي عاطلا عن العمل". قالت زوجة جهاد. ”وكيف تتدبرون أمركم؟“ سألتها، قالت: "نأكل جَمعة"، أي مجتمعين على مائدة واحدة.
شفيت ليلى من الصرع، تزوجت وسافرت قبل عام، أي في (2019). أما عديلة (20 سنة)، فقد يئس الأطباء من شفائها، ولا يملكون لها إلا الأدوية المهدّئة لحالتها. أدوية باهظة الثمن تتجاوز قيمتها 30 ألف ريال شهرياً، تجهد حمامة في جمعها من الصدقات.
اجتمعوا كلهم في الحجرة، جلسوا على مسافات متقاربة، تأملت وجوههم؛ امرأة حبلى، طفلان، فتاة مريضة مقعدة، وامرأة بقلب هدته أعباء السنين وما يزال يتسع للجميع. اختلفت ملامحهم، وتشابه الحزن الذي يكسوها، يتشاركون القلق والفقر والمرض، ومسكنٌ غير صحي ينذر بالمزيد من المرض، والشارع هو البديل والمصير المتوقع تحت رحمة الفقر والحرب.